بينما كانت «الثورات» العربية التي انطلقت في الشهور الأولى عام 2011، تونسيًا ثم مصريًا ثم ليبيًا وسوريًا ويمنيًا، ترفع شعار «إسقاط النظام»، تأتي الاحتجاجات الشبابية الحالية في العراق قبل أكثر من شهر ونصف، وفي لبنان قبل أسبوع، لترفع شعارًا معاكسًا، هو «إصلاح النظام» أو «استعادة الدولة». ولعل مردّ ذلك إلى مصدرها المطلبي والاقتصادي والاجتماعي، أو سياقاتها في بلاد متعدّدة الطوائف في فضاء تعدّدي، وأيضًا ضجرًا بالطائفية وموظفيها وميليشياتها التي صارت تعيق عمل الدولة وتستقوي عليها في آن واحد.
الاحتجاجات الأخيرة تبدو مدنية عابرة للطوائف، نتجت في بلدين تتمكّن في كل منهما أحزاب دينية وميليشيات موالية لها تستقوي على الدولة، وتؤمن بالمغالبة لا المشاركة، وصراع السلطة لا إدارتها، ما أنتج الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي تكاد تنهار بالدولة وتعجّزها عن القيام بواجباتها تجاه مواطنيها.
من هنا، اندلعت هذه الاحتجاجات في فضاءات تعدّدية وديمقراطية تمثيلية لكنها معطلة وشاغرة، في حين اندلعت ثورات2011 في فضاءات شمولية أو شبه شمولية، تتغول فيها الدولة، أحادية، مكينة تمارس قمعا أمنيا وإقصائيا تجاه معارضاته السياسية التي لا تشاركه السلطة.
وتبقى الدولة.. ضرورة
لكن، في كلتا الحالتين، مطالبات الإسقاط أو الإصلاح تُبقي الدولة هدفًا وضرورة لا بد منها. فالإسقاط في الموجة الأولى لثورات مصر وتونس وليبيا كان يستهدف بديلاً أكثر صلاحًا وكفاءة ديمقراطية وتنموية، ولكن حين فشله، أو تغول فصيل على الدولة وسرقته وحده الثورة، ثار الشارع عليه مجددا ليخرجه خروجا قسريًا (مصر 30 يونيو (حزيران)) أو يخرج خروجا آمنًا (تونس ضد تغول الفصيل الحاكم). وإن كان في الحالتين اللبنانية والعراقية، ذواتَي التعدّد الطائفي، أكثر وضوحًا وأدوَم صراعًا لتعبيره عنها واستغلاله للاحتقان الكامن داخلها.
يسعى الثائرون من أجل «إصلاح النظام» وليس إسقاطه لاستخراج بديله من داخله، ابتعادًا وتلافيًا للتبعات المأساوية لسقوطه في بيئات متعدّدة الطوائف والإثنيات. ولكن حين اليأس منه يتقدّم الإسقاط بديلاً. وكان المثال واضحًا على ذلك في الحالة السورية التي بدأت بمطالبات إصلاحية في مارس (آذار) 2011، ولكن بعد إصرار النظام على القمع ورفضه الحوار وطوأفته الثورة وعسكرتها، واستمراره في قمع شعبه بمختلف الأسلحة المحظورة، زاد الإصرار على إسقاطه، رغم مرور أكثر من أربع سنوات، وعمق المأساة الماثلة بعد نجاحه في طوأفتها وعسكرتها. ولقد أقر رئيس النظام السوري أخيرًا في حديث تلفزيوني يوم الثلاثاء الماضي 25 أغسطس (آب) بأنه من استدعى ميليشيات حزب الله التي لم تنأ بنفسها، كما قرّرت الدولة اللبنانية منذ أشهر الثورة الأولى، لحماية نظامه والنصرة له من دون أن يتحمل مسؤولية ردود الفعل عليها من نصرات طائفية مضادة لها، تمثلت في «جبهة النصرة» ثم «داعش» التي صارت تسيطر على أكثر من نصف الأرض السورية، ويمتد خطرها داخل كل دول الجوار والمنطقة. وهذا مع أن الثورة في سوريا كانت الوحيدة التي ظلت لمدة سبعة شهور تطلب الحوار والإصلاح الذي تأبى عليه دون المطالبة بإسقاطه.
خصوصية الحالة السورية
تظل المطالبة المدنية بإسقاط النظام عسيرة في الدول المتعدّدة الطوائف والإثنيات. ومن هنا كان مخاض سبعة شهور للتطوّر من مطلب إصلاح النظام الذي ترافق مع رفض التدخل الخارجي في الحالة السورية والثورة ضد نظام الأسد الشمولي إلى مطلب الإصرار على إسقاطه بعد أن أدّت شموليته وميليشياته ودمويته إلى دمويتها وعسكرتها ميدانيًا في الوقت نفسه. وهو ما يفسر كذلك إجماع مختلف الأطراف المعنية على مرجعية اتفاق «جنيف 1» الصادرة في 1 يونيو 2012 لأي حل سياسي محتمل، الذي يشترط «حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات» لا يمكن ترجمتها ببقائه، تمامًا كما لم يكن ممكنًا بقاء علي عبد الله صالح وفق «المبادرة الخليجية» التي استجاب لها، بعد تمنّع، في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، ثم خرج من السلطة بعد ضمان حصانته وموافقة مجلس النواب اليمني عليها في 21 فبراير (شباط) 2012.
ربما التشابه الوحيد بين الحالتين العراقية واللبنانية من جهة والسورية من جهة أخرى، وقوع الحالات الثلاث في بيئات متعددة طائفيا، ولكن مع فارق وجود فضاء تعدّدي تمثيلي في العراق ولبنان، لم يتوفر في سوريا كما لم يتوفر في «عراق ما قبل صدام حسين». ومن هنا كان مطلب الإصلاح فيهما أكثر إمكانية واعتبارًا، كما أنهما تشبهان الثورتين المصرية والتونسية، بالخصوص، للونهما المدني الاحتجاجي اللاعنفي واللاحزبي. ولكن الحالتين العراقية واللبنانية تتميّزان بأنهما ضد سطوة الأحزاب المتسلطة التي تمثل جزءًا من بنية السلطة وعوامل تعطيلها في آن، إذ تقسم الوطن «ممالك وطوائف»، تضرب فيه فكرة التوافق عبر الاستقواء عليها ليبقى بلد كلبنان بلا رئيس منذ أكثر من سنة، نتيجة إصرار فريق على أن يكون الرئيس منه أو من حلفائه! وتصعّد المطالبات برئيس بينما كانت في الحالتين التونسية والمصرية تطالب بإسقاط رئيس!
احتجاجات العراق ولبنان.. ملامح مشتركة
اندلعت المظاهرات في العراق أولا في أواسط يوليو (تموز) العام الحالي، في مدينة البصرة احتجاجًا على أزمة الكهرباء في ظل أزمة الحر الشديد التي شهدها العراق وكثير من دول المنطقة أخيرًا، وتردي سائر الخدمات في بلد نفطي غني. وزاد من أوارها سقوط قتيل خلالها يوم 16 يوليو يدعى منتظر الخلفي، الذي لقّب بـ«بوعزيزي العراق» (تشبيها له بالمعترض التونسي محمد البوعزيزي)، أمام مبنى محافظة البصرة. ثم شهدت العاصمة بغداد أول تحركاتها الشعبية يوم 29 يوليو مع إضراب عمال السكة الحديد الذين قطعوا عددًا من الطرق الرئيسية احتجاجًا على تأخر رواتبهم من خزينة الدولة. ثم كان التجمّع الأبرز في ساحة التحرير ببغداد يوم 31 يوليو، ومن ثم امتد من العاصمة إلى محافظات الجنوب الأخرى.
وهكذا تجمعت عدة عناصر: الاجتماعي والاقتصادي مع الفئوي والحرب على الفساد والطبقة الفاسدة، في حراك تظاهري واحد، وذلك بعد انضمام مكوّنات مدنية سياسية له، يضم عشرات الآلاف يستهدف استعادة وإصلاح الدولة وتجاوز تركة ثقيلة تركها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في مختلف المسارات لخلفه رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي.
من جانبه، واستجابة لهذه المطالب، أطلق العبادي حزمة من الإصلاحات يوم التاسع من أغسطس الحالي، ووافق عليها مجلس الوزراء في اليوم نفسه، وشملت الإصلاحات أمر العبادي بإبعاد جميع المناصب العليا في العراق عن المحاصصة الحزبية والطائفية، وتولي لجنة مهنية يعينها رئيس مجلس الوزراء اختيار المرشحين على ضوء معايير الكفاءة والنزاهة.
ولقد وجدت إصلاحات العبادي تأييدا من مختلف القوى السياسية، وكذلك من المرجعية الشيعية في النجف، التي دعت إليها استجابة للمظاهرات في بيان لها يوم 7 أغسطس، ثم أيدتها بعد صدورها في خطبة السيد أحمد الصافي، ممثل المرجع علي السيستاني، في خطبة الجمعة يوم 21 أغسطس مؤكدة أن لا خيار للعراق شعبًا وحكومة إلا الانتصار فيها وتحقيقها. وبالفعل، خرجت مسيرات للمحتجين المدنيين مؤيدة لها في اليوم ذاته. تزامن هذا مع أزمات داخل «البيت الشيعي» واختلاف مواقف أعضائه من الأزمة الشاملة، وتلويح المالكي بالانسحاب في 23 أغسطس في حال تولّي عمّار الحكيم رئاسته، فضلاً عن دعوة لجنة برلمانية لمحاكمة المالكي في 16 أغسطس، وهو ما حذّرت منه إيران في اليوم التالي. ويبدو أنه حدث على إثره خلاف حادث، تسرّب لوسائل الإعلام بين رئيس الحكومة العبادي وقاسم سليماني قائد «الحرس الثوري» الإيراني، وكذلك ما تسرب عن رفض السيستاني مقابلته بينما قابله ممثلوه.
رغم ما طرحه الرئيس العراقي فؤاد معصوم أخيرًا يوم 26 أغسطس، من ضرورة تعديل الدستور، تجاوبا وإنفاذا لإصلاحات العبادي، فإنه لا يبدو خلاف عليها. ويبدو مختلف الفاعلين السياسيين في العراق مؤمنين بضرورتها بعد سنوات من تفاقم الفساد وتجذره وتشعبه على مستوى الأشخاص والأجهزة الحكومية، أنه «يجب عدم التهاون في اتخاذ إجراءات حقيقية وصارمة في هذا الاتجاه»، مشدّدًا على «ضرورة إصلاح الجهاز القضائي ليقوم بمهامه على الوجه الصحيح في متابعة ومحاسبة الفاسدين مع كثرة سراق المال العام وانتشار عمليات الخطف والرشى في مفاصل المجتمع»، ومنوها بأن «كل ذلك هو نتيجة لتخلف المسؤولين عن هذا الجهاز بالقيام بواجباتهم القانونية» حسب بيان المرجعية.
ولا شك أن قوة الاحتجاج العراقي المدني العابر للطوائف تتجسد في دمجه بين المطلبي الاجتماعي والاقتصادي وبين السياسي، فالمطلب السياسي وحده لا يصمد أغلب الأحيان إذا غاب المكوّن المطلبي، ولعل هذا سر النجاعة البادية والممكنة في الاحتجاجات العراقية.
كذلك انطلقت الاحتجاجات اللبنانية في الثلث الأخير من أزمة النفايات التي تفاقمت في بيروت خلال شهري يونيو ويوليو الماضي، وكان بدؤها في 22 أغسطس. وكان تجمعها الأبرز في ساحتي رياض الصلح والشهداء بوسط بيروت التجاري يومي 24 و25 أغسطس، وما زال زخمها مستمرًا وصادمًا لمحتكري التكلّم باسم الشعب من الزعماء الحزبيين والطائفيين، إذ لم يكن مسبوقًا تظاهر ما يقرب من عشرة آلاف شخص وانطلقت مظاهرتهم من رحم الاعتراض المطلبي بعد أزمة النفايات التي شهدها لبنان في يوليو الماضي، واستمرار الشغور الرئاسي لأكثر من سنة، بجانب الأزمات العميقة أمنيًا وسياسيًا وحدوديًا مع انفراد، وتصلّب حزب الله الذي دأب أمينه العام حسن نصر الله على استخدام لغة وحيدة تتجاهل لبنان وتصرّ على ترهيب معارضيه، تكرّرت فيها باستمرار عبارة «الخيارات المفتوحة» وقوله إنه مستعد لكل شيء ولا يأبه لشيء غير ما يراه. ولقد كرّر نصر الله هذا الكلام في خطابه الذي أعلن فيه في 15 أغسطس إصراره على رئاسة ميشال عون لا سواه، كما قال ذلك خطابه في 10 يوليو الماضي، ويكرّر مواقفه في تبريره المستمر مشاركته وحربه لجانب بشار الأسد في حرب سوريا التي جلبت الخطر لمنطقة البقاع، ولا سيما لبلدة عرسال السنّية ومدينة بعلبك ذات الغالبية الشيعية، وفجّرت التشاحن الطائفي أيضًا في عاصمة شمال لبنان طرابلس بين منطقتي باب التبانة (سنة) وجبل محسن (علويون) الكثير من المرات.
