البحث عن بطل

تعددت رموزه وأسماؤه في عباءة الأساطير والتاريخ

البحث عن بطل
TT

البحث عن بطل

البحث عن بطل

في كتاب «البحث عن منقذ» للباحث فالح مهدي شرح مفصّل عن الشعوب التي ترزح تحت نير الظلم والإذلال، وكيف تعلّق أمرُ خلاصها برقبة منقذ تستعير اسمه من أساطين الدّين، تنتظر عودته إلى الحياة عن طريق البعث أو النشور، كي يحقّق العدل الغائب عن وجه الأرض، ويعوّض ناسها ما فاتهم من عيشة هانئة مستقرّة. اكتسى هذا المخلّص عبر مراحل التاريخ بجلابيب أسماء عديدة، منها «كريشنا» المنتظر في الديانة الهندوسيّة، و«بوذيستاوا» أي «بوذا» المنتظر، و«ماهافيرا» المنتظر في الديانة الجاينيّة، و«زرادشت» المنتظر في المجوسيّة، وفي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة لدينا المسيح المنتظر والمهدي المنتظر وإسماعيل المنتظر والسفياني المنتظر واليمانيّ المنتظر والقحطانيّ المنتظر.

تعود هذه الفكرة في الأصل إلى اعتقاد دينيّ قديم مفاده أن الشرّ لا يمكن مواجهته من خلال البشر الفانين؛ لأن كلّ ما يأتي به الشّيطان لا يُهزم بالفعل البدنيّ، ويحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالقوى الإلهيّة. وعلى الجميع لهذا السبب المحافظة على تقاليد دينهم وتعاليمه؛ لكي يستعجلوا هذه القوى، وإلّا فهم يقضون حياتهم في حالة انتظار دائم.

هو ليس انتظار اللاشيء، حتماً، لكنّه انتظار من أجل حبّ الانتظار، يعيش المؤمن في ظلّه في حالة وجْد لا يفتُر، يكون الزمن فيه مجمّداً عند المستقبل الأزليّ واللانهائيّ. هل جرّبتم العيش دون حاضر أو ماضٍ؟ عندما تغيب الحيوات والانفعالات والمشاعر «الصعبة» أي الحقيقيّة من المرء، يحلّ اليأس التامّ والمُطلق، وهو أحد شروط تحقيق ما يُدعى بالنيرفانا لدى البوذيّين، الخطوة الأولى في سبيل عودة «بوذا» المنتظر إلى الظهور، ويختلف الأمر كثيراً أو قليلاً بالنسبة إلى بقيّة المخلّصين. ثم يغيب الماضي كذلك، وتختفي معه أحداثه، ويبقى الوقع الأهمّ هو ظهور المُنقذ في القادم من الأيّام والشهور والسنين، وربما حلّ الموعد والمرء نائم في قبره، ويستيقظ عندها ليجد العدل والإنصاف يعمّان الأرض، ويتمّ القصاص من الأشرار والمجرمين والمفسدين.

عندما يتوقّف الدماغ تنشط آلة الخيال، ردّ فعل طبيعيّ لحالة الفقد والحرمان والإذلال، لكنّه خاصّ ببني الإنسان، وهو بالأحرى عقل مرَضيّ مُشِلّ للنّفس والبدن يؤدّي بنا إلى الجنون وخراب الدّيار. الانتظار يولّد انتظاراً آخر، ولا يوجد شيء اسمه فوات الأوان. كما أنّ الخضوع يتبعه انحناءٌ تحت نير جديد. يقول ألبير كامو: «الأمل، عكس ما نظنّ، يُعادل الرُّضوخ. والحياة هي في عدم الرُّضوخ». من فكرة المُنقذ المنتظر جاء حُلم الشعوب المقهورة والضعيفة بالبطل المُرتجى، تبحث عنه كي تؤلّهه، ولن تُرفع إليه الأبصار إن كان حيّاً، وإذا كان ميّتاً تُعينهم ذكراه على تحمُّل الضَّيم الذي يكابدونه. في كلّ بلد ضعيف لا بدّ أن يكون هناك بطلٌ يلجأ إليه الفقراء والبُؤساء، يرسمون له الأساطير التي لا تحكي الواقع بطبيعة الحال، لكنّها تعكس حالة الضعف والخَوَر اللّذيْن يستلبان نفوس المؤمنين بمنقذهم، الذين يُغالون في تبجيله إلى درجة أنهم ربما راحوا يتطلّعون إلى صورته منقوشة على صفحة القمر، وهذا ما جرى حقّاً وفعلاً للعراقيين إِثْرَ مقتل عبد الكريم قاسم على أيدي انقلابيّي «8 شباط»، ثم قام هؤلاء برمي جثمانه في النهر، كي يتخلّصوا من حُبّ النّاس وتقديسهم، فانتقل هذان الفعلان إلى السماء، بعد أن لم يعثر مُريدوه على أثر له على الأرض، وصاروا يتطلّعون إلى صورته في اللّيالي القمراء، والبعض منهم تفيض عيونه بالدُّموع.

لا يُشترط في البطل أن يكون غائباً، أو لديه صفات هذه المرتبة الخارقة من القدسيّة والبطولة، بل يمكن أن يكون أحد الذين يعيشون بيننا، أو شخصاً غريباً وقَدَرِيّاً يُرفع إلى هذه المكانة عنوة، ولا يستطيع التراجع عنها لأنّ في ذلك خطراً يتهدّد حياته، فهي صارت أوّلاً وأخيراً بأيدي مريديه. هناك نوع من اشتباك مصائر يعيشه الطرفان: الجماهير تنظر إلى البطل على أنّه حامي ديارها وأرواحها من الخراب والفناء، والمنقذ يتطلّع بدوره إلى هؤلاء، في سبيل بقاء الصفات المبجّلة التي أسبغوها على شخصه.

فكرة البحث عن قائد مظفّر تتوّجه أكاليلُ المجد والغار قديمة لدى الإنسان، وجديدة أيضاً. الأرض تدور كلّ يوم، وفي كلّ سنة من أعمارنا، في شرقنا (السعيد) ثمّة بطل دَوْماً. عندما يغيب العدل في المجتمع يحتاج كلّ جيل إلى ابتكار مُنقذ جديد، من مزاياه أنّه ليس مخلّداً مثل رموز الأساطير الدينيّة، بل هو كائن حيّ له عمرٌ لا يتجاوز عمر البشر، يتمّ دفنه بعد فنائه ليولد بطلٌ جديد يعيش مع الأبناء إلى المحطّة الأخيرة، يترجّل بعدها تاركاً مقعده إلى مُنقذ أكثر جِدّة يواكب الرحلة مع الأحفاد؛ لأنّه لا طاقة لنا على العيش دون هؤلاء الفاتحين.

البطل في الحُلم يُقابله إنسان مهزوم ومأزوم في الواقع، هكذا هي القاعدة في علوم الاجتماع والطبّ والنفس، والفارق بين الاثنين كبير إلى درجة أن الناس يعيشون في ظلّ منقذهم في حال من الرِّقّ الجماعيّ، بكلّ ما في قوّة أنظمة الاسترقاق القديمة من سلطة القانون، وما كانت تحمل من أغلال اجتماعيّة وأخلاقيّة. وإن كان الأمر يحصل بصورة غير ظاهرة للعِيان، لكنّ شكل الحياة الأخير مطابق لذلك الناتج من حالة الاستعباد الجماعي الذي ودّعته البشريّة منذ قرون.

بالإضافة إلى العبوديّة، لا يمثّل البطل في هذا الزمان رمزاً قوميّاً يشدّ من أزر الجميع؛ لأننا نعيش في بلدان متعدّدة الأعراق والمعتقدات والأرومات، ولهذا السبب رحنا نبتكر أكثر من بطلٍ واحد: اثنين أو ثلاثة أو أكثر، يتحوّلون بمرور الوقت إلى أداة للفُرقة، تصيرُ بسبب التشاحن الدائم جزءاً من دمائنا، لتدور عجلة الحرب الأهليّة (الباردة) في البلاد، تدوم طويلاً لأن أسبابها باقية وتتقوّى مع السنين، ويوماً ما سوف تسخن حتماً وتتفجّر إلى هستيريا جماعيّة تستيقظ فيها نوازع الشرّ والتوحّش القديمة النائمة، ويتقاتل عندها الجميع ضدّ الجميع، ليصير الحلّ بتدخّل قوى أجنبيّة (استعماريّة) تُنقذ بقيّة الحياة والعِباد.

عندما تكون حياة الإنسان زهيدة - لأن الشعب عبارة عن مجموعة من الرّقيق - تُرتكبُ أقسى الجرائم بشاعةً. وعندما تكون الحريّة مبذولة، وتسود العدالة الجميع، عندها فقط يختلف وعي الأمة وسوف تجد مُنقذَها من داخلها لا من الغيب. يحتاج الجمهور آنذاك إلى بطل قدوة من نوعٍ ما يتطلّع إلى بلوغ مكانته الجميع، ويحقّق لهم هذه الفكرة الرسّام والموسيقيّ والشاعر والمهندس... مثلما يجري الآن في الأمم المتحضّرة. من هنا جاءت فكرة النجم في المجتمع المستقرّ الهانئ بعيشته، وليس للأمر علاقة بالمال ورأس المال، وغير ذلك من كلام يُضيّق على النفس ويصدّع القلب والرأس.



ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي
TT

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

صدر عن دار «إضاءات» بالقاهرة كتاب «المقاومة في مسرح عبد الرحمن الشرقاوي» للناقدة د. سامية حبيب، الأستاذ بالأكاديمية المصرية للفنون، حيث تناقش واحدة من أهم التجارب الرائدة في المسرح الشعري المصري والتي أبدع فيها الشرقاوي عبر حياته الممتدة من 1921 حتى 1987.

تشير المؤلفة في البداية إلى أن الدراما الشعرية، أي تأليف مسرحية من خلال نص شعري، طرحت منذ وجودها في المسرح العربي عبر القرن العشرين إشكاليات درامية ولغوية وفنية، بداية من محاولات أمير الشعراء أحمد شوقي وعلي أحمد باكثير، والتي يمكن اعتبارها «المرحلة الكلاسيكية»، حيث حاول مثل أولئك الرواد خلق الدراما الشعرية في إطار التقاليد الموروثة لبناء القصيدة العربية. واصطدمت تلك المحاولات بتناقض جوهري بين طبيعة الدراما من حيث هي تغير مستمر في الشخصية الدرامية وفقاً لدرجة تفاعلها مع الموقف الدرامي الذي تتحرك فيه وتعبر عن ذاتها في إطاره بما يعكس تغيرات فكرها وانفعالها ومواقفها الأخلاقية، وبين طبيعة الشعر العربي بما فيه من درجات الثبات والرتابة الإيقاعية في أسلوب البناء التقليدي للقصيدة العربية.

وتلفت الباحثة إلى أن ذلك أدى لعيب جوهري في النماذج الرائدة من الدراما الشعرية، يتمثل في الانفصال بين وسيط الأداء الفني وطابعه الجامد، وبين الموضوع المُشَكَّل داخل هذا الأداء الفني، إلا أنّ هذه المرحلة كانت ضرورية ومنطقية في إنجازاتها الإبداعية في إطار واقعها الثقافي والتاريخي.

وتأتي بعد ذلك مرحلة الثورات الفنية والسياسية في واقعنا العربي وهي فترة الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن العشرين والتي لم يكن هناك مفر من انعكاسها في أشكال التعبير الفني والأدبي، حيث طرأ تغير في بناء القصيدة العربية بما يخلصها من رتابة وحدة البيت والقافية والروي، وأصبح اختيار البحر الشعري خاضعاً لمعنى التجربة أو الانفعال الكامن فيها. كما أن البناء الشعري صار أكثر طواعية لمفهوم الدراما بخصوصيتها من حيث الترابط بين لغة الحوار وطبيعة الشخصية والموقف بما فيه من تغير وتفاعل يمكن أن يستمد من التغير في الإيقاعات الشعرية، وبالتالي يرتبط الشكل بالمضمون والشخصية بالموقف، مما يعد مقدمة فنية لحل التناقض بين الشاعر العربي والدراما.

في إطار هذه المرحلة الفنية التي امتدت حتى اليوم بامتداد الوطن العربي، كتب الشرقاوي إنجازاته الدرامية شعراً، فإلى أي مدى تقني استطاع أن يخلق ترابطاً بين اللغة الشعرية التي كتب بها مسرحه والدراما بوصفها قالباً فنياً اختاره بعد محاولات في القصيدة والرواية والتراجم؟

تجيب د. سامية حبيب عن هذا التساؤل، مشيرة إلى أن فكرة المقاومة تبرز في هذا السياق على خلفية معارك التحرر من الاستعمار الغربي التي عصفت بمصر والعالم العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من خلال اختياره لشخصيات اقترنت في الوجدان العام للعرب ووعيهم بتاريخهم بمواقف ذات أثر كبير في مصير الأوطان والشعوب وبلورة أنماط حياتها وتجربتها الاجتماعية والاقتصادية وأحلامها الممكنة لتجاوز أوضاعها السيئة.

هكذا، يتخير الشرقاوي مادة تاريخية صريحة يعيد بناءها في عالم فني ويضيف إليها وينسج في إطارها المتواري في كتب التاريخ حركة وأحلام الشعوب في إطار تفسيرها واستقراء مكنونها، مستهدياً بالشخصيات البطولية الفاعلة للأحداث والمواقف، والمنتجة في الوقت نفسه للأفكار والمشاعر. وربما يتخير مادة «شبه تاريخية» يستنبطها في ضوء الوقائع والمعلومات التاريخية الصريحة والأكثر ارتباطاً بالقضايا والهموم الجماعية العامة والساخنة بكل ما لها أحياناً من ثقل الحداثة والمعاصرة.

من النوع الأول على سبيل المثال لا الحصر، تصدر مسرحية «النسر الأحمر» بثنائية «النسر والغربان» و«النسر وقلب الأسد» التي تدور حول بطولات صلاح الدين الأيوبي في مواجهة الحملات الصليبية في العصر الوسيط، وكذلك الزعيم الوطني المصري أحمد عرابي زعيم الفلاحين والتي تتناول المخططات الغربية التي انتهت بمحنة الاحتلال الإنجليزي لمصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

ومن النوع الثاني تأتي مسرحيته الأشهر «الفتى مهران»، التي تعتمد على ما تواتر من معلومات تاريخية ووقائع عن الهجمات التترية على المحيط العربي وأرضه وحضارته، وكذلك مسرحية «وطني عكا» التي تتخلق في إطار المواجهات العربية الأكثر حداثة وعصرية منذ حرب 1948 وما تلاها من هزيمة 1967 ثم نصر أكتوبر (تشرين الأول) 1973.

وتبرز «الغنائية» باعتبارها أحد مفردات «مسرح المقاومة» لدى عبد الرحمن الشرقاوي والتي تتمثل على سبيل المثال في لجوء الشخصية إلى مخاطبة الجماعة غير المحددة، أي مخاطبة المطلق الإنساني في نبرة خطابية عالية وبعيدة عن الموقف الدرامي وعن قدرات الشخصية. ومن مثل ذلك قول «جميلة» في نهاية مسرحية «مأساة جميلة»:

«جميلة: أيها الأحياء في عصر الحقوق البشرية، أوقفوا تلك المآسي الهمجية

أوقفوا هذا العذاب

نحن من لحم ودم، لا جلمود من رخام

نحن لا نبحث عن مجرد البطولة

إننا نطلب أن نحيا كما يحيا سوانا»

وتخلص الكاتبة إلى أن تأثر الشرقاوي بغنائية شوقي وباكثير، كان واضحاً، لكنه استوعب ذلك بوعي، ساعده في هذا موهبته الشعرية الكبيرة، مما جعل تجربته تحمل إضافات لا سبيل إلى إنكارها، مثل تحرره من اللغة الكلاسيكية ذات البعد الواحد وطرحه لغة جديدة مستوحاة من العصر وتعكس ما فيه من حيوية وتناقضات وانفعالات وصراعات.