تفجير مطار الجزائر... «قراءة» في اعترافات المنفّذين

دبلوماسيون بريطانيون: الهجوم يؤكد التحول المتنامي نحو الراديكالية في «جبهة الإنقاذ» وكسوف فرع الجزأرة (2 من 3)

قاعة مطار الجزائر الدولي بعد تفجيرها في أغسطس 1992 (غيتي)
قاعة مطار الجزائر الدولي بعد تفجيرها في أغسطس 1992 (غيتي)
TT

تفجير مطار الجزائر... «قراءة» في اعترافات المنفّذين

قاعة مطار الجزائر الدولي بعد تفجيرها في أغسطس 1992 (غيتي)
قاعة مطار الجزائر الدولي بعد تفجيرها في أغسطس 1992 (غيتي)

في 26 أغسطس (آب) 1992، شهدت العاصمة الجزائرية تفجيراً كبيراً استهدف مطار الجزائر الدولي، مطار هواري بومدين، وكان مؤشراً واضحاً إلى أن البلاد تتجه نحو مرحلة جديدة من المواجهة بين قوات الأمن والإسلاميين المتشددين. لم يكن تفجير المطار أول هجوم يقوم به مناصرو «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» منذ إلغاء الانتخابات التي كان حزبهم على وشك الفوز بها قبل إلغاء نتائج دورة الاقتراع الأولى في يناير (كانون الثاني) 1992. لكنه مثّل بالتأكيد البداية الفعلية لما بات يُعرف في الجزائر بـ«العشرية السوداء» أو «العشرية الدموية» التي استمرت طوال حقبة تسعينات القرن الماضي وأسفرت على آلاف الضحايا.

لم يكد يمرّ شهر على تفجير المطار الذي تسبب في مقتل 9 أشخاص وجرح أكثر من 118 آخرين، حتى تمكنت أجهزة الأمن من كشف الخلية المتورطة به. كان المسؤول الأساسي في الخلية هو حسين عبد الرحيم، الرئيس السابق لمكتب عباسي مدني رئيس «جبهة الإنقاذ» والنائب السابق عن هذا الحزب الذي تم حظره بعد إلغاء المسار الانتخابي. اعتُقل عبد الرحيم مع مجموعته التي ضمت رشيد حشايشي، وهو قائد طائرة في الخطوط الجوية الجزائرية ومسؤول «النقابة الإسلامية» والسعيد شوشان وهو نائب رئيس إحدى بلديات العاصمة. بث التلفزيون الجزائري اعترافاتهم، كما فعلت الصحف الجزائرية. نال عبد الرحيم نفسه حكماً بالإعدام في مايو (أيار) 1993 - وتم تنفيذ الحكم به مع أربعة آخرين من المدانين معه.

في هذا الإطار، تكشف الوثائق الحكومية البريطانية التي تنشرها «الشرق الأوسط» عن نظرة الجانب البريطاني في خصوص قضية تفجير المطار بناءً على تقرير من سفارة المملكة المتحدة في العاصمة الجزائرية كتبه القائم بالأعمال كيث بلومفيلد الذي تولى لاحقاً منصب رئيس قسم سياسة مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية في لندن قبل الانتقال للعمل سفيراً في نيبال. قدّم التقرير الذي كُتب عقب بث اعترافات المتهمين على التلفزيون وقبل تنفيذ الحكم بهم، عرضاً لأبرز ما قالوه وتحليلاً لإمكان أن يكون ما جاء على لسانهم تم بناءً على التعذيب. ويخلص التقرير إلى أن هناك «تحولاً متنامياً نحو الراديكالية» في «جبهة الإنقاذ» و«كسوفاً لفرع الجزأرة الأكثر اعتدالاً»، بحسب التوصيف البريطاني للتيارات التي يتألف منها هذا الحزب الإسلامي. ويضيف أن الاعترافات تؤكد «خطورة الحديث عن (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) وكأنها كل متجانس».

ناشطون في النقابة الإسلامية للعمل القريبة من الجبهة الإسلامية للإنقاذ خلال تجمع في العاصمة الجزائرية عام 1991 (غيتي)

وفي هذا الإطار، يسلّط التقرير الضوء على بعض مكونات «جبهة الإنقاذ»؛ بناءً على ما ورد في «اعترافات» منفّذي تفجير المطار، محاولاً تحديداً تفسير سبب «توريط» قادة في الجبهة تم طردهم منها أو تجميد عضويتهم فيها خلال «مؤتمر باتنة» في صيف عام 1991. فقد تضمنت «الاعترافات» المزعومة التي بثّتها الحكومة الجزائرية اسمَي قياديَين في «الإنقاذ»، هما الهاشمي السحنوني وعزوز الزبدة، على رغم أنهما أُبعدا من هذا الحزب بزعم أنهما من «الخونة» الذين يتعاملون مع الحكم الجزائري. كما تضمنت المزاعم نفسها اسمي قياديين آخرين، هما سعيد مخلوفي و(أكس) (تم تعريفه بالاسم في الوثيقة البريطانية). وفي حين أن مخلوفي، الذي توفي على الأرجح عام 1993، كان معروفاً بدعمه تياراً متشدداً في «الإنقاذ» ينادي بالمواجهة مع السلطة الجزائرية وشكّل (مع آخرين) جماعة «حركة الدولة الإسلامية»، فإن الآخر (أكس)، فيُعرف أنه ذهب إلى باكستان وأقام علاقات مع إسلاميين جزائريين شاركوا في الجهاد الأفغاني، ولجأ لاحقاً إلى دولة أوروبية. والمزاعم في شأنه التي وردت في اعترافات منفذي هجوم المطار والتي حللها تقرير السفارة البريطانية، لا تعني بالطبع أنها صحيحة أو تُشكّل دليلاً ضده أمام القضاء في الدولة التي يقيم فيها.

في أي حال، استبق التقرير البريطاني، في واقع الأمر، ما سيحصل مع «جبهة الإنقاذ» في السنوات اللاحقة. فقط تشظّت هذه الجبهة إلى جبهات. فقادتها السياسيون، الذين تمثّلوا على وجه الخصوص بعباسي مدني ونائبه علي بن حاج، كانوا يقضون عقوبات بالسجن (أو الإقامة الجبرية). في غياب هؤلاء، انقسم حزبهم إلى أكثر من تيار. منهم من شكّل «الجيش الإسلامي للإنقاذ» وتحوّل إلى العمل المسلح. ومنهم من انخرط في جماعة مسلحة تُطلق على نفسها «حركة الدولة الإسلامية»، في حين التحق آخرون بـ«الجماعة الإسلامية المسلحة». فرضت هذه الجماعة الأخيرة نفسها، بحلول عام 1994، القوة المسلحة الأكبر بين الجماعات الجزائرية. لم تكن الأكبر فقط، بل كانت أيضاً الأكثر دموية والأكثر تطرفاً.

تحليل بريطاني لاعترافات منفذي هجوم مطار العاصمة الجزائرية عام 1992 (الشرق الأوسط)

فماذا جاء في التقرير البريطاني بخصوص اعترافات المتهمين بتفجير المطار؟

مطار هواري بومدين... اعترافات المتهمين

في 19 أكتوبر (تشرين الأول) 1992، كتب القائم بالأعمال البريطاني في الجزائر ك. ج. بلومفيلد تقريراً إلى آر. جينر في قسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية جاء فيه:

اعترافات قنبلة المطار

1- ربما ستجدون من المفيد الحصول على تحليل أكثر تفصيلاً للاكتشافات المختلفة (التي عُرضت) على التلفزيون أخيراً في خصوص الإرهاب الإسلامي في الجزائر.

2 - قبل النظر إلى ماذا تقول فعلاً هذه الاكتشافات، من المجدي التساؤل عما إذا كانوا الإرهابيين الحقيقيين، وما إذا كانت اعترافاتهم حقيقية. في العالم العربي (وفي أماكن أخرى) «الاعترافات» التي يتم تنظيمها هي سلاح دعائي شائع، وفي حالة مفجّري مطار الجزائر، الروابط المتعددة بين «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» والإرهابيين تبدو ملائمة جداً لأغراض النظام كي تكون موثوقة كلياً. وعلى رغم محاولات «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» لتشويش الصورة (مثلاً من خلال إشاعات تفيد بأن أحد الذين ظهروا على التلفزيون إنما هو ميّت منذ أسابيع عدة نتيجة التعذيب)، فإن الشعور هنا - على رغم ذلك - أن حسين عبد الرحيم والمتآمرين معه حقيقيون. نعرف على سبيل المثال أن عبد الرحيم انتُخب نائباً عن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» عن (دائرة) بوزريعة في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991، واستطعنا أن نؤكد أنه كان حقاً في ديوان (عباسي) مدني.

3- أما في خصوص هل الاعترافات تم التلاعب بها، فإن الجواب هو «نعم» مشددة. على رغم مزاعم التعذيب، الطريقة التي تحدث بها الأشخاص لم تظهر وكأنها أداء كلاسيكي ناتج من التعذيب. ولكن الاعترافات، على رغم ذلك، يمكن أن تكون انتُزعت في مقابل وعود بالرأفة، وهناك من يعتقد أنهم صُوّروا بكاميرات مخفية. ومن الغريب أيضاً أنهم في حين زعموا مسؤوليتهم عن تفجيرات سابقة، لم تكن هناك إشارة إلى الموجة الثانية من تفجير الطائرات في 23 سبتمبر (أيلول) - والتفسير المحتمل لذلك، أن الاعترافات التي بثها التلفزيون تم تصويرها قبل 23 سبتمبر. أما لجهة طريقة تقديم الاعترافات، سواء عبر التلفزيون أو لاحقاً عبر الصحف، فإن ذلك بلا شك كان منظماً من وراء الستار. كل أنواع الخلاصات تم استنتاجها، وكثير منها غير مبرر كلياً من خلال ما قيل حقاً (في الاعترافات). ومن الجدير الإشارة إلى أنه لم يكن في أي مكان من نص الاعترافات التالي: أولاً: أي إشارة إلى أن (قنبلة) المطار أو تفجيرات أخرى تمت بأمر من «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» (عبد الرحيم قال إن الفكرة فكرته هو). ثانياً، أي إشارة إلى أن «التيار الأساسي» في قيادة «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» (أي في مقابل القادة السابقين الذي تشوّهت صورتهم) كان له أي اتصال بمجموعات عنيفة قبل انقلاب يناير. ثالثاً، أي إشارة إلى حكومات أجنبية، أي على عكس أشخاص أو جماعات تعمل على أرض أجنبية، ضالعة في تزويد (المفجّرين) بالمال أو الأسلحة.

طالبات في العاصمة الجزائرية في ظل تصاعد أعمال العنف في بدايات تسعينات القرن الماضي (سيغما - غيتي)

4- ما تم زعمه في الاعترافات هو أن مجموعات إسلامية مسلحة عدة ظهرت خلال فترة تمتع «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» بالشرعية، وأنه كان هناك تنسيق في ما بينها، وأن أربعة من القادة السابقين في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» تم تجميد عضويتهم في مؤتمر باتنة في يوليو (تموز) 1991 (سحنوني (الهاشمي سحنوني)، زبدة (عزوز زبدة)، مخلوفي (سعيد مخلوفي) وأكس) كانوا منخرطين مباشرة في هذه المجموعات، وأن إحداها كانت برئاسة سحنوني نفسه. بعد إلغاء الانتخابات في يناير 1992، قامت قيادة التيار الرئيسي في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، ممثلة بشراطي (يخلف شراطي) ورجام (عبد الرزاق رجام رئيس ديوان عباسي مدني)، والعاملة باسم محمد السعيد، بالاتصال، كما يُزعم، بمجموعة عبد الرحيم وعرضت عليها دعماً مادياً ومالياً ومعنوياً. تم لاحقاً تقديم 200 ألف دينار جزائري من أجل شراء أسلحة. (أكس)، صلة الوصل في فرنسا، كتب أيضاً لعبد الرحيم عارضاً عليه دعم مجموعات في أفغانستان والسودان كانت جاهزة لتزويده أسلحة عبر ليبيا. تمت أيضاً محاولات لشراء أسلحة من المجموعة المسؤولة عن هجوم قمار في نوفمبر 1991 (هجوم قمّار شنه متشددون ضد جنود في الجيش الجزائري في ولاية الوادي الحدودية مع تونس في نوفمبر 1991، أي قبل إلغاء الانتخابات) وفي شكل مباشر من السودان وليبيا.

5- هل هذه الاعترافات جديرة بالتصديق؟ سحنوني وزبدة كلاهما ظهر أخيراً لإعطاء أدلة في المحكمة، في قضية مختلفة، وكلاهما تحدث للصحف. من المثير للفضول أن أياً منهما لم يتم اعتقاله على رغم القوانين الجديدة الشاملة في شكل واسع لمكافحة الإرهاب. في مقابلاتهما الصحافية، نفى كل منهما اتهامات عبد الرحيم. سحنوني، في الوقت الذي رفض فيه أي صلة له بجماعات مسلحة، أوحى بأن مثل هذه الجماعات كانت بالفعل موجودة منذ ما قبل انتخابات 26 ديسمبر بفترة طويلة وأن قيادة «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» التي تولت القيادة بعد يوليو (أي بعد مؤتمر باتنة) فقدت كلياً أي سيطرة عليها. وفي إشارة معبّرة (ذات دلالة)، يسأل لماذا يجب أن تعطيه «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» أي نوع من الأدوار المتعلقة بالكفاح المسلح بعدما تبرأت منه على أساس أنه خائن عقب ظهوره هو نفسه على التلفزيون في يوليو 1991؟ فكيف يمكن أن يكون منسقاً (للتفجيرات) كما زعم عبد الرحيم؟ الزبدة، في حين أنه أقرّ بمعرفته بعبد الرحيم عندما كانا سوياً أعضاء في المكتب التنفيذي لمدني، فإنه ادّعى مسؤوليته عن تنزيل مرتبة عبد الرحيم من «رئيس الديوان» إلى إعطائه مسؤولية النقابات التجارية الإسلامية. وبحسب ما يقول الزبدة، فإن عبد الرحيم كان شاباً لا يتمتع بالخبرة وراديكالياً متشدداً. وهكذا يبدو من المعقول أن عبد الرحيم، تحت ضغط لتسمية أسماء (ضالعة معه) وتوريط «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، اختار كضحايا له أربعة من القادة السابقين الذين تم تجميد عضويتهم في الجبهة، وبينهم اثنان تم توصيفهما بأنهما «خائنان» وواحد منهما على الأقل كان له دور في تنزيل مرتبته (في الجبهة).

تجمع لقادة جبهة الإنقاذ في العاصمة الجزائرية عام 1990 (أ.ف.ب.غيتي)

6- هذه النظرية لا تفسر بالطبع لماذا ورّط عبد الرحيم أيضاً فرع الجزأرة في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» (رجام وشراطي) باتهامهما بتمويل جماعات مسلحة بعد إلغاء الانتخابات. أحد الدوافع المحتملة قد يكون شخصياً - فرجام تولى مسؤولية رئيس ديوان مدني عقب تنزيل مرتبة عبد الرحيم - ولكن الأكثر احتمالاً أن عبد الرحيم أراد ببساطة أن يجعل من المستحيل حصول أي نوع من الحوار مع الجناح المعتدل في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ». ومن الممكن حقاً أيضاً أن يكون هذا هو الدافع لتفجير المطار كذلك.

7- لا أريد أن أفترض ضمناً (تلميحاً)، من خلال تقديم هذه النظريات، أن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ليس لها صلة بحملة الإرهاب الحالية. في الحقيقة، رسالتي بتاريخ 7 سبتمبر أشارت إلى التحول المتنامي نحو الراديكالية في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» وكسوف فرع الجزأرة الأكثر اعتدالاً منذ يناير. ولكن من الواضح أن علينا أن نكون واعين لعدم أخذ الاعترافات التلفزيونية على قيمتها الظاهرية. إنها فقط عنصر واحد من صورة معقدة إلى حد ما، ولضرورة التأكيد مرة أخرى على خطورة الحديث عن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» وكأنها كل متجانس.

8- أحد المتفرعات من الاعترافات والشهرة التي تبعتها كان ظهور كمية لا بأس بها من المعلومات الجديدة عن أشخاص في الحركة الإسلامية الجزائرية. نسجّل حالياً بشكل منهجي مثل هذه المعلومات على فهرس بطاقات. سنرسل لكم نسخة عنها في الحقيبة (الدبلوماسية) المقبلة، كما آمل، في حال وجدتم أنها قد تكون مفيدة لكم ولقسم الأبحاث والتحليل في متابعة هذه المسألة الغامضة».

رئيس حكومة سابق في لندن... ماذا لو طلبت الجزائر تسليمه؟

وثيقة بريطانية عن رئيس الوزراء الجزائري السابق عبدالحميد براهيمي

لم يكن استقبال بريطانيا للقيادي في «جبهة الإنقاذ» أنور هدام الإشكالية الوحيدة التي سلّطت الوثائق البريطانية السرية الضوء عليها (راجع الحلقة السابقة). فقد كان هناك «ضيف» آخر على الأراضي البريطانية تخشى الحكومة أن يسبب مشكلة لها مع نظيرتها الجزائرية. إنه عبد الحميد براهيمي، رئيس الحكومة الجزائرية السابق (بين 1984 و1988)، الذي كان محور مراسلات دبلوماسية بين السفارة البريطانية في الجزائر ووزارة الخارجية في لندن.
كانت بريطانيا تخشى أن تقدّم الحكومة الجزائرية طلباً لترحيل براهيمي إليها لمساءلته في قضية المزاعم التي أطلقها عن «اختلاس» 26 مليار دولار من خزائن الدولة الجزائرية نتيجة الفساد خلال حقبة الثمانينات. انشغلت الجزائر في الواقع لفترة طويلة بـ«قنبلة» المليارات المختلسة، وصار اسم براهيمي مرتبطاً بها إلى حين وفاته في أغسطس (آب) 2021 بمستشفى عين النعجة العسكري في الجزائر التي عاد إليها بعدما عاش لسنوات طويلة في منفاه البريطاني. فما قصة عبد الحميد براهيمي ولجوئه إلى بريطانيا في تسعينات القرن الماضي؟
تناول هذه القضية السفير البريطاني لدى الجزائر كريستوفر باتيسكوم الذي كتب، في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 1992، مراسلة (محفوظة في الأرشيف الوطني) موجهة إلى د. ريتشموند، في قسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية، مثيراً قضية ناشطي «جبهة الإنقاذ» في أوروبا.

وثيقة بريطانية عن رئيس الوزراء الجزائري السابق عبدالحميد براهيمي

جاء في الرسالة:
«ناشطو الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أوروبا: عبد الحميد براهيمي
1 - نشر الإعلام الجزائري تكراراً مواضيع على مدى الأيام القليلة الماضية عن رئيس الحكومة الأسبق، عبد الحميد براهيمي، الذي صدر في حقه استدعاء لتقديم أدلته بخصوص مزاعمه العلنية في مارس (آذار) 1990 بأن 26 مليار (دولار) اختُلست من خزائن الدولة من خلال الفساد. وربما تعلم أن براهيمي يعيش منذ بعض الوقت في إنجلترا، حيث يحاضر في الاقتصاد الإسلامي بجامعة ليستر. لقد تقدمت أسرته أمس في السفارة بطلبات للحصول على تأشيرة (ابنته، كما يبدو، حصلت على فرصة عمل في ليستر)، لذلك يبدو أنه يخطط للبقاء (في بريطانيا). أخفق براهيمي، كما يبدو حتى الآن، في الرد على طلب الاستدعاء، رغم – كما تقول وسائل الإعلام – الإعلان الأخير الذي أدلى به رئيس الحكومة (الجزائرية) أمام المجلس الاستشاري الوطني أن الحكومة مستعدة لمنحه كل الضمانات الضرورية. تتكهن الصحف حول ما إذا كانت المحاكم ستصدر استدعاءً جديداً لبراهيمي، وحول ما إذا كانوا سيتركون المسألة تسقط ببساطة، أو ما إذا كانوا سيلجأون إلى الإنتربول (في ظل غياب معاهدة تسليم بين بريطانيا والجزائر).
2 - هذا السؤال كان فعلاً محور نقاش عندما تقابلت مع الوزيرة الجديدة المستشارة للشؤون القانونية والإدارية السيدة بلميهوب - زيداني (مريم بلميهوب) خلال حفلة استقبال أمس. السيدة زيداني لم تطلب شيئاً محدداً مني، وليس من أي أحد آخر حتى الآن، لكنها قالت إنه بما أنه أدلى بهذه المزاعم فإن براهيمي عليه استحقاق أمام الجميع كي يعود ويكشف ما هي الأدلة التي يملكها. واصلت (حديثها) موجهة اتهاماً لبراهيمي بأنه مؤيد بوضوح للجبهة الإسلامية للإنقاذ، معتبرة أن هدف إطلاق مزاعمه عام 1990 كان مساعدة الجبهة الإسلامية للإنقاذ على الفوز بالانتخابات البلدية في يونيو (حزيران). لقد كشف عن لونه الحقيقي أكثر العام الماضي عندما انضم (مع وزير الخارجية السابق الذي يحمل اسم الشهرة ذاته أحمد طالب الإبراهيمي) عضواً في لجنة الدفاع عن حقوق قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ المسجونين. شخصياً، لدي بعض الشكوك حيال تفسيرات السيدة زيداني بما أنني أعربت عن اعتقادي في ذلك الوقت، وما زلت أعتقد، أن المزاعم التي أدلى بها براهيمي لها علاقة بالصراعات الداخلية في جبهة التحرير الوطني أكثر مما هي للترويج للجبهة الإسلامية للإنقاذ. ولكن ليس لدي شك في أنها تعكس وجهة نظر كثيرين من النظام الحالي. ما قالته (الوزيرة الجزائرية) ينسجم مع إيحاءات أخرى صدرت أخيراً في وسائل الإعلام أن الشاذلي (بن جديد) نفسه كان لفترة طويلة يروج سراً للجبهة الإسلامية للإنقاذ بوصفها وسيلة لإبقاء نفسه في السلطة.

الشاذلي بن جديد (غيتي)

3 - إن مثل هذا الكلام لن يشجع بالطبع براهيمي على العودة وربما يفسر لماذا تسعى عائلته بتلهف للحاق به في المملكة المتحدة. آمل ألا تكبر هذه المسألة إلى صراع قضائي من أجل إعادة براهيمي (إلى الجزائر)، ولكن بما أنه ليست هناك حالياً اتهامات حقيقية ضده، فإن هذه المسألة تبدو، في الأسوأ، ما زالت بعيدة حالياً.
4 - ولكن هذا يقود إلى موضوع ربما يكون له اهتمام أوسع (ومن هذا المنطلق تأتي الجهات التي يتم توجيه هذه البرقية لها) – الانتقاد المتصاعد الذي يصدر هنا حيال الدول الأوروبية لإيوائها أعضاء في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المعارضة. زميلي السفير الألماني الجديد أخبرني أنه في كل زيارات اللقاءات التعارفية التي يقوم بها يتم الهجوم عليه من وزراء جزائريين بسبب وجود القادة السابقين للجبهة الإسلامية للإنقاذ في ألمانيا ونشاطاتهم. وسائل الإعلام كانت أيضاً فتاكة في خصوص السهولة التي يحصل فيها ناشطو جبهة الإنقاذ على تصاريح إقامة في فرنسا أو لحصولهم على اللجوء السياسي في بلجيكا. نجت المملكة المتحدة حتى الآن من هذا (الهجوم)، لكنني أتوقع أنها مسألة وقت فقط قبل أن يظهر واحد أو أكثر من القادة السابقين للجبهة الإسلامية للإنقاذ في لندن. بحسب يومية الوطن، قام أصوليون جزائريون بمهاجمة إمام مسجد ريجينت بارك لرفضه أن يخطب عن الوضع السياسي في الجزائر وانتزعوا الميكروفون من يديه كي يتحدثوا عن هذه المسألة بأنفسهم. (هذا يتوافق مع معلومات رأيناها من مصادر أخرى عن نشاطات سياسية تتركز حول المسجد). أوحى السفير الألماني بأن علينا أن نناقش في اجتماع مقبل لسفراء المجموعة الأوروبية سياستنا تجاه إصدار تأشيرات لأصوليين، وأتصور أن هذه المسألة ستثار بين العواصم (الأوروبية) أو من خلال التعاون السياسي في المجموعة الأوروبية.
5 - كما تعرفون، سياستنا بخصوص التأشيرات تختلف عن بعض زملائنا في المجموعة (الأوروبية)، مثلاً الفرنسيون والبلجيكيون، الذين رغم الانتقادات التي توجه لهم يجدون عملياً من السهولة أن يمنعوا ناشطي الجبهة الإسلامية للإنقاذ على أسس سياسية. عندما كتبت عن تبادل سابق بين سفراء المجموعة الأوروبية حول هذه المسألة (المحضر الداخلي بتاريخ 24 مارس، الذي أرسلنا نسخة منه لقسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا)، رد ألان مونتغمري (قسم الهجرة واللجوء بوزارة الخارجية) برسالة بتاريخ 28 أبريل (نيسان) موجهة لي، باستبعاد حتى تبادل المعلومات بخصوص ناشطي جبهة الإنقاذ الذين يتقدمون بطلبات تأشيرة. ربما يكون من الحصافة (الحكمة) أن يتم النظر في إمكانية استحداث بعض المرونة في خصوص هذه المسألة في حال أثيرت هذه القضية من جديد. وبما يتعلق بسياستنا الخاصة، يمكنني فقط أن أقترح أنه يجب علينا أن ننظر بعناية كبيرة لأي طلبات للحصول على تأشيرات من ناشطين معروفين من الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وسنناقش معكم ومع قسم الهجرة واللجوء بخصوصهم متى ما كان ذلك ملائماً، مع الأخذ في الاعتبار احتمال أنه (طلب التأشيرة) ربما يكون الخطوة الأولى في طريق طلب الإقامة أو اللجوء السياسي».
التوقيع باتيسكوم


مقالات ذات صلة

اتحاد الشغل التونسي يدعو لإضراب عام وسط أزمة سياسية متفاقمة

شمال افريقيا جانب من المظاهرة التي نظمها «الاتحاد التونسي للشغل» وسط العاصمة أمس الخميس (رويترز)

اتحاد الشغل التونسي يدعو لإضراب عام وسط أزمة سياسية متفاقمة

أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يحظى بتأثير قوي، عن إضراب وطني في 21 يناير المقبل، احتجاجاً على ما عده «قيوداً على الحقوق والحريات».

«الشرق الأوسط» (تونس)
يوميات الشرق جانب من حفل جائزة التميز الحكومي العربي 2025 (الشرق الأوسط)

السعودية تحصد 6 جوائز في «التميز الحكومي العربي 2025»

حقّقت السعودية إنجازاً جديداً في مسيرة التطوير والابتكار الحكومي، بحصدها 6 جوائز ضمن جائزة التميز الحكومي العربي 2025.

«الشرق الأوسط» (دبي)
شمال افريقيا من مظاهرة سابقة نظمها اتحاد الشغل التونسي في ديسمبر الماضي (أ.ف.ب)

«اتحاد الشغل» التونسي يتظاهر من أجل «مزيد من الحريات»

قاد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، الخميس، مسيرة داعمة للمنظمة النقابية.

«الشرق الأوسط» (تونس)
المشرق العربي مجرى نهر العاصي في منطقة جسر الشغور غربي إدلب وقد بدا جافاً تماماً أغسطس الماضي (أ.ب)

الجفاف يلاحق أنهاراً بالمنطقة... أزمة مناخ أم ممارسات بشرية؟

تقرير يرصد أبرز الأنهار التي تعرضت لعوامل شديدة من الجفاف في المنطقة، إضافة إلى تعليق خبير في الشأن المناخي عن الأزمة وأبرز سُبل الحل.

يسرا سلامة (القاهرة)
رياضة عربية الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر لدى وصوله إلى ملعب افتتاح كأس العرب 2025 (الاتحاد العربي)

افتتاح كأس العرب: دراما ورمزية وحضور عالمي في ليلة غير مسبوقة بالدوحة

في ليلة عربية خالصة، خطفت قطر أنظار الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج، بعدما دشّنت النسخة الحادية عشرة من كأس العرب 2025 بحفل افتتاح استثنائي.

مهند علي (الرياض)

النيات الأوروبية في امتحان التواطؤ وعقدة الذنب والرضوخ للضغوط

أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
TT

النيات الأوروبية في امتحان التواطؤ وعقدة الذنب والرضوخ للضغوط

أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)

عندما دخلت الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الثاني، مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. كان مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية السابق، جوزيب بورّيل، يتناول طعام العشاء في العاصمة البلجيكية مع مجموعة ضيّقة من الصحافيين، وقال: «هذه حرب طويلة قد تنتهي بحصول الفلسطينيين على الدولة، أو تقضي نهائياً على حل الدولتين. لكنها في الحالتين ستكشف ضعف السياسة الخارجية للاتحاد وعجز الدول الأعضاء عن التوافق حول موقف موحَّد من القضايا المصيرية التي تمسّ أمنها بشكل مباشر».

وها هي أوروبا اليوم، بعد عامين على حرب مدمرة رفعها تقرير دولي مستقل إلى مرتبة الإبادة، تقف عاجزة حتى عن فرض الحد الأدنى من العقوبات التجارية التي تطالب بها عدة دول أعضاء وتنادي بأكثر منها الحشود الشعبية التي تخرج كل أسبوع في المدن الأوروبية، احتجاجاً على جمود الحكومات والمؤسسات أمام المجازر والانتهاكات الإسرائيلية.

في الأشهر الأولى من الحرب كان الاصطفاف الأوروبي واضحاً بجانب الموقف الإسرائيلي، خصوصاً من الدول الوازنة، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ومن رئيسة المفوضية، أورسولا فون در لاين، التي كانت تتعرض لانتقادات شديدة بسبب انحيازها السافر إلى جانب إسرائيل، وعدم تجاوبها مع دعوات حكومات إسبانيا وآيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا إلى تعليق اتفاقية الشراكة الموقعة بين الاتحاد والدولة العبرية.

واشتدّت تلك الانتقادات بعد صدور تقرير، وضعته أجهزة الاتحاد، ويؤكد الانتهاكات الإسرائيلية لبنود أساسية في الاتفاقية تتعلق باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. لكن رئيسة المفوضية بقيت على موقفها المماطل، مدعومة من بعض الدول الأعضاء، خصوصاً ألمانيا التي صرحّت غير مرة بأنها ترفض مجرد طرح موضوع العقوبات على إسرائيل، الذريعة التي كانت تلجأ إليها رئيسة المفوضية، رغم انتقادات بعض كبار المسؤولين، هو نظام التصويت المعمول به في اجتماعات المجلس، الذي يقتضي للموافقة على العقوبات أغلبية موصوفة غير متوفرة من غير ألمانيا وإيطاليا والمجر.

لكن بعد صدور التقرير الدولي الذي وضعته مجموعة من الخبراء المستقلين، الذي خلص إلى أن الارتكابات الإسرائيلية في غزة تستوفي شروط توصيفها بالإبادة، وفقاً لأحكام القانون الدولي، وبعد تنامي الاحتجاجات الشعبية في العديد من البلدان الأوروبية، خصوصاً بعد قرار الحكومة الألمانية حظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وجدت رئيسة المفوضية نفسها مضطرة لطرح موضوع العقوبات على إسرائيل، وتعليق بعض بنود اتفاقية الشراكة معها على المجلس.

ويقال إن التغيير الذي طرأ على الموقف الألماني، الذي بدوره دفع فون در لاين إلى تغيير موقفها وقلب المعادلة داخل المجلس، لم يكن غريباً عن التحول في موقف الكنيسة الكاثوليكية الألمانية الوازنة في تحديد مواقف الفاتيكان في القضايا الكبرى.

وكان البابا ليو الرابع عشر أشار، في أول حديث صحافي مطوَّل له كشف عنه، مطلع الشهر الماضي، أن الفاتيكان ليس جاهزاً بعد لاتخاذ موقف رسمي في صدد وصف حرب غزة بالإبادة، ثم أضاف: «يزداد عدد الذين يستخدمون هذا المصطلح، بمن فيهم منظمتان تدافعان عن حقوق الإنسان في إسرائيل نفسها».

لكن بعد طرحها خطة مشتركة لفرض عقوبات على إسرائيل، تتضمن رسوماً جمركية على سلع مستوردة منها كانت حتى الآن معفاة من الرسوم، وإنهاء المعاملة التفضيلية التي تحظى بها الدول العبرية مع شريكها التجاري الأول في العالم، فضلاً عن عقوبات على اثنين من أعضاء الحكومة الإسرائيلية وتجميد أصولهما على الأراضي الأوروبية، ألقت المفوضية الكرة في ملعب الدول الأعضاء الذين سيعود لهم قرار تفعيل هذه العقوبات في المجلس.

ولم يتحدد إلى اليوم موعد مناقشة هذه الخطة في المجلس الأوروبي تمهيداً للموافقة عليها وتفعيلها؛ ما يتركها مجرد حبر على ورق النيات الأوروبية المتأرجحة بين التواطؤ، وعقدة الذنب، والرضوخ للضغوط الإسرائيلية والأميركية التي نادراً ما تخرج دولة أوروبية من شباكها. وعند مشارف انقضاء عامين على مقتلة غزة التي أحدثت تغييراً جذرياً في الخطاب السياسي والشعبي الأوروبي حيال الصراع في الشرق الأوسط، لكن من غير تغيير يُذكر حتى الآن في القرار الرسمي لحكومات الدول الأعضاء، عاد جوزيب بورّيل ليقول في حديث هاتفي من برشلونة: «في غزة، خسر الاتحاد الأوروبي روحه».


رسائل الغزيين في ذكرى الحرب: «يكفينا موتاً وخربان ديار»

فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
TT

رسائل الغزيين في ذكرى الحرب: «يكفينا موتاً وخربان ديار»

فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

مع مرور عامين على الحرب الإسرائيلية على غزة إثر هجوم «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، على المواقع والبلدات الإسرائيلية المحاذية للقطاع، لا يزال الغزيون يدفعون من حياتهم وأعمارهم ثمناً لم يكن لأحد أن يحتمله في ظل مأساة تتفاقم من يوم إلى آخر.

وعلى مدار هذه الفترة، يقف الغزي أشرف الحليقاوي (46 عاماً) من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، والنازح حالياً في دير البلح وسط القطاع، يومياً في طابور طويل للحصول على بعض اللترات من المياه القابلة لـ«الاستخدام الآدمي»، ثم يقف في طابور آخر لساعات إضافية من أجل تأمين مياه الشرب، فيما يتناوب هو وأبناؤه وأحفاده على هذه الطوابير وغيرها من طوابير التكيات التي تقدم بعض الطعام.

ويقول الحليقاوي لـ«الشرق الأوسط»: «حياتنا تحولت إلى جحيم حقيقي، كنا أعزاء في بيوتنا وأصبحنا أذلاء بسبب هذه الحرب القاسية جداً والتي لا تصفها كل الكلمات».

يضيف الحليقاوي بعد تنهيدة طويلة: «نحن هنا نُطحن يومياً على مدار عامين بين طوابير المياه والتكيات والمساعدات، وزحمة الطرق ومركباتها المهترئة التي بالكاد تسير في شوارع باتت وعرة ومدمرة تقسو بكل تفاصيلها على حياة أي مواطن في غزة».

يرى الحليقاوي أنه مع مرور عامين على الحرب، حان الوقت لأن تتوقف هذه «المقتلة» كما وصفها، داعياً «حماس» والفصائل الفلسطينية لترك الحكم والنظر في خيارات يمكن أن تنقذ ما تبقى من السكان وإبقائهم على قيد الحياة، قائلاً: «كل دقيقة تمر هي صعبة وقاسية علينا».

صبي جالس على قبر بينما أقام نازحون فلسطينيون مخيماً مؤقتاً في أرض المقبرة في خان يونس جنوب قطاع غزة 25 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)

أهوال كيوم القيامة

توافق الغزية ناريمان أبو عاصي من سكان حي الصبرة جنوب مدينة غزة، الحليقاوي، الرأي بضرورة أن تقف «حماس» عند مسؤولياتها تجاه سكان القطاع بعدما دفعت بهم إلى حرب لم يرها أي فلسطيني منذ أن وطئت إسرائيل هذه الأرض، كما تقول.

وأضافت أبو عاصي (51 عاماً) وهي نازحة في دير البلح وسط القطاع بعد أن خرجت من مدينة غزة في الأسبوعين الماضيين: «خلال عامين من الحرب شاهدنا أهوالاً كثيرة وكأنها من أيام القيامة، وعشنا ظروفاً لا يتحملها بشر، وحان الوقت لأن تقبل (حماس) بما هو مطروح عليها؛ لأنه لم يعد هناك ما يحتمل أكثر مما احتملناه».

وتشير أبو عاصي إلى أن أكثر فصول الحرب قسوة هو النزوح، قائلةً: «كلمة النزوح قد تكون كلمة عابرة بالنسبة للكثيرين، لكنها بالنسبة لكل فلسطيني في غزة، تحمل كل معاني الألم والوجع الذي يفوق الاحتمال».

وتابعت: «آن الأوان لأن تقف هذه الحرب إلى الأبد حتى ولو تنازلت المقاومة عن سلاحها في سبيل أن نعيش ونواجه ما تبقى من مصيرنا بأنفسنا بعيداً عن حكم (حماس) أو أي فصيل آخر».

وواصلت بغضب ويأس: «يحلّوا عنا (فليرحلوا)، زهقنا وتعبنا، حتى من يموت يرتاح من الهم الذي يتآكلنا. حتى إننا فقدنا الشعور بمن يموت فبالكاد يتسنى لمن يبقى على قيد الحياة أن يفكر بنجاته... تبلّدت مشاعرنا».

أعلنت الأمم المتحدة رسمياً في 22 أغسطس المجاعة في غزة (أ.ف.ب)

الخيارات الضيقة

ويقول الشاب جاسر وادي (33 عاماً)، وهو موظف في القطاع الخاص، من سكان بلدة القرارة شمالي خان يونس ونازح إلى مواصي بلدتهم، إن الحرب أنهكته كما بقية أفراد عائلته، ليس اقتصادياً أو حياتياً فحسب، وإنما حتى جسدياً وصحياً.

ورغم كل هذا الواقع والظروف القاسية، لكن وادي يرى أن تسليم السلاح من قبل «حماس» والفصائل الأخرى، هو بمثابة رفع راية بيضاء أمام إسرائيل بعد كل هذه الدماء والتضحيات الكبيرة التي عانى منها الغزيون، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الخيارات ضيقة أمام الجميع، ونهاية الحرب تبدو مرتبطة بذلك، وحقن الدماء هو السبيل والحل الوحيد لذلك.

وأضاف: «الحياة هنا صعبة وقاسية، وقد تكون فكرة الهجرة مناسبة لكثيرين، لكن هناك أيضاً من لا يزال يرى في غزة المكان الأنسب للحياة، فكل ما نريده هو أن يتوقف قتلنا، ونشعر ببعض الأمان حتى لو أمضينا سنوات أخرى في الخيام».

وتابع وادي قوله: «الحصول على المياه، والطعام، وحتى التنقل في الطرقات لساعات طويلة من أجل الوصول من مكان إلى آخر، أمر منهك. والأطفال بلا مدارس وبلا حياة، أصبحوا يقفون في الطوابير مثل الكبار، أجسادهم منهكة من الجوع والقتل وقسوة الحياة عليهم حتى أصبحوا ينامون باكراً ليس استعداداً للذهاب إلى مدارسهم، بل لجدول طويل من المشقة. كل هذه الصور من المعاناة تفرض على السكان القبول بأي حل من أجل التوصل إلى اتفاق يخفف معاناتهم لكن نهايتها لن تكون سهلة وبحاجة لسنوات حتى يستعيد كل مواطن جزءاً يسيراً من حياته».

وتؤكد مؤسسات حقوقية ودولية أن سكان قطاع غزة يواجهون ظروفاً قاهرة، في ظل نقص المياه والطعام وتراجع فرص العمل، وعدم توفر الأموال، إلى جانب تدهور الواقع الصحي والبيئي الذي يفاقم سوء ظروفهم.

نازحون فلسطينيون في مخيم في خان يونس جنوب قطاع غزة... 29 سبتمبر 2025 (أ.ب)

استغلال التجار والصيارفة

بعض أبناء قطاع غزة ممن لهم دخل ثابت مثل الموظفين التابعين للسلطة الفلسطينية، يعانون بدورهم من عدم توفر السيولة النقدية بسبب تعطل البنوك، الأمر الذي دفعهم لسحب مستحقاتهم من تجار وصرّافين، مقابل عمولة مالية تراوحت خلال الحرب من 20 إلى 50 في المائة أحياناً.

ويقول الموظف في السلطة وسام عودة، من سكان بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة: «اضطرارنا لسحب رواتبنا عبر مكاتب صرافة أو التجار وغيرهم، جعلنا لقمة سائغة لهؤلاء. فقد نهبوا أموالنا بطريقة يرونها مشروعة في ظل تعطل عمل المصارف قسراً بفعل الحرب الإسرائيلية».

وأضاف عودة في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الظروف أنهكتنا اقتصادياً وحولتنا من موظفين كنا نعيش حياة مستقرة نسبياً، إلى أناس بالكاد يملكون ما يسدون به رمق أطفالهم بالقليل القليل مما يتوفر من مواد غذائية».

وأشار إلى أنه يضطر كل شهر لتحويل ما في رصيده البنكي عبر التطبيق الإلكتروني لأحد التجار، مقابل أن يحصل على نحو نصف المبلغ أو أقل قليلاً، ليعتاش منه، مشيراً إلى أن تجار المواد الغذائية وغيرها من المواد يفضلون دوماً الدفع نقداً على أن تدفع لهم إلكترونياً.

وبحسب جهات تتابع هذه العمليات، فإن تجار المواد الغذائية يتعمدون فرض البيع بالسيولة النقدية لجمع أموال يعيدون تدويرها عبر مكاتب الصرافة، ما يدر عليهم أرباحاً مضاعفة.

في المقابل، تجبر عوائل فقيرة تتلقى دعماً مالياً غير منتظم من قبل بعض المؤسسات الدولية أو من أقرباء مهاجرين على دفع أكثر من نصف المبلغ أحياناً كعمولة مقابل الحصول نقداً على ما تبقى.

دخان يتصاعد جراء قصف إسرائيلي لأحياء في مدينة غزة (أ.ب)

«موت وخربان ديار»

وتقول المواطنة نهال أبو عبدو، من سكان حي النصر بمدينة غزة، والنازحة في مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، إنها تتلقى دعماً شهرياً يصل إلى نحو 270 دولاراً، من مؤسسة دولية، ولكنها عندما تضطر لسحب المبلغ نقداً من أحد التجار، تحصل على ما يقارب 140 دولاراً فقط.

وتضيف أبو عبدو (43 عاماً) والتي دمر منزلها وتعيل 4 أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة: «الحياة في غزة موت ودمار وخربان ديار».

وتابعت متسائلةً: «إلى متى سيبقى هذا الحال؟ نحن تعبنا ونريد لهذه الحرب أن تقف، وأن نشعر بالأمان ونجد مالاً لنعيش ونطعم أطفالنا... فهم بحاجة للحفاضات والحليب والغذاء».

وتابعت قولها: «إن أرادوا تهجيرنا، فليهجروننا، ولكن فليوفروا الأمان والأكل والمياه والكهرباء حتى نستطيع العيش مثل البشر، وليس كالحيوانات في بلدان منكوبة أصلاً».

فلسطينيون نازحون يتجهون جنوباً في قطاع غزة خلال وقت سابق (أ.ف.ب)

هجرة طوعية لا قسرية

بينما تخشى غالبية سكان قطاع غزة من التهجير القسري، تؤيد غالبية منهم الهجرة الطوعية إلى دول أوروبا أو دول مستقرة سياسياً واقتصادياً للبحث عن حياة أفضل، وخاصةً بين الجيل الشاب الذي لم يعد يملك مستقبلاً حقيقياً في القطاع نتيجةً للظروف الحالية.

ويقول الشاب نور البحيصي، من مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، إنه لا مشكلة له في الهجرة من القطاع للبحث عن حياة ومستقبل أفضل.

ورأى أن خطة ترمب قاسية على سكان القطاع، لكنها تمنحهم فرصة الهجرة الطوعية وليس القسرية، مؤكداً أنه مثل عشرات الآلاف من الشبان يرغب في الخروج بلا عودة بسبب تكرار الحروب.


معالم الشرق الأوسط الجديد بين وعود ترمب وواقع المنطقة

TT

معالم الشرق الأوسط الجديد بين وعود ترمب وواقع المنطقة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب متحدثاً في نيوجيرسي (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب متحدثاً في نيوجيرسي (أ.ب)

«بعد 7 أكتوبر كل شيء تغير في الشرق الأوسط»، جملة قالها المبعوث الأميركي توم براك تختصر المشهد المعقد الذي خيّم على المنطقة والسياسات الأميركية فيها منذ الهجمات في 2023.

اليوم وبعد مرور عامين على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، يزداد المشهد تعقيداً، فهذه هي الذكرى الأولى في العهد للثاني الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي كان بدأه متأملاً بانفراجات في الأزمة، وواعداً باستعادة الرهائن ووقف الحرب، ناهيك عن رفع سقف تطلعاته بإبرام الاتفاقات الإبراهيمية.

لكنها طموحات كبيرة لم تأخذ تعقيدات الوضع في المنطقة في الحسبان، زادها تعقيداً قرارات مثيرة للجدل لرئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نتنياهو الذي جر ترمب معه في دوامة قراراته من حرب غزة وخطط ضم الضفة الغربية إلى مواجهة إيران وتحدي سوريا بعد سقوط نظام الأسد. ومعها تلاشت الطموحات والخطط الكبيرة التي أعدها الرئيس الأميركي، بل يذهب البعض إلى حد القول إن «تهور نتنياهو وتساهل الإدارة الأميركية معه قد يقضيان كلياً على اتفاقات إبراهام».

إلا أن ترمب سعى جاهداً لتدارك الوضع، معلناً عن خطة من 20 نقطة لإنهاء حرب غزة، ورؤيته للمنطقة، متأملاً بكلماته الخاصة بأنها ستنقذ الاتفاقات العزيزة عليه.

لا اتفاق بلا اعتراف

شكّلت اتفاقات إبراهام التي كان ترمب عرّابها في عهده الأول لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، الهيكل الأساس لرؤيته للمنطقة والتي وضع من خلالها بصمته على سياسة خارجية كانت لتلقب الموازين وتغير المعادلات. وسعى ترمب جاهداً للاستمرار بمسار التغيير هذا، فكانت أول زيارة خارجية رسمية له إلى المملكة العربية السعودية، في إشارة صريحة إلى أهميتها الاستراتيجية.

لكن حرب غزة ألقت بظلالها على هذه الطموحات، وبدا أن أي تحرك لتوسيع الاتفاقات سيفشل قبل انطلاقه؛ فالسعودية كانت واضحة أيضاً في موقفها الرافض لأي توجه من هذا النوع مع الحرب المستعرة، ومن دون اعتراف دولي وأميركي بحل الدولتين، وهو ما رفضته كل من أميركا وإسرائيل.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير خارجية المملكة العربية السعودية يترأسان قمة الاعتراف بفلسطين وحل الدولتين في الجمعية العامة في نيويورك (إ.ب.أ)

وكأن ذلك كله لم يكن كافياً لتشتيت آماله، ليأتي الهجوم الإسرائيلي على قطر استهدافاً لقادة «حماس» فيصب الزيت على نار الأزمة، ومسلطاً الضوء على الشرخ بين المواقف الأميركية وتلك الإسرائيلية. فمن جهة يؤكد مسؤولون إسرائيليون أنهم أبلغوا أميركا مسبقاً بنواياهم، من دون معارضة تذكر، ومن جهة أخرى ينفي ترمب نفياً قاطعاً أن نتنياهو أبلغه بالضربة قبل وقوعها.

وبغض النظر عمن هو محق في هذا الجدل العلني، تبقى النتيجة واحدة، ولا تصب في مصلحة أميركا ولا إسرائيل، وتمثلت بإجماع دولي على الاعتراف بدولة فلسطين في دورة أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة رغم المعارضة الأميركية، في مبادرة بدأتها السعودية وفرنسا، وتوسعت لتشمل أكثر من 100 دولة.

ويقول براين كتوليس، كبير الباحثين في معهد الشرق الأوسط، إن الرسالة الأساسية التي يوجّهها الاعتراف الرمزي بدولة فلسطينية إلى ترمب هي أن «طموحاته في التوصل إلى اتفاق تطبيع أوسع بين إسرائيل والسعودية قد أصبحت في حكم المنتهية ما دام ترمب يواصل هذا النهج السلبي في إدارة ملف الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني».

ويضيف كتوليس، في حديث مع «الشرق الأوسط»: «من المهم الإشارة إلى أن السعودية هي الداعم الرئيسي لخطوة الاعتراف بدولة فلسطينية، وأن الرسالة الأساسية التي توجهها هي أن هذا الملف يمثل أولوية بالنسبة لها».

خطة إنهاء الحرب

بمواجهة الإجماع الدولي في الاعتراف بدولة فلسطين بعيداً عن المسار الأميركي، سارع ترمب لاحتوائه طارحاً رؤيته لإنهاء الحرب أمام الزعماء العرب على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ومن أبرز النقاط التي تعهد بها ضمن هذه الرؤية عدم السماح لإسرائيل بضم الضفة الغربية، وذلك حرصاً على عدم انهيار اتفاقات إبراهام وانسحاب دول منها. وهذا ما تحدث عنه المستشار العسكري السابق في الخارجية الأميركية، الكولونيل عباس داهوك، قائلاً إنه رغم أن اتفاقيات أبراهام «ما زالت قائمة من الناحية التقنية، فإن مستقبلها يزداد غموضاً».

ويضيف في حديث مع «الشرق الأوسط»: «مع أن الاتفاقات لم تصبح بحكم المنتهية بعد، فإن أي خطوة إسرائيلية كبرى لضم الضفة الغربية ستقوّض الأسس التي أُبرمت هذه الاتفاقيات عليها. فخطوات من هذا النوع تتجاوز خطاً أحمر بالنسبة للدول العربية الرئيسية. كما أنها ستعرض جهود الاندماج الإقليمي للخطر، وتنسف الالتزام المشترك بحل الدولتين».

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

علاقة متقلبة

في ظل هذه التجاذبات، تسلط الأضواء على العلاقة بين ترمب ونتنياهو، فمن الواضح أن طموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي تقف عائقاً أمام سعي الرئيس الأميركي لتصوير نفسه بمظهر رجل السلام. ولهذا فإن موافقة نتنياهو على خطة ترمب تعد انفراجة في العلاقة التي شهدت تقلبات عدة بين التعاون الوثيق إلى الخلاف العلني منذ وصول ترمب إلى الرئاسة في عهده الثاني. فالتقلب في مواقف ترمب حيال حرب غزة وإصرار نتنياهو على موقفه الرافض لحل دبلوماسي أدّيا في بعض الأحيان إلى توتر العلاقة بين الرجلين.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد انتهاء مؤتمر صحافي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض يوم الاثنين (أ.ب)

كذلك، فإن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا من دون مباركة إسرائيلية فاجأت نتنياهو، على غرار إعلان ترمب عن نيته التفاوض مع إيران قبل أن يقرر ضرب المنشآت النووية الإيرانية في خطوة أشاد بها نتنياهو في خطاب رنان. وحول هذا التفاوت يقول داهوك: «فيما أظهرت واشنطن رغبة في خفض التوتر، جاءت رسائلها الدبلوماسية ومواقفها العسكرية في كثير من الأحيان غامضة. بل إن الإدارة في بعض الأحيان أثنت على العمليات الإسرائيلية التي استهدفت إيران ووكلاءها. وقد فسّر نتنياهو هذا التأييد الانتقائي على أنه موافقة ضمنية على المناورات الهجومية تحت عنوان الدفاع عن النفس، رغم الدعوات الرسمية إلى ضبط النفس».

ومنذ تسلم ترمب سدة الرئاسة في يناير (كانون الثاني)، التقى الرجلان في البيت الأبيض 4 مرات، منها اجتماعات أظهرت قوة العلاقة بينهما، وأخرى أظهرت عمق الانقسامات بين الرجلين، وعن هذه الاجتماعات يقول كتوليس: «لقد استغلّ ترمب ونتنياهو لقاءاتهما الثلاثة الأولى لمغازلة قواعدهما الداخلية ودفع سياسات ألحقت أضراراً كبيرة بخصوم البلدين، خصوصاً إيران وحلفاءها. لكنّ هذين الزعيمين لا يقودان بالمعنى التقليدي للكلمة، بل يكتفيان بمخاطبة قاعدتهما السياسية من دون أي أفكار كبرى للمستقبل».

وتابع كتوليس: «عمل ترمب ونتنياهو في الغالب وفق تكتيكات عسكرية مصحوبة بجهود اتصالات استراتيجية هجومية، لكن ذلك لا يشكّل نموذجاً لتحقيق السلام والأمن، بل ضربات بلا استراتيجية. إن التوصل إلى اتفاقيات دبلوماسية تعيد البناء وتنتج السلام أصعب بكثير من تصفية الخصوم».

تغير المزاج الأميركي

بعد 7 أكتوبر، اصطف الأميركيون وراء إسرائيل، لكن الحالة اليوم اختلفت مع استمرار حرب غزة، وتعالي أصوات ديمقراطية وجمهورية وصف بعضها ممارسات إسرائيل بالإبادة الجماعية، في مواقف لافتة خاصة من قبل بعض الجمهوريين من قاعدة (ماغا) الشعبية المناصرة لترمب كالنائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين التي وجهت كذلك انتقادات لاذعة للوبي الإسرائيلي (إيباك) ونفوذه في واشنطن. مواقف دفعت بترمب إلى القول في مقابلة مع موقع «دايلي كولر» إن اللوبي «لم يعد يسيطر» على الكونغرس كالسابق.

متظاهرون ضد نتنياهو في نيويورك خلال إلقائه كلمة في الأمم المتحدة الجمعة (رويترز)

وترافق هذا مع استطلاعات رأي تظهر تراجع دعم إسرائيل في الرأي العام الأميركي، خصوصاً بين الشباب من الجمهوريين. وأفاد استطلاع لمركز بيو للأبحاث أن 50 في المائة من الجمهوريين تحت سن الخمسين لديهم نظرة سلبية عن إسرائيل خاصة حيال تعاطيها مع حرب غزة.

لكن، ورغم هذه المعارضة الجديدة، تتصدر إسرائيل البلدان التي تتلقى مساعدات عسكرية أميركية؛ إذ تحظى بـ3.8 مليار دولار سنوياً ضمن مذكرة تفاهم لعشرة أعوام وقع عليها الرئيس الديمقراطي باراك أوباما في عام 2019، ولم تواجه هذه المساعدات خاصة الدفاعية أي عرقلة فعلية في الكونغرس، رغم وجود بعض المشرعين الذي يسعون لتأخير المصادقة عليها.

وبالإضافة إلى المساعدات، يقر الكونغرس بشكل دوري صفقات أسلحة مع تل أبيب ما يفيد القطاع الصناعي العسكري الأميركي ويعزز مبيعاته بملايين الدولارات، ليثبت مقولة أميركية واسعة التداول في الأوساط السياسية: «إذا كنت تبحث عن الحقيقة، فاتبع خيط الأموال».