ليلة «هادئة» أخرى عرفتها فرنسا، الأربعاء، تراجعت فيها، إلى حد كبير، أعمال الشغب وإحراق السيارات وأوعية القمامة والتعرض للمباني العامة والخاصة والمتاجر. كذلك، تراجعت موجة الاعتقالات التي عرفتها المدن الفرنسية خلال 6 ليالٍ؛ حيث لم يتم القبض إلا على 16 شخصاً، بينهم 6 في باريس العاصمة. والثابت أن القبضة الأمنية التي عززها نشر 45 ألف رجل شرطة ودرك ووحدات خاصة أسهمت إلى حد كبير في خفض الاشتباكات بينها وبين المشاغبين وإعادة الهدوء حتى إلى الأحياء الشعبية «الصعبة» في ضواحي المدن الكبرى، مثل باريس ومرسيليا وليون وتولوز وغيرها، إلى حد أن أياً من عناصر الأمن لم يصب بأذى خلال الليلة المنقضية.
واللافت، بحسب الإحصائيات التي أذاعتها وزارة الداخلية صباح الأربعاء، أن نحو ثلث الموقوفين في الأيام الأخيرة «من مجموع 3625 شخصاً» هم من القاصرين. وقد مثل منهم 990 مراهقاً أمام القاضي، وصدرت أحكام متفاوتة بالسجن ضد 380 قاصراً. وهذا العدد مرشح بالطبع إلى الارتفاع. وسبق لوزير الداخلية جيرالد دارمانان أن قال: «من بين الموقوفين كثيرون لا تتجاوز أعمارهم 13 أو 14 عاماً». وخلاصة ما سبق يدفع إلى اعتبار أن توقعات الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي رأى أول من أمس أن «ذروة» الاحتجاجات، مع التزام جانب الحذر، قد تم تجاوزها، كانت مصيبة.
ورغم أن التركيز، بحسب ما أكدته رئيسة الحكومة إليزابيث بورن في البرلمان مساء الثلاثاء، ما زال يتمحور حول أولويات أربع؛ هي فرض الأمن من خلال استمرار تعبئة القوى الأمنية، والتعويل على تشدد القضاء إزاء المشاغبين، والنظر في دور ومسؤولية وسائل التواصل الاجتماعي، ودعوة الأسر لتحمل مسؤولياتها، فإن الدولة الفرنسية أخذت تنظر في كيفية معالجة الأسباب التي أوصلت البلاد إلى ما يشبه حالة من التمرد واسعة الانتشار.
وفتح الرئيس ماكرون الباب أمام ذلك عندما وعد 220 رئيس بلدية دعاهم إلى قصر الإليزيه، الثلاثاء، بالتوصل إلى «حلول جذرية» لموضوع العنف والشغب.
البحث عن حلول جذرية
ما فهم من الكلام الرئاسي أن الحكومة لن تكتفي بـ«الحل الأمني»، بل ستسعى لمعالجة الداء من الجذور، أي من خلال برامج اجتماعية واقتصادية وسكنية وثقافية في الأحياء الشعبية التي تعاني البطالة والفقر وتجارة المخدرات والعنف اليومي وغياب فرص العمل وندرة مؤسسات الدولة، التي تشمل بين سكانها نسبة مرتفعة من المهاجرين، ما حوّل بعضها إلى «غيتوات» أو مثل ما يزعم اليمين واليمين المتطرف، إلى مناطق «خارجة عن الجمهورية».
وهذه البرامج تحتاج إلى تمويل، في حين تجاوزت ديون الدولة الفرنسية سقف 3000 مليار يورو. من هنا، فإن وزير الاقتصاد والمال، برونو لومير، سارع خلال جولة قام بها مصحوباً بوزيرة الدولة لشؤون المؤسسات الصغرى والمتوسطة، إلى تأكيد أنه من العبث اعتبار أن «إعادة النظام إلى البلاد يمرّ من خلال تخريب حسابات الدولة». وأضاف لومير القادم من صفوف اليمين: «لا أعتقد أبداً أن خطة جديدة لمساعدة الضواحي هي الحل «للعنف والفوضى»، إذ إننا قد فعلنا الكثير لهذه الأحياء «الشعبية» من خلال توفير الدعم الاجتماعي والعمالة واجتذاب الشركات». أما الحل الحقيقي بالنسبة لوزير الاقتصاد، فيتمثل في «التشدد» و«القبض على مثيري الشغب» وإنزال «عقوبات مثالية» بحقهم وسياسة «صفر تساهل» إزاء من يهدد النظام العام. وباختصار، فإن لومير الذي يحلم بخلافة إليزابيث بورن في رئاسة الحكومة وخلافة ماكرون في رئاسة الجمهورية، يتبنى سياسة يمينية مائة في المائة وهي سياسة لم تمنع حراك «السترات الصفراء» ولا أعمال شغب دامت 3 أسابيع في عام 2005، عقب حادثة أودت بحياة مراهقين في ضاحية سين سان دوني، كانا يحاولان الإفلات من رجال الشرطة.
حلول اليمين
حقيقة الأمر أن اليمين الفرنسي، داخل الحكومة وخارجها، لا ينظر إلى الأحداث إلا بعين واحدة. والدليل الدامغ على ذلك ما صدر عن إريك سيوتي، رئيس حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي الذي يجهد في استعادة الأصوات التي تركته والتحقت بحزب «التجمع الوطني» الذي تتزعمه المرشحة الرئاسية السابقة والنائبة مارين لو بن. سيوتي يقترح حلولاً «جذرية»، إذ يرى أنه يتعين على الجمهورية «تحييد المشاغبين الذين تقدر أعدادهم بآلاف عدة»، ويشكلون تهديداً بالنسبة إليها.
وسبق سيوتي الرئيس ماكرون باقتراح فرض غرامات مالية وأحكام جزائية على العائلات التي يشارك قاصرون من أبنائها في أعمال عنف وشغب، وحرمانهم من المساعدات الاجتماعية التي يتلقونها من الدولة. كذلك، يدعو إلى نزع الجنسية الفرنسية عن البالغين، مزدوجي الجنسية، في حال إدانتهم بالمشاركة في أعمال عنف. وفي السياق عينه، يدعو اليمين إلى وقف العمل بالقانون الذي يتيح الحصول على الجنسية الفرنسية في سن 18 عاماً لمن ولد في فرنسا وأدين لمشاركته في أعمال شغب. وسبق لليمين بجناحيه التقليدي والمتطرف أن دعا ماكرون إلى فرض حالة الطوارئ ومنع التجول، وما زال يمارس ضغوطاً عليه لدفعه إلى سياسات أكثر تشدداً.
ولأن اليمين يرى أن سياسة متشددة تعني مزيداً من السجناء، فإنه يضغط على الحكومة لتضمين مشروع قانون يخص القضاء بنداً إضافياً ينص على توفير 3 آلاف خلية إضافية في السجون بحلول عام 2027. ويشكّل الدعم المطلق للقوى الأمنية ونفي، وأحياناً إنكار، أي تجاوزات ترتكبها، ركناً أساسياً في رؤية اليمين السياسية بجناحيه المعتدل والمتطرف.
لكن ياسين بوزروع، محامي عائلة الشاب القاصر نائل مرزوق الذي قتلته رصاصة رجل شرطة في مدينة نانتير صباح 27 يونيو (حزيران)، ما أثار موجة العنف والشغب، يرى الأمور بشكل آخر. وفي حديث لصحيفة «لو موند» نشر في عدد الأربعاء، أكّد المحامي المذكور أن المشكلة الحقيقية في فرنسا «لا تتناول فقط أداء الشرطة، بل أيضاً أداء العدالة». وأضاف بوزروع: «طالما أن القضاء يحمي الشرطة بشكل فاضح، فلا شيء يدفع الشرطة لكي تغير تصرفاتها. وعملياً، طالما أن هناك حصانة قضائية ممنوحة للشرطة، فمن الطبيعي أن تتزايد التجاوزات التي ترتكبها».
تجدر الإشارة إلى أن نائل مرزوق قتل لأنه رفض الانصياع لأوامر رجل شرطة لدى تدقيق مروري في مدينة نانتير، طلب منه إطفاء محرك سيارته والنزول منها. وبينت صور فيديو ملتقطة أن الشرطي أطلق النار على المراهق من مسافة قريبة للغاية.
فاتورة الشغب
ثمة مسألة رئيسية تتناول تكلفة الأضرار التي تسببت بها أعمال الشغب والسرقة والنهب والحرائق، والجهة التي سترسو عليها مهمة دفع الفاتورة. وللتذكير، فإن أسبوعاً من العنف أفضى إلى إحراق 6 آلاف سيارة، بينما أُحرق أو تضرر 1105 مبانٍ عامة وخاصة، بينما لحقت أضرار بـ243 مدرسة، منها أحرق تماماً ومنها بشكل جزئي، وتعرض 269 مقراً للشرطة والدرك لهجمات أسفرت عن خسائر كبيرة.
كذلك، لم تسلم من الأضرار مكاتب البريد ولا آلات سحب وصرف الأموال. وأكد وزير الاقتصاد أن 1000 مخزن ومطعم ومقهى تضررت. ومن بين 200 متجر للمواد الغذائية، ثمة 30 منها احترقت تماماً. ولم تسلم 20 صالة رياضية، و60 مخزناً متخصصاً، من التخريب والسرقة. وأفادت فيدرالية البنوك الفرنسية بأن 370 فرعاً مصرفياً، تم استهدافها؛ منها 70 في المائة في منطقة إيل دو فرانس «أي باريس وضواحيها القريبة والبعيدة». يضاف إلى ما سبق الخسائر التي ضربت قطاع النقل والقطاع الفندقي الذي شهد موجة من إلغاء الحجوزات.
وبانتظار توافر مسح شامل للخسائر، فإن رئيس هيئة أرباب العمل قدرها بنحو مليار يورو، أي ما يساوي 4 أضعاف الخسائر التي مُني بها الاقتصاد الفرنسي في عام 2005، بعد 3 أسابيع من الشغب الذي بقي محصوراً في منطقة «إيل دو فرانس». أما حراك «السترات الصفراء» بين عامي 2018 و2019، فإنه شهد بالتأكيد أعمال عنف. إلا أنه لم يصل إلى الدرجة التي وصل إليها في الأيام الأخيرة، وقد نجحت وقتها المؤسسات في حماية نفسها من التخريب.
عبء التعويض
سُئل برونو روتايو، رئيس مجموعة اليمين في مجلس الشيوخ الفرنسي عن الجهة التي يفترض أن تتحمل عبء التعويض. وجاء رده قاطعاً، إذ أكد أن الفرنسيين «يعاقبون مرتين: المرة الأولى عندما دفعوا لبناء هذه الإنشاءات التي أحرقها المتوحشون، والمرة الثانية لإعادة بنائها»، مضيفاً أن فرنسا «الشريفة الصامتة سئمت من أن يطلب منها كل مرة أن تدفع لفرنسا المشاغبين الذين يعمدون لإحراق مقار الخدمات العامة في أحيائهم».
لا شك أن هذا الموضوع سيكون مادة للجدل في الأيام والأسابيع المقبلة. ولم يتأخر ماكرون في مطالبة الحكومة بتقديم مشروع «قانون طارئ» لتسريع إعادة بناء ما احترق؛ خصوصاً المباني والمقار الرسمية. كذلك، طلب ماكرون من وزير الاقتصاد الاجتماع بالقطاعات التي تضررت، وأن يوفر لها الدعم الممكن لجهة تأجيل دفع المتوجبات الاجتماعية المطلوبة منها للصناديق المعنية، فضلاً عن حثّ شركات التأمين التي هي في الصف الأمامي في موضوع التعويضات على الإسراع في بتّ طلبات المتضررين الذين منحوا فترة 30 يوماً لتلقي طلبات التعويض، بينما المهلة المعمول بها عادة لا تتجاوز الأيام الخمسة. كذلك، فإن فاليري بيكريس، رئيسة منطقة إيل دو فرانس، أعلنت تقديم 20 مليون يورو من أجل إعادة تأهيل ما تضرر في منطقتها. والشيء نفسه، ولكن بشكل أكثر تواضعاً، فإن منطقة «الشرق الكبرى» أعلنت توفير 5 ملايين يورو لإعادة تشغيل وسائل النقل العام المتضررة.
ومن الواضح اليوم أن شركات التأمين ستكون المساهم الأكبر في التعويض عن الأضرار سواء أكانت الخاصة أم العامة. بيد أن أصواتاً من أوساط اليمين لا تتردد في المطالبة بضرورة أن يتحمل المسؤولون عن الأضرار تبعات أعمالهم، بحيث تقع على عاتقهم مسؤولية توفير الأموال الضرورية. وقال النائب اليميني لوران جاكوبيلي إن الفرنسيين «لم يعودوا راغبين في دفع أموال للذين يكرهون الجمهورية، وإنه يتعين العمل بمبدأ مَن يخرب عليه أن يصلح». وأضاف النائب المذكور أن «سياسة المدينة» التي طبقتها الحكومات المتعاقبة كلفت الفرنسيين 90 مليار يورو لمساعدة أبناء المناطق الشعبية في المدارس ولبناء مستوصفات وملاعب ومراكز ثقافية وترفيهية في المناطق التي يقال إنها مهمشة، والحال أن المشاغبين لا يترددون في إحراقها.
من جانبه، أعلن ماتيو فاليه، مسؤول نقابي في جهاز الشرطة، أنه «يتعين على السلطات أن تلزم المدانين بارتكاب أعمال الحرق والنهب بدفع تكلفة إصلاح الأضرار. وإذا كانوا غير قادرين على ذلك، فيتعين إلزامهم بالعمل حتى يوفروا ما يتعين عليهم توفيره». ومن المقترحات الأخرى، حرمان أهل المشاغبين من التقديمات الاجتماعية تعويضاً عن الأضرار التي يكون قد تسبب بها أبناؤهم.
ما يقال ويكتب اليوم ليس إلا أول الغيث. وفي أي حال، فإن أرقام تكلفة الأضرار ليست إلا تقريبية وبالتالي، فإن القادم من الأيام سيوفر الأرقام الحقيقية التي ينتظر كثيرون أن تكون أكثر ارتفاعاً مما هو متداول اليوم.