جين فوندا لـ«الشرق الأوسط»: هوليوود تغيّرت لكن حماسي للقضايا لم يختلف

لديها قضية جديدة تدافع عنها

جين فوندا (أرشيف «كان»)
جين فوندا (أرشيف «كان»)
TT

جين فوندا لـ«الشرق الأوسط»: هوليوود تغيّرت لكن حماسي للقضايا لم يختلف

جين فوندا (أرشيف «كان»)
جين فوندا (أرشيف «كان»)

انحاز مهرجان «كان» في دورته الأخيرة لكبار السّن: المخرج الألماني فيم فندرز (77 سنة) عرض فيلمين جديدين. هاريسون فورد (80 سنة) وصل مع فيلمه الجديد «إنديانا جونز وقرص القدر»، البريطاني كن لوتش (86 سنة) عرض فيلمه الجديد «ذَ أولد أوك». وأحد المحتفى بهم هو مايكل دوغلاس (78 سنة) الذي ظهر على مسرح المهرجان بصحبة كاترين دينوف (97 سنة) وحتى لا ننسى، الممثل الفرنسي بيير ريشار (88 سنة) كان كذلك حاضراً.

جين فوندا (85 سنة) كانت بدورها حاضرة لتقدم فقرة من فقرات حفل الختام. تحركت فوق المسرح بسهولة. وقفت باعتزاز ووزعت الأمل في أن يبلغ المرء سنها وهو (أو هي) في مثل هذه النضارة.

فوندا مع فانيسا ردغراف في «جوليا» (تونتييث سنتشري فوكس)

تاريخ حافل

تاريخ مهني طويل يصاحب هذه السيدة التي ظهرت في 60 فيلماً منذ 1960 عندما ظهرت على الشاشة لأول مرّة في دور لافتٍ في «قصة طويلة» (Tall Story) للمخرج جوشوا لوغن. امتنع والدها هنري فوندا عن التدخل في مسيرتها الفنية (ومسيرة شقيقها بيتر)، لكن ذلك كان أيضاً مطلباً لها، إذ أرادت التقدّم في مجال التمثيل معتمدة على قدراتها وعلى - بالطبع - اسمها الرنّان كابنة أحد كبار موهوبي التمثيل في السينما الأميركية.

تبعت ذلك الفيلم الأول بعدد من الأفلام الناجحة من بينها «تقرير تشابمان» (1962) و«يوم أحد في نيويورك» و«كات بالو». هذا قبل أن يستعين بها المخرج آرثر بن للبطولة النسائية في «المطاردة» (The Chase) سنة 1966 أمام مارلون براندو.

حققت نجاحاً أكبر في «بارباريللا» (1968) و«يقتلون الجياد، ألا يفعلون؟» (They Shoot Horses‪, Don‪'t Thay)‪?) لسيدني بولاك (1969).

أحد أقوى أفلامها كان «كلوت» لألان ج. باكولا (1971) ومن ثَم «جوليا» لفرد زنما (1977) الذي شاركتها بطولته البريطانية فانيسا ردغراف وألقت كلمتها الشهيرة المؤيدة للشعب الفلسطيني، و«العودة للوطن» (Coming Home) لهال أشبي (1978) الذي عكس موقف فوندا حيال الحرب الفيتنامية.

مع جون فويت في «العودة للوطن» (يونايتد آرتستس)

في الواقع لم تكن وحدها في ذلك الفيلم معادية لتلك الحرب. كل الأساسيين فيه، مثل الكاتب وولدو سولت، والمنتج جيروم هلمان، ومدير التصوير هسكل وكسلر، والممثل بروس ديرن، والمخرج أشبي كانوا معادين جداً لتلك الحرب ومنادين بإيقافها. لكن أشهرهم بالطبع كان جين فوندا التي قادت مسيَّرات في هذا النحو.

التقت مع والدها هنري فوندا مرّة واحدة على الشاشة في «أون غولدن بوند» (1981) ومن ثَمّ تقدّمت صوب أفلام عديدة منذ ذلك الحين، وقريباً نراها في Book Club‪: The Next Chapter الذي هو بمثابة فصل ثان من The Book Club سنة 2018 وتشاركها البطولة فيه ممثلات أخريات تجاوزن منتصف العمر من بينهن

ماري ستينبرغن وكاندِس بيرغن ودايا كيتن.

جين فوندا وماري ستينبرغن وكاندِس بيرغن ودايا كيتن في «book club next chapter»

المقابلة التالية تمّت في رحاب نشاطات «جمعية مراسلي هوليوود الأجانب» في مهرجان «كان».

الصعب والأصعب

* تعودين إلى «كان» بعد 45 سنة عندما عُرض «العودة للوطن» في المسابقة. ما يعني لك ذلك؟

- يعني الكثير. أنا واحدة من اللواتي كن محظوظات في حياتهن. في تلك الآونة كنت أصبحت نجمة معروفة حول العالم بأفلام ذات نوعية ممتازة ومن بينها هذا الفيلم. وصولي إلى «كان» حينها كان مدعاة غبطة كبيرة لي شخصياً، وكذلك لمن كان معي في ذلك الفيلم. العودة الآن لا تفتقد هذه الذكرى لكنها تؤكد أن النجومية، إذا كانت متملقة، لا تعرف التراجع.

* كيف تفسرين هذا النجاح؟

- قبل الحديث ذكرت لي عناوين الأفلام التي مثّلتها وأعجبتك («كلوت»، «العودة إلى الوطن»، «يقتلون الجياد»...«جوليا» ...إلخ) وهي نفسها التي أقصد عندما قلت إنها أفلام ذات نوعية. لست وحيدة طبعاً عندما يصل الأمر إلى النجاح في تلك الفترة ولست وحيدة اليوم التي عرفت ذلك النجاح في السبعينات والثمانينات ولا تزال حاضرة بنجاح أيضاً اليوم.

* هل كانت المسيرة صعبة؟

- نعم. هوليوود صعبة. النجاح صعب والبقاء على القمّة أصعب. طبعاً يتفاوت الأمر ولا أقصد الإشادة بنفسي إلى هذا الحد.

* ربما أصعب ما في ذلك النجاح أن يكون الممثل ضد المؤسسة كما كان حالك بسبب الحرب الفيتنامية.

- طبعاً. قبل أن أتحول إلى نشطة ضد الحرب كنت أبحث عن معنى لحياتي. عن الدور الذي أستطيع أن ألعبه خارج السينما ووجدته في معارضة تلك الحرب. في حياتنا نحتاج إلى معنى لهذه الحياة.

* كانت الحرب الفيتنامية بدأت قبل بضع سنوات على حضورك معارضة. كيف قررتِ أن تقفي على الجبهة المعارضة لها؟

- نعم. صحيح. الذي حدث هو أنني قابلت مجموعة من الجنود العائدين من تلك الحرب الذين فتحوا عينيي على الحقيقة التي لم يكن الإعلام عندنا يذكرها. أخبرني الجنود بحقائق كانت مجهولة لديّ وشعرت بالحماس لأن أقف إلى جانب معاناتهم ومعاناة الفيتناميين منذ ذلك الحين.

* كانت هناك، ولا تزال، قضايا أخرى تحتاج لوقفة من هذا النوع

- أعلم ما ستقول. أعلم ذلك، لكن المسألة هي أنني من الذين وضعوا البذرة في ذلك الحين والآن هو زمن مختلف. لم يختلف حماسي عمّا كان عليه وأؤمن بحق الجميع في حياة عادلة، لكن خياراتي اليوم تنبع من اختلاف العالم وما يحدث فيه عما كان يحدث في ذلك الزمن. هوليوود تغيّرت منذ ذلك الحين. الحياة في أميركا والعالم تغيّرت كثيراً أيضاً. ولا أجد داعياً للقول إن هذا الموقف يخص شعباً دون آخر.

* فانيسا ردغراف أعلنت موقفها بالنسبة للقضية الفلسطينية خلال حفل الأوسكار. هل وافقت حينها على ذلك الموقف؟

- وافقت على حريتها في اتخاذ الموقف الذي تريد واحترمت ذلك ولا أزال.

قضايا جديدة

بسؤالها عن القضايا التي تعتقد أنها تستحق التأييد في الزمن الحاضر، أجابت: «كل القضايا التي تكشف عما يحدث في هذا العالم، لكني اليوم لا أستطيع متابعة كل شيء. حتى حينها كانت الحرب الفيتنامية هي الوحيدة التي شدتني إليها. حالياً هناك المسألة البيئية. هذه تشغلني كثيراً».

للغاية، أنشأت فوندا صندوق دعم للبيئة باسم «Jane Fonda Climate Pack» وتقول: «غاية الجمعية هي منع الحزبين الديمقراطي والجمهوري من الاعتماد على تمويل شركات النفط الكبرى خلال الحملات الانتخابية».

تبعاً لذلك ما زالت جين فوندا تثير الشغب في مواقفها. لا ننسى أنه في 18 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 2019 قُبض عليها في العاصمة الأميركية واشنطن بصحبة متظاهرين منددين بالبيئة وبتمويل المؤسسات النفطية الكبرى للحملات الانتخابية.

* إلى أي مدى تستطيع هذه القضية تسجيل انتصار ما في عالمنا اليوم؟

- أعتقد أن المدى هو بعيد. الحرب في سبيل البيئة هي نفسها الحرب للعدالة في كل مكان. كل القضايا متّصلة بعضها ببعض.

* ما الذي تغيّر في هوليوود منذ السبعينات والثمانينات؟

- الكثير جداً. المسألة هي العكس: هل هناك شيء لم يتغيّر؟ في السابق كانت هوليوود أكثر قدرة على استخدام السينما كانعكاس للواقع الذي تعيشه أميركا. حركات المناهضة ضد التمييز العنصري، الاحتجاج على حرب فيتنام، الوقوف مع مواطني أميركا الأصليين، وسواها من القضايا كانت مشاغل المجتمع الأميركي الذي خصّتها هوليوود بأفلام كثيرة.

تضيف: «كانت هوليوود منصفة في ذلك الحين وكان هناك مخرجون يحملون قضاياهم السياسية والاجتماعية إليها فيحصلون على التمويل المطلوب. هال أشبي مخرج «العودة للوطن» وآلان ج. باكولا («كلوت») كانا من بين كثيرين».

* ماذا عن اليوم؟ ما الذي حصل؟

- تغيّر الوضع تماماً. نعم لا تزال هناك أفلام ذات قيمة في هذا الاتجاه، لكنها قليلة للأسف. حب الترفيه وإنتاج أفلام مضمونة النجاح يطغيان على كل شيء.

* حسب علمي ليس هناك «أفلام مضمونة النجاح»، قد يسقط أي فيلم.

- صحيح. أحياناً أتمنى ذلك لكن المسألة أصعب من التمنيات.

* هل لديك فيلم جديد آخر بعد «ذَ بوك كلوب: الفصل التالي؟».

- لا. ليس بعد، لكني سعيدة بأني لا زلت حاضرة لليوم


مقالات ذات صلة

مهرجان «شاشات الواقع» في دورته الـ19 بانوراما سينما منوعة

يوميات الشرق من أفلام شاشات الواقع «النهار هو الليل» لغسان سلهب (المكتب الإعلامي للمهرجان)

مهرجان «شاشات الواقع» في دورته الـ19 بانوراما سينما منوعة

نحو 35 فيلماً وثائقياً طويلاً وشرائط سينمائية قصيرة، يتألف منها برنامج عروض المهرجان الذي يتميز هذه السنة بحضور كثيف لصنّاع السينما اللبنانيين.

فيفيان حداد (بيروت)
سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)

منصور الرحباني في عيون نجوم مسرحه

منصور الرحباني في عيون نجوم مسرحه
TT

منصور الرحباني في عيون نجوم مسرحه

منصور الرحباني في عيون نجوم مسرحه

قبل 16 شتاءً، أَبحرَ منصور الرحباني وحدَه صوب الضفة الأخرى. ترك في أدراج مكتبه الصغير في أنطلياس سطوراً وأفكاراً وأبياتَ شِعر ما زالت تتكاثر حتى اليوم، وتتدفّق أغنياتٍ ومشاريعَ مسرحيات.

من الصعب أن يغيب منصور. في مئويّته التي تصادف هذا العام، ها هو يعود بصوت هبة طوَجي وألحان ابنِه أسامة ضمن أوراتوريو خاص بديوانه «أسافر وحدي ملكاً» يصدر خلال أشهر. أما غسان صليبا، فكلّما صعد إلى المسرح، طالبه الجمهور بغناء «غريبَين وليل»، و«وطني بيعرفني»، و«حامل عطر بلادي»، وغيرها من أعمال الرحباني. ومع كل نص مسرحي جديد يكتبه رفيق علي أحمد، يرجع إليه أسلوب منصور و«جملته المسرحية الانسيابية».

يستعد أسامة الرحباني لإصدار أوراتوريو «أسافر وحدي ملكاً» بصوت هبة طوجي (إنستغرام)

يُجمع نجوم مسرح منصور الرحباني على أنّ الحظ كان حليفهم؛ يوم اصطفاهم «الأستاذ» كي يلعبوا الأدوار الأولى في مسرحياته. يتفقون كذلك على أنّ الرجل وازَنَ ما بين العبقريّة والبساطة، فاحترف الإنسانية والفن على السواء.

«سيف البحر» ورحلة العقدَين

هو «سيف البحر» في «صيف 840»، وأبو الطيّب المتنبي في «المتنبّي»، ويسوع المسيح في «وقام في اليوم الثالث»، والمعتمد بن عبّاد في «ملوك الطوائف»، والنبي في «جبران والنبي». تلك بعض الشخصيات التي أدّاها الفنان غسان صليبا على مسرح منصور الرحباني.

يذكره خلال التحضيرات لـ«صيف 840»، وهو يردّد: «نصف منصور رحل مع عاصي، ونصف عاصي بقي مع منصور». كانت تلك المرة الأولى التي يغرّد فيها منصور وحيداً على المسرح بعد رحيل توأم روحه وفنّه عاصي الرحباني.

منصور الرحباني وغسان صليبا خلال التحضيرات لـ«صيف 840» عام 1987 (أرشيف أسامة الرحباني)

منذ «صيف 840» (1987) وحتى «عودة الفينيق» (2008)، لم يترجّل صليبا عن خشبة منصور. ملأ الشاب مكانه غناءً وتمثيلاً فمنحه الرحباني الثقة، هو الآتي بعد عقودٍ كانت فيها السيدة فيروز النجمة الأولى والبطلة الأنثى الوحيدة على مسرح الأخوين. يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «عبور عقدَين بجوار منصور الرحباني شكّل فرصة ثمينة ومسؤولية كبيرة».

يذكره جالساً في الكواليس خلال أمسيات العروض الأولى، يترقّب قلِقاً ردّة فعل الجمهور؛ فـ«منصور الرحباني كان حريصاً على الكمال وعلى ألّا تشوب أعماله أي شائبة»، وفق صليبا. يسترجعه كذلك متوسطاً مقاعد المسرح، حاملاً دفتراً يدوّن عليه ملاحظاته خلال التمارين. يضيف: «حتى عندما تقدّم في السنّ وغلبه التعب، لم يتساهل منصور الرحباني يوماً وحافظ على الجدّيّة ذاتها في العمل».

منصور الرحباني متوسطاً فريق عمل مسرحية «أبو الطيب المتنبّي» (أرشيف أسامة الرحباني)

مقابل تلك الجدّيّة و«الهالة الكبيرة»، اتّسمت شخصية الرحباني بالفكاهة والبساطة. يعود صليبا بالذاكرة إلى جلسات كثيرة جمعتهما، تحدّثا خلالها عن مواضيع شتّى، لكنّ الغالب كان دائماً هاجسه بالعدالة الإنسانية. يشتاق الفنان اللبناني إلى تلك الجلسات، وإلى ولائم العصافير التي كان يرافقه فيها إلى دمشق. يفتقد كذلك الوقوف بطلاً على مسرحه؛ فيستعيض عن الأمر في حفلاته الخاصة، باستعادة أغانيه التي «عرفت كيف تجمع بين الملحميّة والإحساس المرهف».

غسان صليبا بشخصية المعتمد بن عبّاد في مسرحية «ملوك الطوائف» (فيسبوك)

سقراط و«المعلّم»

يحلو لرفيق علي أحمد أن يسمّي منصور الرحباني «المعلّم»، مستلهماً مسرحية «آخر أيام سقراط» حيث كان تلاميذ الفيلسوف اليوناني ينادونه: «يا معلّم». بالنسبة له، منصور هو «المعلّم» قولاً وفعلاً؛ إذ استقى منه الكثير من حرفة الكتابة المسرحية. أما على المستوى الإنساني، فتعلّم منه «التسامح وترك السجالات والتوترات المرافقة للعمل خلف الستارة ليكنسَها الكنّاسون».

عام 1998، وجد منصور الرحباني في رفيق علي أحمد الملامح التي رسمها لشخصية سقراط. كانت تلك المرة الأولى التي ينضمّ فيها الفنان المخضرم إلى المشروع الرحبانيّ. «لم أكن أحلم بالوقوف على هذا المسرح في يوم من الأيام، لكن الحلم تحقق فلكِ أن تتصوّري السعادة التي قد تصيب ممثلاً إذا نال هذا الحظ»، يقول علي أحمد لـ«الشرق الأوسط».

رفيق علي أحمد وكارول سماحة في مسرحية «آخر أيام سقراط» (فيسبوك)

كما حفرَ سقراط في ذاكرة علي أحمد، كذلك فعلَ «منصور الذي حوّلَ المعاني الفلسفية العميقة إلى كلمة طيّبة ومطواعة، تصل إلى قلوب الناس عبر آذانهم». تأثّر به إلى درجة أنه استوحى منه خصائص شخصية «سعدون الراعي» في مسرحية «حكم الرعيان»، فرجع بالذاكرة حينها إلى دور «بشير المعّاز» الذي أدّاه منصور الرحباني في فيلم «بنت الحارس» عام 1967.

علي أحمد الذي نال هو الآخر ثقة الرحباني، عاد وحلّ بطلاً على مسرحيتَي «جبران والنبي» و«دون كيشوت». وما بين مسرحية وأخرى كانت تتوطّد العلاقة بين الرجلَين؛ حيث اكتشف التلميذ في «المعلّم إنساناً مكتمل الخبرة، لم يُفقده العمق الإنساني شيئا من ظُرفه»، ولا من طفولته التي كانت ترجع في كل مرة يختلس فيها قطعة شوكولاته رغم تعليمات الطبيب الصارمة.

كلّما عادت الذكرى السنوية، أضاء رفيق علي أحمد شمعة لروح منصور الرحباني وناجاه قائلاً: «كان الله راضياً عنك، فحتى اللحظة الأخيرة من حياتك بقيت جالساً بوَعي وإدراك إلى مكتبك، تعمل وتؤلّف».

منصور الرحباني جالساً إلى مكتبه أحد أحبّ الأماكن إلى قلبه (أرشيف غدي الرحباني)

هبة... آخر العنقود

«يا بنت تعي تغدّي». كانت تلك العبارة الأولى التي توجّهَ بها منصور الرحباني إلى آخر عنقود نجمات مسرحه، هبة طوجي. تخبر «الشرق الأوسط» كيف ارتعدت رهبة عندما جلست قربه إلى المائدة في منزله في أنطلياس، يوم كانت في الـ19 من عمرها تتدرّب على باكورة ألبوماتها مع أسامة الرحباني.

«في مقابل الرهبة، شعرتُ فوراً بطيبته وتواضعه ورغبته في مشاركة الناس أبسط التفاصيل كطعام الغداء»، تتابع طوجي. حتى التعليقات العادية التي كانت تسمعها منه عن الحياة اليومية، أرادت الفنانة اللبنانية أن تطبعها في ذاكرتها: «كنت في حضرة الأستاذ الذي لم يحتَج إلى تكرار النصيحة كي أحفظها».

هبة طوجي وغسان صليبا في مسرحية «عودة الفينيق» (فيسبوك)

تلفت إلى أنه درّبها على ضبط إيقاع السرعة في القراءة والانفعالات في الأداء المسرحي. ومن دون أن يتعمّد ذلك علّمها السعي إلى الكمال؛ فخلال تمريناتها الغنائية مع أسامة على البيانو في بيته، كان يفصل بينهما بابٌ واحد، فيتراءى لها «الأستاذ»، وهو يسمعها من غرفة مكتبه؛ الأمر الذي حمّلها مسؤولية كبيرة.

شهِد منصور الرحباني على أولى خطوات هبة طوجي المسرحية، فجمعتهما «عودة الفينيق» في 2008، أي قبل وفاته بعامٍ واحد. تذكر كيف كان يحضر البروفات عندما تسنح صحتُه، وتلك اللحظة التي احتضنته فيها بعد العرض الأول. أما الذكرى التي تحتفظ بها كنزاً في قلبها، فذلك الاتصال الذي تلقّته منه ليهنّئها بأغنية «متل الريح»: «تجمّد بي الزمن عندما سمعته. أخذت شهادة منه مدى العمر».

منصور الرحباني في كواليس المسرح مع ابنه مروان (أرشيف غدي الرحباني)

اليوم، وبعد أن صار عمر الغياب 16 عاماً، ما زالت تلمس طوجي الفراغ الكبير الذي خلّفه «الأستاذ»: «لكن عملي مع أسامة يُشعرني وكأنه ما زال حاضراً». اليوم، وأكثر من أي وقت، يغوص الثنائي الفني في شعر منصور من خلال أوراتوريو «أسافر وحدي ملكاً»؛ بعد أن وقّع لها إهداءً على الديوان؛ ها إنّ هبة طوجي توقّع القصائد بصوتها في تحية إلى أستاذ العمر.