أنا روائية في المقام الأوّل. هكذا عرفتُ نفسي وميولي الطبيعية منذ بواكيري الأولى؛ لذا سيكون أمراً طبيعياً ومتوقعاً أن أتابع الأدبيات المختصة بالفن الروائي تاريخاً وتقنيات، فضلاً عن الإلمام بالممكن والمتاح من الإصدارات الروائية العالمية وهي كثيرة ومتنوعة المشارب. هذه الكثرة تفرضُ حتمية القراءات المنتقاة. أنتَ في النهاية لن تستطيع قراءة كل إصدار روائي حديث. لكلّ مهتم بالرواية مقاربتُه الذاتية: البعضُ يتابع أسماء بعينها لشيوعها ورسوخها عبر سنوات عديدة من النشر، وهناك بعضُ القرّاء ممّن يكتفي بالمترجَم إلى العربية، لأن لا سبيل له إلى قراءة لغة سواها، والبعض الآخر يقرأ نتاجاتٍ سبق أن قرأ لها تقريضاً في مراجعات الكتب العالمية. أنا من هذا الصنف الأخير. أقرأ في العادة روايات سبق أن أطراها نقّادٌ مرموقون ومعروفون برفعة صنعتهم النقدية ورؤيتهم لمكامن الإبداع في الأعمال الروائية.
تعلّمتُ منذ سنوات عدّة أنّ كسر القاعدة السائدة ربما يأتي معه خيرٌ لم أتوقّعه. عندما نقرأ وفقاً لتوقعات مسبقة فنحنُ نهمّشُ عنصر المفاجأة بكلّ ما ينطوي عليه من إمكانات غير محسوبة قد تدفعنا للاندهاش وترديد عبارة: ما هذا الجمال الكتابي الذي أراه؟ لماذا لم أقرأ لهذا الكاتب/ الكاتبة من قبلُ؟ لكن برغم ذلك ليس من المُجْدي تحويل كامل فعالية القراءة إلى مغامرات في المجهول قد تنتهي بصيد طيب في أحايين قليلة، أو صيد هزيل معظم الوقت. المقاربة الأفضل - كما أرى - هي القراءات المخطط لها بصورة مسبقة مع تنويعات في القراءة الروائية تتضمّنُ بعضاً قليلاً من قراءات غير مخطط لها. الوقت ليس منحة مجانية لنا مثلما أنّ طاقتنا الجسدية وقدرتنا العقلية ليستا مفتوحتي النهايات من غير حساب.من تلك القراءات القليلة غير المخطط لها أختارُ كلّ بضعة شهور بعضاً من الروايات التي تُصنّفُ في قوائم الكتب الأكثر مبيعاً (البيست سيلرز Bestsellers): روايات ستيفن كينغ ودان براون وجّيْ . كَيْ. رولينغ وغيوم ميسو وآخرين على شاكلتهم. أعرفُ أنّ «البيست سيلرز» لعبة ماكرة تلعبها أطراف عدّة تتخادم فيما بينها على اقتناص المزيد من المال والسطوة في سوق الرواية العالمية الرائجة؛ لكني أحدّثُ نفسي: المواقف المسبّقة خطأ جوهري. قد يكسر فلان أو فلانة توقعاتك.
قرأتُ في سنوات سابقة بعضاً من روايات ستيفن كينغ، وكلّ الروايات المنشورة لدان براون. قناعتي التي انتهيتُ إليها هي أنّ دان براون هو أفضلُ روائيي الكتابة التشويقية ممّن يحققون مبيعات مليونية؛ لكنّ التشويق يبقى لديه هاجساً مسبقاً بدلاً من أن يكون عنصراً تعضّده عناصر أخرى في الكتابة الروائية. حدّثتني نفسي أن أجرّب قراءة الفرنسي غيوم ميسو. قرأت له روايتيْن (حياة الكاتب السرية) و(الحياة رواية). تبدأ الروايتان بدايات واعدة تدفعك للقول: ربما هناك ما هو ثري من الخبرة والمتعة بعد هذه البدايات الواعدة؛ لكنّ الأمر ذاته يتكرّر مع أغلب الروايات الأكثر مبيعاً. تنحلُّ الرواية إلى واقعة بوليسية مشحونة بعناصر الترقّب أو ما يصطلحُ عليه بالتشويق (Suspense).
مثال أغاثا كريستي
جرّبتُ قبل بضعة أشهر كذلك قراءة رواية مترجمة عنوانها «المعادلة الإلهية» كتبها الروائي البرتغالي خوزيه آر. دوس سانتوس. كان دافعي لقراءتها عنوانها الذي يوحي للقارئ بشيء من محاولات الفيزيائيين في بلوغ النظرية النهائية (The Final Theory) في توحيد القوى الكونية، وربما أضافت صورة آينشتاين على الغلاف نوعاً من الدافعية لقراءة الرواية. وظّف الروائي في بداية روايته شيئاً من الأفكار الفيزيائية بحديثه عن القنبلة النووية والحدود القلقة بين صانعي العلم والتقنية من جهة، وصانعي السياسات التنفيذية من جهة أخرى. تنتهي الرواية آخر المطاف إلى أن تكون عملية مطاردة بوليسية تكاد تقاربُ حدود الفعل الصبياني وحذلقات لاعبي السيرك.
تصلحُ أغاثا كريستي لأن تكون مثالاً نموذجياً في هذا الشأن. ربما تكون كريستي الكاتبةَ التي تسيّدت عقول معظم القرّاء في بواكير شبابهم. هذه حقيقة عالمية وليست محلية؛ فقد بيع من رواياتها ما يقاربُ المليارين من النسخ، وبهذا تكون كتبها الأكثر مبيعاً على مستوى العالم بعد كتب شكسبير. هذا ما تخبرنا إياه الإحصائيات العالمية المعتمدة.
لم أحب أعمال أغاثا كريستي قط. ما تكتبه مشوّقٌ بالتأكيد لكثرة من القرّاء الذين لستُ واحدة منهم. هل سأجادلُ أنّ كتابات كريستي غير مشوّقة؟ هذا خطأ بالتأكيد. هي مشوّقة لكثرة من القرّاء الذين يتجاوزون المليارات؛ لكنها ليست مشوقة للجميع وفي كل الأزمان.
التشويق ليس وصفة مثل مطيبات الطعام، وليس سلسلة من الاستراتيجيات الكتابية. يمكن القولُ إنّ التشويق المكثف ينحصرُ في الروايات البوليسية وبعض روايات الخيال العلمي وكتب المغامرة والاستكشاف، وهي في غالبها ممّا يتوق له الفتيان والشباب.
تفاصيل عديدة يمكن إثارتها بشأن التشويق في الكتابة. التشويق ليس ميداناً لألاعيب السحرة مثلما هو ليس صنعة يختصّ بها الكاتب وحده؛ بل هو عملية تخصُّ القارئ أيضاً. تتحقق الفاعلية التشويقية عندما يلامس الكاتب وتراً في قلب القارئ وعقله، ولن يتحقق هذا الأمر إلا إذا كان القارئ يمتلك تطلعات ذهنية ومعرفية في الميدان الذي يكتب فيه الكاتب. هنا سينكشف السبب الذي يجعل من الروايات البوليسية والخيال العلمي الجارف والمغامرة الميدانَ الأولَ الذي يجعله الكاتب ساحة تجريبية لمغامراته الكتابية: هذا الميدان لا يتطلّبُ إعدادات معرفية مسبقة ومكثّفة، وكلّ ما يتطلبه الأمر هو أن يترك القارئ نفسه تنسابُ مع العمل مثل جذع شجرة يابسة تجرفها المياه الدافقة في نهر فائض. مشاركة القارئ تستلزم ألا يكون عنصراً حيادياً أو سلبياً (Passive)، وهذا ما لا يريده معظم القرّاء. ثمّة كثرةٌ من القارئات والقرّاء تتطلّعُ إلى جعل الرواية ميداناً يتفلّتون فيه من قيود الواقع واشتراطاته القاسية. الرواية عند هؤلاء لعبة إيهامية تتجاوز حدود تفعيل الخيال الخلاق إلى تعطيل الحواس والانسياق مع لعبة المطاردة البوليسية. الرواية قد تستحيل لدى هؤلاء لعبة حاسوبية تستغرق ساعات ينسى فيها المرء نفسه وسط متاهة مطاردات وأفعال خشنة تكتنفها - في أغلب الأحايين - رائحة جثث ودماء ومشاهد قتلٍ مريعة.
التشويق ليس مقصوراً على ميدان الرواية. جرّب أن تتصفح منشورات «الأمازون» وسترى العجب: دفقٌ متعاظم لا ينتهي من الكتب التي تتناولُ شتى الموضوعات وأدق التفاصيل. أتساءل دوماً: لِمَنْ كُتِبت هذه الكتب؟ يوجد في العالم ما يتجاوز السبعة مليارات من البشر، ولن يكون صعباً وجودُ بضعة آلاف أو عشرات آلاف ممّن يجدون هذه الأعمال مشوّقة لهم. قد لا تجدها أنت كذلك؛ لكنّ مسوّقي الكتب سيقولون لك: هذا شأنك مثلما للآخرين شأنهم. نحنُ أدرى بسوق الكتب و«ما يطلبه القارئون!!». الإحصائيات لدينا تتحدّث وتتحوّل إلى سياسات تسويقية نجني منها أرباحاً مجزية. الأرقام لا تكذب (Numbers Don't Lie). لسنا مجموعة ساذجين لننشر كتباً لن يقرأها أحد.
عقولنا ليست نسخاً متشابهة خرجت من مصنع تعليب واحد، ومن الطبيعي أن تكون استجابتنا متباينة للأعمال المكتوبة، روايات كانت أم غيرها، وسيكون أمراً لازماً أن نتواضع عند الحديث عن تجارب سوانا بدل القفز إلى تعميمات مجانية تلصق التشويق بكتاب دون آخر، أو بكاتب دون سواه. أنت لست مرجعية في التشويق. كلٌّ منّا هو مرجعية ذاته في نهاية الأمر.
ما أريد قوله باختصار هو التالي: التشويق ليس مثلبة روائية؛ لكن عندما يتحوّلُ إلى هاجس مسبّق أحادي ومتفرّد عند الكاتب فتلك هي المثلبة بعينها. يعتمد الروائيون المهجوسون بعنصر التشويق دون سواه استراتيجية كتابية تقوم على المشهديات المصممة لتكون عناصر في سيناريو فيلم هوليوودي. قد يحقق هؤلاء مبيعات مليونية. ليس هذا دليل مهارة روائية، بل هي بعض مفاعيل قانون العرض والطلب في سوق مفتوحة توصف في الأدبيات الاقتصادية بأنها «سوق حرّة»؛ لكن قلّما تناول أحد النقّاد المَهَرَة هذه الروايات بمبضعه التشريحي لأنهم لا يعدّونها روايات رصينة.
أحادية السياق في الكتابة الروائية هي إحالة مباشرة وتذكرة فورية بعصر بداية الكتابة الروائية. هنالك سياقات متعددة وأكاد أقول أنساقاً متعددة في الكتابة الروائية الحديثة التي انبثقت في حقبة ما بعد الرواية الحداثية، ومن تلك الأنساق – بل وفي مقدمتها: التراكيب الزمنية اللاخطية والتداخلات المكثفة في الزمان والمكان بما قد يشي بنمط من التشظية القصدية للعمل الروائي. لم تعُد الرواية كتلة صلدة من الحقائق أو الأفكار أو التوصيفات الراكزة في حيز محدد من الزمان والمكان، بل صارت السيولة والانزياحات المستمرة هي الاستراتيجية المعتمدة. هذا أمرٌ تلازم بالتأكيد مع التطوّرات الثورية في العلم والتقنية وضرورة تدريب العقل البشري على معايشة فكر التغيّر الحثيث والزحزحات المستديمة. الرواية في نهاية الأمر ليست جسماً غريباً عن هذا العالم؛ بل هي إحدى الوسائل العضوية لعكس رؤيتنا عن هذا العالم في محاولة فهمه بكيفية تبعث - قدر الاستطاعة وكلّما أمكن هذا - على النشوة والإمتاع.
قد تساعد بعض الحِيَل التشويقية واللمسات البوليسية في كتابة رواية تبيع بالملايين؛ لكنّ هذه الحِيَل ما كانت – وأحسبها لن تكون يوماً ما – وسيلة لانضمام كُتّابها إلى نادي كِبار الروائيين.