لم يكن من قبيل الصدف أن يختار وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن «إذاعة فرنسا الدولية» التي تمولها الحكومة من أجل توضيح الموقف الأميركي بشكل لا لبس فيه ولإيصال رسالة غير مباشرة لباريس التي تعد من «الصقور» في موضوع إزاحة الانقلابيين وإعادة الانتظام الدستوري إلى النيجر. ولخص بلينكن موقف بلاده بجملة بالغة الوضوح وجاء في حرفيتها: «من المؤكد أن الدبلوماسية هي السبيل المثلى لإيجاد حل لهذا الوضع (الإنقلابي في النيجر)».
هذا هو نهج المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، وهذا هو نهجنا ونحن ندعم جهودها لاستعادة النظام الدستوري. وقرنت واشنطن القول بالفعل إذ كانت الجهة الغربية الوحيدة التي أرسلت أحد ألمع دبلوماسييها بشخص فيكتوريا نولاند، نائبة وزير الخارجية، (الاثنين) إلى نيامي للقاء الانقلابيين. ورغم أن محادثاتها لم تشمل زعيم الانقلاب أي رئيس المجلس العسكري الجنرال عبد الرحمن تياني ولا الرئيس المخلوع محمد بازوم وقولها إن مناقشاتها كانت «صريحة وصعبة»، فإن دخول واشنطن مباشرة على خط الأزمة سيكون له تأثير كبير خصوصاً على توجهات «إيكواس» التي تعقد قمتها الخميس في العاصمة النيجيرية لتقرر الخطوات اللاحقة.
من هنا، ووفق ما تؤكده مصادر أوروبية في باريس، فإن الخطة العسكرية التي أعدها رؤساء أركان جيوش 11 دولة من النادي الأفريقي «ستوضع في الثلاجة بانتظار جلاء النتائج التي ستفضي إليها الاتصالات القادمة من أجل إيجاد حل سياسي ــ دبلوماسي» للأزمة الراهنة. ولأن القادة الأفارقة اعتبروا أساساً أن الخيار العسكري هو «الملاذ الأخير»، فإن أصواتاً متعددة، دولية وإقليمية، تنادي بعدم التسرع وبالتنبه للتبعات الخطيرة المترتبة على تدخل عسكري غير مضمون النتائج.
وثمة توافق على أن اللجوء إلى السلاح في بلد كالنيجر يعاني من صعوبات اقتصادية وسياسية وأمنية، يمكن أن يفضي على المدى البعيد إلى فشل سياسي حتى لو نجح في إعادة بازوم إلى السلطة نظراً للدعم الظاهر الذي يتمتع به الانقلابيون.
وبما أن النجاح الميداني غير مضمون، فإن الخطر الأكبر أن يتحول التدخل العسكري إلى حرب إقليمية بين «معسكر إيكواس» و«معسكر الانقلابيين» في حال نفذت مالي وبوركينا فاسو تهديدهما، ودخلتا طرفاً في الصراع إلى جانب نيامي.
ولا شك أن أمراً كهذا لن يبقى محصوراً في النيجر، بل سيتمدد وسيضرب الاستقرار الهش أصلاً في منطقة «غرب أفريقيا» تفتقر أساساً للاستقرار ما من شأنه أن يعمق الانقسامات.
وفي أي حال، فإن حرباً قد تطول ستوقع ضحايا بريئة، وستعيد النيجر سنوات إلى الوراء. بيد أن هناك نتيجتين رئيسيتين لا بد من التركيز عليهما، وفق الخبراء: الأولى، أن الحرب ستوفر لميليشيا «فاغنر» وروسيا من ورائها، الفرصة الذهبية لتوسيع حضورها في منطقة الساحل بحيث تبدو الجهة الكفيلة بمجابهة الغربيين وما يجرونه وراءهم من ذيول ذات صبغة استعمارية. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن لهيئة الإذاعة البريطانية أمس إن «فاغنر» وروسيا تعملان على استغلال الانقلاب في النيجر... مضيفاً أنه حيثما حلت «فاغنر» فإنها تحمل الموت والدمار والاستغلال. والثانية، تمكين التنظيمات الإرهابية من الاستفادة من الفوضى التي ستولد من رحم الحرب.
ووفق ما أصبح معلوماً، فإن الحرب والفقر يشكلان المزيج الذي يدفع بشرائح من المجتمع إلى الهجرة باتجاه أوروبا وهو ما لا تريده القارة القديمة بل تسعى لتجنبه من خلال السعي لإبرام اتفاقات كالتي عقدها الاتحاد الأوروبي مؤخراً مع تونس لتعمل على منع المهاجرين من مغادرة الشواطئ الأفريقية باتجاه أوروبا.
ويوم الاثنين حذر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون من التدخل العسكري الذي رأى فيه تهديداً لأمن الجزائر. ونقلت صحيفة «النهار» الجزائرية عنه قوله إنه «تجب العودة إلى الشرعية الدستورية في النيجر، وندعو لحل سلمي للأزمة في هذا البلد، ونحن مستعدون لتقديم المساعدة في حال طلبوا منا ذلك». وكشف النائب في البرلمان سليمان زرقاني أن بلاده بعثت «برسائل إلى مجموعة (الإيكواس) وفرنسا وغيرها ممن يلوحون بالتدخل العسكري (لتبلغهم) أنها ترفضه رفضاً قاطعاً».
وتتشارك الجزائر والنيجر بحدود بطول ألف كلم. وهاجم النائب الجزائري فرنسا التي «تعمل على فرض التدخل العسكري في النيجر، لحماية مصالحها الكبيرة هناك، لذلك هي من تضغط وتحرك (الإيكواس) من أجل إجبار قادة الانقلاب على التراجع عن تحركهم أو العمل على التدخل العسكري لإعادة السلطة للرئيس محمد بازوم». واستبعد النائب المذكور حدوث «تدخل عسكري مباشر، بسبب وجود كل القوى الكبرى في العالم في أفريقيا، ولأن أي تدخل عسكري سيستدعي تدخل روسيا والصين بطريقة أو بأخرى، وهذا الأمر ما لا تريده كل الدول المؤثرة في النيجر». والحل بالنسبة للجزائر يقوم من خلال «طاولة الحوار هي الحل في النيجر، لكن يجب أن تكون تحت رعاية الدول الفاعلة خصوصاً الأفريقية منها، لأنه كلما كان الحل أفريقيا دون تدخل خارجي كان الحل فعالاً وواقعياً». قد تكون العلاقات المتوترة راهناً بين باريس والجزائر سبباً في الهجوم الإعلامي على فرنسا، لكن التحذير من الحرب ترجع أصداؤه في بلدان أوروبية مثل روما وبرلين... وغيرهما. وفي غرب أفريقيا ومنها نيجيريا تحديداً.
حتى اليوم، يبدو أن الانقلابيين ماضون في تثبيت أقدامهم في الحكم؛ إذ أقدموا على إجراء حركة مناقلات داخل القوات المسلحة، وعينوا قائداً جديداً للحرس الجمهوري، وسموا رئيساً للحكومة ذا خلفية اقتصادية. ومع كل يوم يمر، يبتعد احتمال التخلص منهم، بحيث يتجه الوضع نحو استعادة السيناريوهات التي حصلت في مالي وبوركينا فاسو اللتين شهدتا 4 انقلابات عسكرية أفضت إلى سيطرة العسكر على السلطة فيهما. وجرى لاحقاً غض النظر عنهما مقابل وعود بإجراء انتخابات عامة يعود معها المدنيون إلى الحكم، وهو ما لم يتحقق حتى اليوم.