عمر الأنصاري: الرواية أنقذتني من جنون الصحوة... وأنا روائي الطوارق

يقول أنه قطع الصحراء الكبرى بحثاً عن ذاته

عمر الأنصاري
عمر الأنصاري
TT
20

عمر الأنصاري: الرواية أنقذتني من جنون الصحوة... وأنا روائي الطوارق

عمر الأنصاري
عمر الأنصاري

ينحدر الروائي والكاتب عمر الأنصاري من غرب أفريقيا. في رصيده الآن أربع روايات. يبدو مقلاً ولكنه عميق، يتأنى في الكتابة وكأنه ينسج حكايات جده الأعلى. إنه الكاتب المهاجر، الذي وجد ضالته المنشودة في السرد والذاكرة والأسطورة. ويقول إنه أمام كم هائل من الحكايات الشفاهية التي يحرص أن يحولها كتابة؛ لأن كل ما هو خارجها يذهب أدراج الرياح.

هنا حوار معه حول تجربته الروائية، وسر عشقه للصحراء والطوارق اللذين يشكّلان عالمه الروائي:

* أولاً، كيف تعرّف نفسك... صحفي أم روائي؟

- للأسف، ليس أي منهما هويتي الحقيقية، ولا مهنتي التي حلمت بها في خطواتي الأولى في الحياة... ففي سن الخامسة، كان جُل حلمي أن ألتحق بأبناء عمومتي الرعاة في سهوب تمبكتو الخضراء حينها... وأن أرافق غنمناً وأبقارناً في المراعي للتحرر من سطوة خيمتنا، وأن أستظل مع قربة مائي تحت سمرة وارفة الظل، وكنت بعد تحقيق ذلك الحلم أتطلع إلى ركوب صهوة جواد والدي، وأن أتعلم الغطس في نهر تينبكتو، لكن تلك الأحلام كلها وئدت، وتوارت من حياتي في لمح البصر، لأجد نفسي كمن عبر من ثقب أسود إلى حافة زمكان جديد. لقد انتقل بي الزمن سريعاً... فمن صمت مطبق في الصحراء الكبرى... وجدت نفسي واقفاً أمام بقايا آثار رصاص جهيمان الذي اخترق جدران وأعمدة الحرم المكي، وما لبثت بعدها حتى وجدت موجة ما عُرف بالصحوة قد حملتني وأقلعت بي دون أشعر، فحملتني إلى كل محطاتها وإلى أقصى حدودها الموجودة حينها، فتنقلت بين مراتبها، من مريد إلى فاعل... إلى تجليات بعيدة جداً كان من شأنها أن تجعلني وسط قادة المشهد في النهاية، لكني ترجلت عن تلك الموجة في الوقت المناسب بعد أن اكتشفت نفسي واكتشفت حقيقة أني مختطف.

روايات وكتب الأنصاري
روايات وكتب الأنصاري

* وكيف حدث هذا التحول؟

- كان رحلة البحث عن النفس، أو أسئلة الوعي التي داهمتني، سبباً رئيسياً، فصحوت من سبات عميق، ومثُلت أمامي كل الأسئلة الوجودية وأنا في سن الثامنة عشرة، يومها اكتشفت أني من تمبكتو، ويومها كان التحول الذي أطلقني في رحلة بحث عن خيمتي في تمبكتو.

* وهل وجدتها؟

- نعم، وجدت خيمتي، وكان الفضل في ذلك لأستاذنا القدير الفيلسوف والروائي إبراهيم الكوني، الذي ساعدني في البحث عن خيمتي وإيجادها، حين أخبرني أن الوطن ليس بالسكنى فيه، بل بسكناه فينا، وحين أخبرني ألا أبحث عن خيمة هي تسكنني في الأصل، وحين قال لي إن رحلة ميلاد الروح لا تكون دون خروج الإنسان من رحم الأم إلى غربة الوجود.

* كيف كان ذلك الوجود؟

- أنا من مواليد «الأزمنة المفقودة»، وليس هذا مجازاً بل هو حرفي، فقد أبصرت الحياة وسط الصحراء، وكان من الممكن أكون في العهد الروماني ويداهمنا جنرال روماني ثائر فيأسرنا ونكون عبيداً في روما، ويمكن أن يداهمنا عُقبة ابن نافع فيدخلنا في الإسلام، وممكن أن يجمعنها يوسف بن تاشفين فيفتح بنا الأندلس، كنت مهيأً في طفولتي لأي من ذلك؛ لأننا في عزلة من الزمن، وفي هامش التاريخ. وأتتني أول إجابة واضحة عن الزمن بعد رؤيتي أول سيارة في سن السابعة تقريباً، ثم لطائرة تمرّ من فوقنا، وهنا بدأت القصة تتغير وبدأت أستعد لمفاجآت الحياة التي لم تنتهِ حتى اليوم بسبب العزلة الكبيرة التي كنت فيها وأنا طفل كُتب عليه اكتشاف الحياة شيئاً فشيئاً.

* هل انتهت علاقتك بالصحراء منذ زمن جهيمان كما تسميه؟

- لم تنته، بل بدأت بعد ردتي عن آيديولوجية الصحوة، التي كانت سترسلني فاتحاً ومبشراً لها في الصحراء، لكن تلك الرحلة ورحلات أخرى هي التي ردتني إلى عقيدة الطفولة، وإلى فطرة الصحراء الخالية من الأدلجة، فقطعت الصحراء الكبرى طولاً وعرضاً وغصت في رمالها واستنشقت هواءها حتى شعرت بالتحرر الكامل وبميلاد جديد، الميلاد الذي أعادني إلى رشدي وألهمني كتابة قصة تلك الصحراء.

* تُعد من أقرب الناس للروائي إبراهيم الكوني...هل تقلد أستاذك، ما الفرق بينكما وهل تنسج أعمالك من هوامش عوالم الكوني؟

- نعم، الكوني أستاذي، وهو مَن دفع بي وشجعني إلى المضي في كتابة أدب الصحراء الذي لا يشبه أي أدب آخر، وقبل أن ألتقيه قبل سنوات كنت قد عقدت النية على كتابة روايتي «طبيب تينبكتو»، لكن حين اتضح لي أن أدب الصحراء يختلف عن أدب المدينة توقفت مدة 10 سنوات، وأنا أفكر في التفاصيل التي يمكن أن تجود بها خيمة أبي وأبقار أمي ومغامرات عمي، لأكتب قصة يمكن أن تسمى رواية. وقد اصطدمت فعلاً باختلاف الأدبين (المدينة والصحراء)، فبقدر سهولة ويسر كتابة تفاصيل المدينة الصاخبة، بقدر ما يواجه الكاتب الصعوبة في كتابة صمت الصحراء، فأدب الصحراء ليس نزهة، بقدر ما هو تأمل في الحياة والفلسفة والخلق وناموس الصحراء.

وكوني كتبت عن الطوارق الذين كتب عنهم أستاذنا الكوني، فأنت كمن ينتقد من يأتي ويكتب عن الحارة المصرية بعد نجيب محفوظ، أو عن الشميسي بعد تركي الحمد، فهذه مقارنات في غير محلها.

لكن ببساطة أستميح أستاذي الكوني في أن أنال أنا لقب روائي الطوارق؛ لأن الكوني لم يكن يوماً روائي الطوارق، بل فيلسوف الصحراء والوجودية وعوالمه أكبر من تحصر في الطوارق الذين ما زلت أحبو في فضائهم.

* ماذا يعني لك المكان؟

- لم يعد المكان يمثل لي أي معنى منذ خرجت من تمبكتو، فأمكنتي - كما قلت - أحملها معي وتعيش في داخلي، ولا يمكن أن أهاجر بعيداً عنها، وكل مكان يشبه تينبكتو وروحها هو مكاني، أولها حارات مكة التي شهدت ميلاد كل أحلامي، مروراً بالدرعية ودبي وأبوظبي، فأي مكان ألمح فيه جداراً من الطين فهو مكاني... لأن بين جدران الطين فقط وُلد الأنبياء والملهمون ووُلد إنسان الصحراء النبيل.

على البوصلة الأدبية في دول الخليج أن تعيد ضبط وجهتها نحو الصحراء الحُبلى بالأسرار والأساطير

* ما نظرتك للأدب في الخليج، وأنت ابن صحراء، وخليجي أيضاً بحكم النشأة والتكوين؟

- تجربة الخليج، أو البعث الأدبي ناقص ولن يكتمل أبداً ما لم يكن أدب الصحراء في قلب التجربة، بل ومدماكها، بمثل ما كانت المعلقات مدماكاً للأدب العربي، وسيندم أي جيل خليجي ينصرف عن هذا الأدب الذي أنجب روحه الخلاقة وصنع تاريخه وتحولاته... فعلى البوصلة الأدبية في دول الخليج أن تعيد ضبط وجهتها نحو الصحراء الحبلى بالأسرار والأساطير والقصص التي لا تنتهي، فشعب يضيّع أساطيره شعب يضيّع ويفرّط في تاريخه... وفي بلدنا العزيز المملكة العربية السعودية تحديداً انتهى زمن الأعذار والتردد، بفضل الانفتاح والتحول الكبيرين، فيمكن لأي كاتب اليوم الذهاب لكتابة ونسج رواية أسطورية تحت ظلال بوابات الحجر (مدائن صالح)، ويمكنه تناول الأساطير وشتى القصص التي كان مُحرماً تناولها في السابق أو حتى التفكير فيها.

وأتمنى من المهتمين بالثقافة وبالصحراء إنشاء معاهد عن الصحراء وأدب وثقافة الصحراء، تكون نبعاً صافياً ننهل منه معارف الصحراء وآدابها وأخلاقها، أو معاهد أدب مثل معهد غوركي للآداب في موسكو الذي يتخرج فيه أدباء كل عام، كان إبراهيم الكوني من بينهم، فالتطور الحاصل في المنطقة لا بد أن يكون مبنياً على روح الأصالة، وإذا لم نفعل ذلك، فسنجد شباننا يكتبون روايات أبطالها يمتطون سيارات فيراري وقصص الحب فيها تدور في مقاهي ستاربكس، بدل قصص قادمة من التراث بروح الصحراء، وهي القصص التي ستقدمنا للعالم لا قصص منسوجة من عوالم مستوردة لن يتقبلها التاجر الذي صدرها لنا... والذي ينتظر رواية يقرأ فيها روح أزمنتنا وطموحاتنا وما نعيشه من تحولات.

* ما آخر عمل لك بعد رواياتك الثلاث وكتاب «الرجال الزرق»؟

- انتهيت من كتابة عمل جديد بطلب من ناشر فرنسي، هو عبارة عن سيرة ذاتية أكثر منه رواية، سيصدر بالفرنسية أولاً، ولاحقاً سأصدر منه نسخة عربية، وهو يحكي قصة التحولات والسيرة الذاتية لجيلي الذي وُلد ونشأ في أزمنة الفقد.


مقالات ذات صلة

«دهشة الأساطير الشعبية» بـ«ديوانية القلم الذهبي» في الرياض

يوميات الشرق تناولت الجلسة تحويل الشخصيات الشعبية إلى رموز أسطورية جديدة (ديوانية القلم الذهبي)

«دهشة الأساطير الشعبية» بـ«ديوانية القلم الذهبي» في الرياض

ناقشت جلسة حول «دهشة الأساطير الشعبية»، استضافتها «ديوانية القلم الذهبي» بحي السفارات في مدينة الرياض، كيفية تشكّل الأسطورة في المخيال الشعبي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني (الشرق الأوسط)

الرياض تحتفي بمئوية كتاب «ملوك العرب» لأمين الريحاني

 يعود المفكر والأديب والمؤرخ والرحالة والشاعر والرسام العربي اللبناني أمين الريحاني، إلى الواجهة، بعد 85 عاماً على رحيله، من خلال احتفاء دارة الملك عبد العزيز.

بدر الخريف (الرياض)
ثقافة وفنون يسعى «مهرجان أبوظبي 2025» إلى تقديم تجربة ثقافية شاملة تشمل الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا والباليه والمعارض التشكيلية (الشرق الأوسط)

الإعلان عن «مهرجان أبوظبي الثقافي 2025» تحت شعار «أبوظبي: العالم في مدينة»

أعلنت مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون عن برنامج الدورة الثانية والعشرين من «مهرجان أبوظبي 2025» الذي سيقام تحت شعار «أبوظبي: العالم في مدينة».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
العالم الدكتور زهير الحارثي أمين عام المركز خلال الحفل (كايسيد)

«كايسيد»: نستثمر في مستقبل أكثر سلاماً

أكد الدكتور زهير الحارثي، أمين عام مركز الحوار العالمي «كايسيد»، أن برامجهم تستثمر في مستقبل أكثر سلاماً بجمعها شخصيات دينية وثقافية لتعزيز الحوار والتفاهم.

«الشرق الأوسط» (لشبونة)
ثقافة وفنون جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم اليوم، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

ميرزا الخويلدي (الفجيرة)

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي
TT
20

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

إذا كانت نقاط التقاطع بين صخب الحياة العباسية المدينية، وبين بوادي الحجاز التي كانت مأهولة بالحرمان وشظف العيش في العصر الأموي، هي من الندرة بمكان، بحيث يصعب أن نعثر في العصر العباسي الأول على نسخ عذرية مماثلة لمجنون ليلى، وجميل بثينة، وكثيّر عزة. إلا أن ما تقدم لا يعني بالضرورة الغياب التام لحالات التتيم العاطفي وتجارب العشق الصادقة في ذلك العصر. ذلك أن الإشباع الجسدي لا يوقف وجيب القلوب، والحصول على المتعة لا يروي عطش الروح، ولا يوفر للشخص المعني ما يحتاج إليه من الحب والعاطفة الصادقة. وهي الفرضية التي تجد ضالتها المثلى في حالة العباس بن الأحنف، الذي لم تحل حياته المترفة ووسامته الظاهرة، وظرفه المحبب، دون وقوعه في حب «فوز»، المرأة التي شغلته عن كل ما عداها من النساء.

ومع أن الرواة قد اختلفوا حول نشأة العباس ونسبه، حيث ذكر الأصفهاني أنه نشأ في بغداد وينتمي إلى بني حنيفة العرب، وقال الأخفش إنه كان من عرب خراسان، ورأى آخرون أنه نشأ في البصرة ثم وفد إلى بغداد، فقد أجمع المبرّد والصولي والأصمعي على تقريض شعره، ورأى الجاحظ أنه كان شاعراً غزِلاً شريفاً مطبوعاً، وله مذهب حسن ولديباجة شعره رونق وعذوبة، وأنه لم يتجاوز الغزل إلى مديح أو هجاء. لكن اللافت أن الأصفهاني لم يولِ العباس وأخباره الكثير من الاهتمام، ولم يركز إلا على أشعاره الصالحة للغناء، دون أن يأتي على ذكر فوز، أو أيٍّ من معشوقاته الأخريات.

ورغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، مثل ظلوم وذلفاء ونرجس ونسرين وسحر وضياء، ومعظمهن من الجواري، فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي. ومع ذلك، فقد ظلت هويتها الحقيقية في دائرة الغموض واللبس. وحيث ذهب البعض إلى أنها والجارية ظلوم تسميتان لامرأة واحدة، إلا أن قصائد الشاعر تؤكد أن فوز لم تكن جارية، بل امرأة من الأشراف ذات نسب عريق. وفي مواضع عدة يشير العباس إلى أنه أخفى اسم حبيبته الحقيقي خشية على نفسه وعليها، كما في قوله:

كتمتُ اسمها كتمان من صار عرضةً وحاذر أن يفشو قبيح التسمُّعِ

فسمّيتها فوزاً ولو بحتُ باسمها

لسُمِّيتُ باسمٍ هائل الذكْر أشنعِ

وفي بحثها النقدي الاستقصائي عن العباس بن الأحنف، ترى الكاتبة العراقية عاتكة الخزرجي أن حبيبة الشاعر لم تكن «كائناً متخيلاً، بل امرأة من لحم ودم، وأن ديوانه الشعري كان سيرته وقصة قلبه». إلا أن الخزرجي تذهب إلى أبعد من ذلك، فترجح أن تكون فوز هي الاسم المعدل لعليّة بنت المهدي، أخت هارون الرشيد، وأن العباس أخفى هويتها الحقيقية خوفاً من بطش الخليفة، الذي كان الشاعر أحد جلسائه.

وقد كان يمكن لاجتهاد الخزرجي حول هوية فوز، أن يكون أكثر مطابقة للحقيقة، لو لم يشر الشاعر في غير موضع إلى أن حبيبته قد انتقلت للعيش في الحجاز، في حين أن عليّة، ظلت ملازمة لبغداد ولقصر أخيها الرشيد بالذات. وأياً تكن هوية حبيبة العباس الحقيقية، فقد بدت المسافة الشاسعة التي تفصله عنها، بمثابة النقمة والنعمة في آن واحد. فهي إذ تسببت له بالكثير من الجروح العاطفية والروحية، إلا أنها منحته الفرصة الملائمة لإحالتها إلى خانة الشعر، ولتحويلها نداءً شجياً في صحراء الغربة الموحشة، كقوله فيها:

أزيْنَ نساءِ العالمين أجيبي

دعاء مشوُقٍ بالعراق غريبِ

أيا فوز لو أبصرتِني ما عرفْتني

لطول نحولي دونكم وشحوبي

أقول وداري بالعراق، ودارها

حجازيةٌ في َحرّةٍ وسهوبِ

أزوّار بيت الله مُرّوا بيثربٍ

لحاجة متبولِ الفؤاد كئيبِ

ولو تركنا هذه الأبيات غفلاً من الاسم، لذهب الظن إلى أن ناظمها الفعلي هو جميل بثينة أو مجنون ليلى. وليس من قبيل الصدفة أن ينسب الرواة إلى العباس، ما نُسب قبله إلى المجنون، ومن بينها مقطوعة «أسرْب القطا هل من يعير جناحه؟» المثبتة في ديوانَي الشاعرين. وإذا كان لذلك من دلالة، فهي أن هاجس العباس الأهم، كان يتمثل في إعادة الاعتبار للشعر العذري بوصفه الحلقة المفقودة في الحب العباسي، إضافة إلى أنه أراد في ظل القامات الشاهقة لأبي نواس وأبي تمام وغيرهما، أن يحقق عبر الحب العذري، ما يمنحه هويته الخاصة ويمهد له الطريق إلى الخلود. وهو ما يظهر في قوله إن التجربة التي اختبرها سوف تكون «سنناً للناس»، أو قوله: «وصرنا حديثاً لمن بعدنا، تحدّث عنا القرونُ القرونا».

وإذ يقارب المستشرق الفرنسي جان كلود فاديه في كتابه «الغزل عند العرب»، تجربة العباس من زاوية كونها خروجاً على التجارب الحسية البحتة لمعاصريه، يتوقف ملياً عند حبه لفوز، متسائلاً عما إذا كانت الأخيرة قد وُجدت حقاً، أم أن الشاعر قد ألفها من عنديات توقه للمرأة الكاملة. وإذا كان فاديه قد رأى في فوز المعادل الشرقي لبياتريس، حبيبة دانتي في «الكوميديا الإلهية»، فإن النموذج الغزلي الذي راح العباس ينسج على منواله، هو نموذج عربي بامتياز. وحيث كانت البيئة الحاضنة لشعره خالية من البوادي المقفرة والفقر المدقع، فقد استعاض الشاعر عن الصحراء المحسوسة، بصحراء الحب المستحيل الذي يلمع كالسراب في أقاصي العالم، موفراً له ما يلزمه من بروق المخيلة ومناجم الإلهام.

ومع أن العباس كان يسير عبر قصائده الغزلية والعاطفية، في اتجاه معاكس لنظرائه ومجايليه من الشعراء، فإن من يقرأ ديوانه لا بد أن ينتابه شعور ما، بأنه ليس إزاء شاعر واحد متجانس التجربة والمعجم والأسلوب، بل إزاء نسختين أو أكثر من الشخص إياه. فهناك القصائد الطويلة المترعة بالحسرة والوجد، التي تحتل فوز مكان الصدارة فيها، وهناك بالمقابل النصوص القصيرة ذات المعاني والمفردات المستهلكة، التي يدور معظمها حول مغامرات الشاعر العابرة مع القيان والجواري. إلا أن ما يدعو إلى الاستغراب هو أن يكون بين المنظومات المهداة إلى فوز ما هو متكلف ومستعاد وسطحي، كمثل قوله:

أيا سيدة الناسِ

لقد قطّعت أنفاسي

يلوموني على الحبّ

وما في الحب من باسِ

ألا قد قدُمتْ فوزٌ

فقرَّت عينُ عباسِ

رغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، ومعظمهن من الجواري فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي

ولعل الأمر يجد تفسيره في كون العباس لم يحصر اسم فوز في المرأة التي محضها قلبه، بل استعاره لغير واحدة من نسائه العابرات. إضافة إلى أن رغبته بأن تصدح بهذا الاسم حناجر المغنين والمغنيات، جعلته يتنازل عن سقف شعريته العالي، لمصلحة النصوص السهلة والصالحة للغناء، خصوصاً أن احتفاء عصره بهذا الفن، لم يكن موازياً لاحتفاء الأمويين به فحسب، بل كان متجاوزاً له بفعل التطور والرخاء واختلاط الشعوب والثقافات.

وعلينا ألا نغفل أيضاً أن النزوع النرجسي للعباس، قد دفعه إلى أن يصيب بقصائده ومقطوعاته أكثر من هدف. فرغبته في أن يحاكي التجربة الفريدة لعمر بن أبي ربيعة، والتي جعلته يكرس بعضاً من النصوص لسرد فتوحاته ومغامراته العاطفية التي يواجه فيها المخاطر ليظفر بامرأته المعشوقة، لم تحل دون رغبته الموازية في التماهي مع تجارب العذريين الكبار، وما يستتبعها من بوح صادق وشفافية مفرطة.

إلا أن المقارنة بين النموذجين الحسي والمتعفف في تجربة الشاعر، لا بد أن تصبح في مصلحة هذا الأخير، حيث يذهب العباس بعيداً في الشغف وحرقة النفس، وفي الأسئلة المتصلة بالحب واللغة والفراق والموت. وهو إذ يحول العناصر والمرئيات مرايا لروحه الظامئة إلى الحب، تتراءى له فوز في كل ما يلوح له من الأشياء وظواهر الطبيعة، حتى إذا أبصر السيل منحدراً من أعالي الهضاب، تذكر أن ثمة في مكان قريب، حبيبة له «مسيلة» للحنين والدموع وآلام الفراق، أنشد قائلاً:

جرى السيلُ فاستبكانيَ السيلُ إذ

جرى وفاضت له من مقلتيّ سروبُ

وما ذاك إلا حيث أيقنتُ أنه

يمرُّ بوادٍ أنتِ منه قريبُ

يكون أجاجاً دونكمْ فإذا انتهى

إليكمْ تلقَّى طيبكمْ فيطيبُ

أيا ساكني شرقيّ دجلةَ كلُّكمْ

إلى النفس من أجل الحبيب حبيبُ