«السقراطيّة الجديدة»... عودة الفلسفة إلى الجمهور

على الفيلسوف ألا ينسى أنّ قيمته الفعليّة مستمدة من مدى تأثيره في الجمهور

سقراط
سقراط
TT

«السقراطيّة الجديدة»... عودة الفلسفة إلى الجمهور

سقراط
سقراط

بدأت الفلسفة، وفق ما يخبرنا الكُتّاب الأوروبيّون في شوارع أثينا القديمة، عندما كان سقراط (470 ق.م – 330 ق.م)، المعلّم المحبوب يجتمع بالشبان، وبعضهم من علية القوم مثل أفلاطون وإلسبيادس، ويتحداهم لمساءلة الأوضاع القائمة للعالم من حولهم، في السياسة والطبقات، كما في الأخلاق ومعنى الوجود، طارحاً عليهم أسئلة أساسيّة، ما زالت إلى يومنا هذا موضع أخذ وردّ. وعلى الرّغم من أن سقراط لم يترك إرثاً مكتوباً - إذ نعرف عنه من خلال ما دوَّنه تلميذه أفلاطون - فقد شكلت هذه المجموعة الصغيرة من الشبّان الأثينيين محبِّي الحكمة الذين تحلقوا حول معلمهم المثير للجدل، نواة ما يُعرَف بالفلسفة (الغربيّة)، وأطلقت إلى الفضاء العام في مدينة أوروبيّة بارزة حينئذ مساراً يعتبر الحياة بغير بحث وحديث وشكّ غير جديرة بأن يحياها أيّ إنسان - أقلّه من غير العبيد - ونهجاً منفتحاً للتفكير والتفلسف مع الجمهور وله، خارج الأبراج العاجيّة للأكاديميّات والمدارس العليا.

على أن هذا المزاج الديمقراطيّ في التفكّر التفاعليّ بشؤون الحياة والمجتمع ما لبث أن انزوى تدريجيّاً مع غياب سقراط بقبوله تعاطي السمّ، وفق حكم نخبة أثينا عليه - لإفساده عقول الشبان - وانسحبت الفلسفة تالياً إلى أروقة الخاصّة وغرف الدّرس المنعزلة ومجالس الأثرياء المتنورين، ولم يعد متوقعاً، ولا مسموحاً للعامة، بعبور بوابة العوالم الفلسفيّة، لا بلّ أصبح جزء من الإعداد الفلسفيّ يتعلّق بالتّدريب على استخدام لغة ومصطلحات مغلقة على الجمهور يقتصر إدراكها على ذوي الاختصاص، لا سيّما في العصور الوسطى؛ أي عندما وجد المتعاطون للفلسفة أنّ السلامة في المجتمعات التي تهيمن عليها الأديان تقتضي إبقاء العامة (والسلطات) عند مستوى الظاهر حصراً.

عزل الفلسفة (الغربيّة) - وحاملها العربي/ الإسلامي خلال عصور الظلام الأوروبيّة - عن العامّة، زرع في ذهن الجمهور ردّة فعل سلبيّة تجاه الخطاب الفلسفي بعمومه، وأصبح تعاطيها عند رجل الشارع - وغالب أرباب السلطة - كناية عن إزجاء الوقت بما لا طائل من ورائه، ولا منفعة عمليّة، ومهنة من لا مهنة له.

وقد استمرت هذه الحال إلى وقت قريب، رغم محاولاتٍ بذَلها بعض فلاسفة الأنوار، ولاحقاً كارل ماركس، ورفيقه فريدريك إنجلز، خلال القرن التاسع عشر، لتقريب بعض المفاهيم الفلسفيّة الأساسيّة للناشطين من العمّال والنّقابيين، لكّن تلاميذهما ما لبثوا وخلعوا على الممارسة الماركسيّة للفلسفة غموضاً نخبوياً، وانتهت الماركسيّة بدورها كما أنظمة التفكير الفلسفيّ الأخرى، نادياً مغلقاً على الخاصّة والمتفرغين.

قفزات الألفية الثالثة

وإذا كان الفلاسفة في القرن العشرين قد نجحوا - لعوامل عدّة متقاطعة - في نيل مكانة أكثر قبولاً من الجمهور، وتحوّل بعضهم مثل جان بول سارتر، وجيل دولوز، إلى مشاهير، إلا أنّ ذلك لم ينعكس بالضرورة على الخطاب الفلسفي (الغربيّ)، الذي ظلّ إلى حد بعيد نخبوياً ومتحذلقاً، وساعدت السلطات - لأسباب مفهومة وبشكل مباشر أو غير مباشر - في تكريس إبعاده عن الحياة اليوميّة للمواطنين. ولعلّ قراءة أي عمل لدولوز مثلاً تُظهر سريعاً استغلاق المقاصد على غير المتخصص، والحاجة إلى تدريب مستفيض قبل الإقدام على محاولة عبور النّص واستكناه معانيه.

على أنّ اقتراب الألفيّة الثالثة جلب معه قفزات هائلة في العلوم النظريّة بالاستفادة من تطور تكنولوجيا الاتصال والذكاء الاصطناعي وأدوات البحث العلمي على نحو انتقلت معه مادة العمل الفلسفيّ، ربما من دون اسمها، إلى مجالات الفيزياء وعلوم الأعصاب والجيولوجيا والآثار والرياضيّات والعقول الإلكترونيّة والقانون، فيما انتهت مدارس الفلسفة بالأكاديميات الغربيّة دون مادتها إلى الارتباك، وانقسمت بين الفضاءات الرئيسة الثلاثة لها الألمانية والفرنسيّة والأنجلوسكسونية، إلى مجالات غير مترابطة: في مكان ما تسعى إلى وضع معايير محددة للدّقة أو العدالة أو الحقيقة، دون أن يعبأ بها أحد، وفي مكان آخر تعمل على معالجة قضايا نظرية أو عملية موغلة في التخصص بحيث يتعذّر الاستفادة من معطياتها، أو هي في مكان ثالث لا تزيد عن مصانع خريجين خبرتهم مضغ التراث الفلسفي المتراكم منذ «جمهوريّة» أفلاطون، وكتابة مطولات في المقارنة بين المدارس الفلسفيّة لا يقرؤها أحياناً سوى أفراد معدودين على الأصابع، وينتهي أغلبهم إلى تولّي وظائف في البنوك، أو يعملون مساعدين للسياسيين.

سارتر

على أنّ ثمة شبحاً جديداً يحوم، اليوم، في سماء الفلسفة الغربيّة: الفلسفة الشعبيّة. لقد أدرك بعض أساتذة الفلسفة المعاصرين عبث خروجهم التاريخي عن نهج سقراط، وانطلق بعضهم في البحث عن مناهج وقنوات لأخذ منافع ما تبقّى من مادة علمهم إلى الجمهور، وطرح أفكار حول طرائق يمكن من خلالها لغير المتخصصين - أفراداً ومجموعات لا بل ومجتمعات - الاستفادة من الفلسفة في تفكيك علاقة الإنسان بالعالم حوله، في ظلّ انتهاء الأفكار اليقينيّة الكبرى التي استعان بها أجدادنا على تمضية الوقت، والقناعة المتزايدة باستحالة التنبؤ بالمستقبل بأي درجة مقبولة من الدّقة. فظهرت في ألمانيا مثلاً مدرسة «التوجه أو Orientation Philosophy» التي أطلقها البروفسيور ويرنر ستيغماير وتلميذه الدكتور راينهارد موللر وتخاطب أساساً الأفراد غير المتخصصين، وتمكِّنهم من استخراج خلاصات عمليّة من مجمل النتاج الفلسفي المتراكم، وتوظيفها بعيداً عن المسائل المغرقة في التجريد، للنظر في وسائل أكثر نجاعة عند إدارة تموضعهم من العالم والأشياء والناس والأحداث، ومنح إنسان القرن الحادي والعشرين الأدوات للتعاطي مع المؤقت والعابر والمتغيّر، وتحسين قدرته على اتخاذ القرارات في أجواء عدم التيقّن الغالبة، مع محاولة القبض على الكيفيّة التي تكتسب فيها تلك القرارات (العمليّة) قيمة معنوية وأخلاقية، وكيف تتأثر بالظواهر المستجدّة للعولمة والرّقمنة، وأسرار علاقتها بالميتافيزيقا، ودائماً دون توقع أسباب أو مبررات أو تقييمات عالمية سرمديّة الطابع. أما في فرنسا، فقد توسعت ظاهرة «الفلسفة الشعبيّة» أو «مقاهي سقراط»، وعمد فلاسفة جدد مثل روى مارك سوتيه إلى تعميم الممارسة الفلسفيّة، عبر إصلاح لغة الخطاب الفلسفيّ باعتماد نماذج مبسطة تمكِّن الإنسان العاديّ من استيعاب مغازيها، وكذلك بطرحها موضوعات راهنة وعمليّة، واستخدام قنوات متعددة للربط مع الجمهور، سواء من خلال وسائل الإعلام، أو مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، أو حتى من خلال المقاهي الفلسفيّة، ونزول الفلاسفة من معتزلاتهم إلى الشارع مجدداً. أما في الحيّز الأنجلوساكسوني فقد تبلور ما يُعرَف بـ«الفلسفة العامّة»، وهما فعلياً مدرستان متوازيتان، إحداهما تستهدف جلب الفلسفة إلى حيّز الفضاء العام، عبر تقديم معالجات لمسائل مطروحة وآنيّة في السياسة والقضايا الاجتماعية وأخلاقيات العلم والقانون ومن أشهر ممثليها كورنيل ويست ومارثا نوسباوم وجاك راسيل وينشتاين (ويوازيهم في ألمانيا يورغان هابرماس)، والأخرى بجلب الفلاسفة أنفسهم إلى الأماكن العامة، والانخراط في نقاشات فلسفيّة مع الجمهور غير المتخصص ضمن بيئات غير أكاديميّة على فلاسفة مثل الناشطة جين آدم والسلوفيني سلوفاج جيجيك.

عودة متأخرة لسقراط

جيل دولوز

وتطرح هذه العودة المتأخرة للفلسفة إلى الطريقة «السّقراطيّة» تساؤلات حول التأثيرات بعيدة المدى للاشتباك المُستعاد بين «محبة الحكمة» والجمهور العام، فهل سينعكس توسيع نطاق الجدل الفلسفيّ وقاعدة المنخرطين به إيجاباً على «المحتوى»، أم أنّه سيؤدي في المحصّلة إلى ابتذال الخطاب، وانخراط الفلسفة في دوامة الشعبوي والمسيَّس والمنفعل؟

إن الفلسفة، اليوم - بعد أن فقدت حصريتها في تعاطي الأسئلة الكبرى لمصلحة العلوم الصاعدة - تتطلب أن يصبح الفيلسوف تلميذاً للمعرفة المجتمعية، وألا ينسى أنّ قيمته الفعليّة مستمدة من مدى تأثيره في الجمهور، وأنّه في النهاية جزء من هذا الجمهور، مع الإقرار بأن المحتوى الفلسفيّ يمكن أن يستفيد بقدر كبير من التواصل مع الفضاء العام، أقله لناحيّة طرح الأسئلة، أو إعادة صياغتها، تماماً كما يمكن للجمهور أن يستفيد من الاحتكاك بالفلسفة في العثور على إجابات قد تكون أكثر عقلانيّة - بمعنى التغلّب على الأحكام المسبقة، والمعلومات المضللة، والمنطق الخاطئ، والمواقف الغريزية - تجاه التحديات التي تستمر الحياة باستيلادها له. وقد يكون ذلك أفضل ردّ اعتبار للحكيم سقراط من نخبة أثينا، التي أرعبها أن يبدأ العامة التفكير وطرح الأسئلة.



تجليات الحب العذري في حياة الجاهليين وأشعارهم

غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في  العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"
غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"
TT

تجليات الحب العذري في حياة الجاهليين وأشعارهم

غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في  العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"
غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"

إذا كانت ظاهرة الحب العذري في الحقبتين الراشدية والأموية قد أثارت الكثير من اللبس والغبار النقدي في أوساط الباحثين وأهل الاختصاص، فإن هذَين اللبس والغبار قد تضاعف منسوبهما فيما يخص الحقبة الجاهلية، التي بدت أكثر مَدعاةً للبلبلة والإرباك من الحقبة التي تلتها، أما مصدر هذا الإرباك فمُتأتٍّ عن الصورة النمطية التي رسمها المؤرخون على نحوٍ عامّ للعصر الجاهلي، حيث انسحب الجهل بالدين الجديد على كل ما يخص ذلك العصر، فتم استدعاء الطباقات المختلفة لتزيين التعارض المانوي بين الحقبتين، فوُضع الحِلم مقابل الجهل، والروح مقابل الجسد، والحب المتعفِّف مقابل الجموح الشهواني.

ولعل في قصص الحب المؤثرة التي عاشها الشعراء الجاهليون ما يؤكد أن الحب الجسدي لم يكن وحده سيد الساحة آنذاك، بل شهدت تلك المرحلة، إلى جانبه، وجوهاً شتى للتعفُّف والتصعيد العاطفي، والانقطاع لامرأة واحدة، ومن بينها القصة الأكثر شهرةً التي جمعت بين عنترة بن شداد وابنة عمه عبلة.

والواقع أن الفضل في ذيوع تلك القصة يعود إلى شخصية عنترة بالذات، وهو الذي آثر الرد على سَواد لونه وشعوره المُمِضِّ بالدونية على استعلاء بني عبس، عبر «تبييض» صورته في عيون قومه، متخذاً من شجاعته الخارقة ودفاعه المستميت عن حبه لعبلة وسيلته الأنجع لصُنع أسطورته.

ولم تكن شجاعة عنترة هي السبب الوحيد لتحوُّله في الأزمنة اللاحقة إلى رمز قومي، بل قدرته الفائقة على أن يُخرج الفروسية من ساحة المعركة إلى ساحة الحياة نفسها، وأن يوائم بين المفارَقات، فيجمع بين الفحولة الجسدية وشفافية الروح، وبين قوة الشكيمة وعذوبة القلب.

وفي أكثر فصول معلّقته صلة بالملاحم يحوّل عنترة جمال عبلة الطيفي إلى تعويذة رمزية تعصمه من الهلاك، حيث يتداخل لَمعانُ السيوف بلَمعانِ ثغر الحبيبة، ويصبح تتيُّمه بالأخيرة وقوفاً على خط التماسّ الأكثر خطورةً بين الحب والموت.

اللافت في شخصية عنترة أن نزوعه التعفُّفي بدا متأصلاً في تكوينه وطباعه، حيث نقل الأصفهاني عنه رفضه الإذعان لإرادة امرأة أبيه التي تحرَّشت به في صباه، حتى إذا شعرت بالمهانة بعد صَدِّه لها فعلت ما فعلَته زُليخة بيوسف، فاشتكته إلى أبيه، الذي غضب غضباً شديداً وضربه بالسيف، فوقعت عليه امرأة أبيه وكفَّته عنه. كما يبدو عنترة من شعره أنه كان عُذرِيَّ الهوى أبِيَّ النفس كثير الحياء، وهو القائل:

وأغُضُّ طرفِي ما بدَت ليَ جارتي

حتى يُوارِيَ جارتي مأواها

إني امرؤٌ سَمْحُ الخَليقةِ ماجدٌ

لا أُتبعُ النفسَ اللجوجَ هواها

أما عبد الله بن عجلان النهدي فقد كان واحداً من أسياد قومه، ويعيش مع زوجته هند حياةً هانئة استمرت سنوات سبعاً، قبل أن يطلب إليه أبوه أن يطلّقها لأنها لم تنجب له أولاداً، مهدِّداً إياه بالتبرؤ منه إن لم يفعل، وحين رفض عبد الله الاستجابة لطلبه لجأ الأب إلى استخدام الحيلة، فدعا ابنه إلى مجلس للشراب، حتى إذا تعتع ابنَه السُّكْرُ قام بتطليق زوجته، التي انبرى ذَوُوها وقد شعروا بالإهانة إلى تزويجها من أحد رجال بني نُمَير، وعبثاً حاول الأب أن يُقنع ابنه المكلوم بالارتباط بأي فتاة أخرى، حيث راح الأخير يبحث عن ضالّته بين ثنايا القصائد والحسرات، وبينها قوله:

ألا حيِّيا هنداً إذا ما تَصدَّفتْ

وقلبُكَ إن تنأى بها الدارُ مُدْنِفُ

فلا هندَ إلا أن يُذكِّر ما مضى

تَقادُمُ عصرٍ، والتذكُّرُ يشغفُ

ولم أرَ هنداً بعد موقف ساعةٍ

بنُعمانَ في أهل الدّوارتُطوِّفُ

أتت بين أترابٍ تَمايَسْنَ إذ مشَت

دَبِيبَ القَطا أو هنَّ منهنَّ ألطَفُ

وإذ تشاء الصُّدَف أن تنشب بين بني نهد وبني عامر، قبيلتَي عبد الله وهند، معاركُ ونزاعات ضارية كانت نتائجها سجالاً بين الطرفين، عمدت هند، وقد أعدّت قبيلتُها العُدّة لغزو خصومها، وخافت على عبد الله من أن يصيبه مكروه، إلى إرسال مَن يُحذِّر النهديِّين من مباغتة قومها لهم، وهو ما قلَب نتيجة المعركة، وأدى إلى هزيمة بني عامر.

ويُضيف الرواة أن عبد الله، وقد اشتد به السقم، خرج مُغافِلاً أباه في خضم الحرب المشتعلة، وقصد منازل بني نُمَير حيث تقيم هند، حتى إذا التقى الحبيبان وعانق كل منهما صاحبه بالنشيج والأسى، سقطا على وجهَيهما ميتَين.

ولا تخرج قصة حب المرقش الأكبر لابنة عمه أسماء بنت عوف عن السياق الدراماتيكي لقصص الحب العذري في البيئة الجاهلية، فقد طلب عوف، عم الشاعر وأحد الفرسان المُبَرَّزين في بني بكر بن وائل، من ابن أخيه أن يتمرّس في القتال، كشرط أساسي لتزويجه من ابنته، في ظل استشراء حرب البَسوس بين بكر وتغلب، وإذ أذعن الفتى العاشق لرغبة عمه، والتحق بأحد الملوك فمدحه ونال أعطياته، وتدرّب عنده على القتال، نكث عوف بوعده، وزفَّ ابنته إلى أحد أثرياء بني عطيف مقابل مائة من الإبل، وحين عاد المرقش من رحلته عمد والدها إلى تلفيق رواية كاذبة حول موت الفتاة بمرض مفاجئ، ثم دعا ابن أخيه إلى زيارة قبرها المزعوم، بعدما كان قد ذبح كبشاً ودفنه في المكان إياه.

إلا أن المرقش ما لبث أن اكتشف الحيلة التي دبّرها له عمه في غيابه، فظلّ يطارد أسماء، حتى اهتدى في نجران إلى راعٍ للماعز، شاءت الصُّدَف أنه كان يرعى قطيعاً يخص زوج حبيبته، ثم أرسل خاتمه إلى أسماء، فعرفت صاحبه للتوِّ، وألحّت على زوجها أن يذهبا إليه، فأذعن للأمر، وإذ عثرا عليه في أحد الكهوف كان المرض قد أتلف جسمه تماماً، فحملاه إلى منزلهما قبل أن يقضي الحبيبان نحبَهما في وقت لاحق. وقد كتب المرقش في حب أسماء قصائد ومقطوعات كثيرة، بينها قوله:

أَغالِبُكَ القلبُ اللجوجُ صبابةً

وشوقاً إلى أسماءَ، أم أنتَ غالِبُهْ

يَهِيمُ ولا يَعيا بأسماءَ قلبُهُ

كذاك الهوى أمرارُهُ وعواقبُهْ

وأسماءُ هَمُّ النفس إن كنتَ عالماً

وبادِي أحاديث الفؤادِ وغائبُهْ

وإذا كان لنا ما نلاحظه حول القصتين الأخيرتين، فهو أن الحب العذري ليس مطابقاً بالضرورة للحب الأفلاطوني واللاجسدي، بدليل أن كلاً من هند وعبد الله قد تقاسما السرير نفسه لسنوات عدة، قبل أن تقودهما التقاليد والظروف الصعبة إلى الانفصال.

في قصص الحب المؤثرة التي عاشها الشعراء الجاهليون وجوه شتى للتعفُّف والتصعيد العاطفي والانقطاع لامرأة واحدة

كما تؤكد القصة الثانية أن الحب العذري لم ينشأ في صدر الإسلام كما ذهب الكثيرون، وإن كانت تعاليم الإسلام الحاثّة على التعفّف وكبح الشهوات قد ضاعفت من انتشاره، بل هو أحد التجليات السلوكية والاجتماعية والنفسية لعالَم الصحراء المحكوم بالقسوة والعنف والترحّل والعَوَز المادي، وما يستتبعه ذلك من نزوع إلى قهر النفس وتعذيب الذات.

كما أنه ليس أمراً بلا دلالة أن تكون قصة قيس بن ذريح وزوجته لُبنى نسخة مطابقة لقصة ابن عجلان وزوجته هند، سواء من حيث غضب الأب والطلاق بالإكراه، والارتباط الانتقامي برجل آخر، وصولاً إلى النهاية المفجعة للعاشقَين، أو أن تكون قصة عروة بن حزام وحبيبته عفراء في العصر الراشدي مماثِلةً تماماً لقصة المرقش وأسماء، حيث عروة الذي مات أبوه باكراً يتربّى في كَنَف عمه ويعشق ابنته، ويواجه من الصعوبات ما يطابق قصة المرقش المأساوية.

وإذا كان ذلك التماثل يعود من بعض وجوهه إلى تشابه الظروف أو غرابة المصادفات، فإنه يَشِي في الوقت ذاته بتدخل الرواة المتأخرين في «تكييف» الوقائع والأحداث بما يتناسب مع العصر الذي سبق، والذي ظل بالنسبة لهم، وبالرغم من التغييرات الدراماتيكية التي أحدثها الإسلام، النموذجَ التأسيسي للشعرية العربية، ولما يماثلها في الحياة وأنماط السلوك والرؤية للعالم.