الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

عمار علي حسن يختبره في «احتياج خاص»

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً
TT
20

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

في رواية «احتياج خاص» للكاتب الروائي المصري عمار علي حسن تبدو الأحلام بؤرة مركزية للسرد، بمفهومها المباشر كمرادف للمنام وما يراه النائم في منامه، ومفهومها الأبعد والأكثر شِعرية وهو ما يحلم الإنسان بتحقيقه، وغالباً ما يكون صعب المنال.

ويتناول الكاتب في روايته الصادرة حديثاً، عن «الدار المصرية اللبنانية»، ثيمة الأحلام من خلال قصة صداقة ذات ظروف استثنائية تربط بين بطليه (سمير عبيد) مدرس اللغة العربية، و(ممدوح علم الدين) الموظف في إدارة لتوزيع السلع الغذائية، وعلى الرغم من أن عمر تلك الصداقة لا يتجاوز أياماً معدودة، فإنها كانت قادرة على تغيير حياة مدرس اللغة العربية، مع اتساع فضوله للاقتراب من عالم ذلك الموظف البسيط حد الهوس بما يدور فيه، لا سيما تلك الأحلام التي يراها في منامه، التي تنفتح على عالم موازٍ للحياة «تكلم عن أحلامه، ليس على أنها مجرد منامات ليل تغيب أو تغيم أو تتشظى، أو تُلقى في غياهب النسيان فور صحوه، إنما على أنها حياة كاملة، فيها أكثر مما تمناه في طفولته، وفي صباه حين طاله الوعي».

يجتمع البطلان في لقائهما الأول في يوم من أيام ثورة يناير بميدان التحرير وسط العاصمة المصرية، يلتفت مدرس اللغة العربية إلى ممدوح علم الدين، الرجل النحيل الذي يسير بين الناس يحكي عن حُلم يراوده يراه في منامه كل ليلة، مجذوباً بحلمه حد لفت النظر، فيجد سمير عبيد لديه ما يستحق الإصغاء على هامش ما يحيط بهم من صخب وشعارات «كان يحكي حلمه للعابرين. بعضهم كان يهشه كذبابة، وبعضهم كان يستمع إليه قليلاً، ثم يمصمص شفتيه، ويتركه يكمل حكايته للأرصفة، وجدران البنايات. قلة تعجبت مما يقول، وظنت أنه وليّ».

يسعى عبيد لتوطيد علاقته بهذا الرجل الذي يحكي له عن حلمه المتتابع الذي ينتهي كل ليلة مع صحوه، ليتابعه الليلة التالية من حيث انتهى، حيث يعيش فيه حياة بديلة يلتقي، بحبيبة تبادله المحبة، ويعيش معها حياة رغيدة موازية يكون فيها أستاذاً جامعياً مرموقاً يُدرّس علم النفس.

تبدأ محنة هذا البطل مع بدء تلاشي هذا الحلم المتتابع، الذي يكف عن زيارته، فيفشل رغم محاولاته الضنينة القبض على أي بصيص لاستدعائه من جديد، ومع تلاشي هذا الحلم، يتلاشى ممدوح علم الدين من أرض الواقع ويختفي، فلا يجد له أحد أثراً، ويفشل صديقه سمير عبيد معلم اللغة العربية في العثور عليه من جديد.

وفي محض بحثه عن صديقه المختفي، يجد عبيد نفسه وقد استجمع ما لديه من بلاغة وطاقة سردية كامنة وراء وظيفته التقليدية معلماً للغة العربية بمدرسة ثانوية، ويبدأ في كتابة حكاية صاحبه «الغائب» التي صار ممتلئاً بها، وراح يفيض بها على الورق، في تجربة كتابة روائية هي الأولى له، يؤرقه كيفية بناء حكاية متماسكة عن حياة صديقه الغائب المتشظية ما بين كابوس هو حياته اليومية نفسها، ومنامات تُهديه حياةً بديلة، فيضع خطة للكتابة، راعى فيها أن يعرض العالمين المنفصلين تماماً لبطله «أحدهما أبيض في سواد الليل، والثاني أسود في بياض النهار».

وهكذا بدأ في الكتابة نصف للصحو ونصف للمنام، ثم يقرر أن يُطوّر سرده ويُقسمه إلى فصول متتالية على أوقات أو حالات خمس هي (ما قبل النوم ـ غشاوة ـ نوم ـ صحو ـ ما بعد الصحو) وتكون مرحلة الـ«غشاوة» هي تلك الحالة السرمدية ما بين المنام واليقظة، تلك التي يتخيّل فيها بطله وهو يغادر عالماً ليتسلمه عالم آخر بكل تناقضاتهما الجنونية، منذ أن يُخرجه خيط نور الصباح الذي يتفاداه خشية الاستيقاظ على كابوس صراخ ووعيد أهل البيت، وأهل الشارع، والعمل، الذين يتبارون في إشعاره بالدونية، ثم يحمل له الليل والنعاس أمل العودة لحياة تتبدل فيها ملابسه الرثة إلى ملابس نظيفة، وتتسع جدران شقته الصغيرة لتصير بيتاً فسيحاً يطل على أحواض الورود، لا شيء مشتركاً بين العالمين سوى اسمه، فهو الشخص نفسه، النحيل والممتلئ، الفقير حد الإعدام، والمستور حتى الثراء والرفاه، فزوجته المتسلطة في يومه وحبيبته الغيداء في حلمه تناديانه بالاسم نفسه (ممدوح علم الدين) «ويعود من حياته الأخرى، ليجد نفسه في الحياة الراهنة، الشخص الراقد في مخدعه لا يفصل بين شخصين يعيش فيهما سوى غمضة عين وانتباهتها، لحظة تنقله من موت صغير إلى حياته القاسية التي اعتادها».

وتواجهه خلال كتابته تلك الرواية عدة عثرات، أولها سد الفجوات التي لا يعرفها عن حياة بطله وصديقه الغائب التي لا يُحيط بكثير من أسرارها، فيتنقل بحثاً عن معلومات يستوفي بها المزيد عن حياة صديقه، التي يستخدمها في رسم شخصيته، لا سيما حول تاريخه الشخصي والأسري وسنوات شبابه الجامعي وصولاً لجلوسه خلف مكتب صدئ في وزارة التموين متمسكاً بنزاهته رغم عُسر حاله المادي، وصولاً لمعرفة ما إذا كان صاحبه مريضاً بالفصام وإذا كان هذا الحُلم أحد أعراض مرض يُعاني منه.

أما العقبة الأخرى في كتابة روايته كانت في التداخل بين العالمين، والعبور من حلقة إلى أخرى لإحكام تخييله المستوحى من سيرة صاحبه مُوزعاً بين صحوه ومنامه «كانت الخواطر التي راحت تنهمر في نفسي، والأفكار التي تدفقت على رأسي، جعلتني متحيراً بعد أن اختلط الحلم بالصحو، وتقاربت المسافات بينهما إلى درجة جعلتني مدركاً الصعوبة التي سأواجهها في الفصل بين الحالتين».

إن الكتابة عن صديق «غائب» ليست فقط استدعاءً لحضوره الخاص، إنما «احتياج» لمواصلة حُلم تسرّب بين صحو حياة ومناماتها، واقتفاء لوصيّة صاحبه الأخيرة التي أطلقها في لقائهما الأخير قبل اختفائه: «امضِ خلف حلمك مبصراً، ولا تسأل أحداً».


مقالات ذات صلة

«الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

كتب «الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

«الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

تقود هيئة الأدب والنشر والترجمة مشاركة الرياض الاستثنائية بصفتها «ضيف الشرف» في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025، ضمن دورته التاسعة والأربعين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب ماريو فارغاس يوسا

يوسا في بغداد: «هذا ليس حسناً يا سيدي!»

استمع يوسا على هامش جولاته عبر العراق لأشخاص ممن سُجنوا أو تعرضوا للتعذيب فترة الحكم البعثي وزار سجن «أبو غريب».

ندى حطيط (لندن)
كتب ديفيد دويتش

المسكونون بشغف الأسئلة

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية

لطفية الدليمي
كتب هانز كونغ

هانز كونغ والحوار مع الإسلام

كان العالم اللاهوتي الكاثوليكي السويسري هانز كونغ (1928-2021) متحمساً جداً للحوار مع الإسلام. والكثيرون يعدونه أكبر عالم دين مسيحي في القرن العشرين

هاشم صالح
ثقافة وفنون هاروكي موراكامي

هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية في «جائزة الشيخ زايد للكتاب»

أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب في مركز أبوظبي للغة العربية، عن اختيار الكاتب الياباني العالمي هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية.

«الشرق الأوسط» (الدمام)

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT
20

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي

لم يأتِ رحيل المبدع العراقي جمعة اللامي في السابع عشر من هذا الشهر مفاجئاً لمعارفه ومحبيه. إذ لم تحمل السنوات الأخيرة الراحة له: فقد سكنه المرض، وتلبدت الذاكرة بضغوطه، فضاع كثير من الوهج الذي تميزت به كتاباته. وتجربة جمعة اللامي فريدة؛ لأنه لم يكن يألف الكتابة قبل أن يقضي سنواتٍ عدة سجيناً في عصور مضت. لكنه خرج من هذه أديباً، وصحافياً متميزاً.

ربما لا يعرف القراء أنه شغل مدير تحرير لصحف ومجلات، وكان حريصاً على أن يحرر الصحافة من «تقريرية» الكتابة التي يراها تأملاً بديعاً في التواصل بين الذهن واللغة. خرج من تلك السنوات وهو يكتب الرواية والقصة. وكانت روايته «من قتل حكمت الشامي» فناً في الرواية التي يتآلف فيها المؤلف مع القتيل والقاتل. ومثل هذه المغامرة الروائية المبكرة قادت إلى التندر. فكان الناقد الراحل الدكتور علي عباس علوان يجيب عن تساؤل عنوان الرواية: من قتل حكمت الشامي؟ جمعة اللامي. لكن الرواية كانت خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ماورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية). وسكنته روح المغامرة مبكراً. وكان أن كتب مسرحية بعنوان «انهض أيها القرمطي: فهذا يومك»، التي قادته أيضاً إلى محنة أخرى، لولا تدخل بعض معارفه من الأدباء والمفكرين. وجاء إلى القصة القصيرة بطاقة مختلفة جزئياً عن جيله. إذ كان جيل ما بعد الستينات مبتكراً مجدداً باستمرار. وكان أن ظهرت أسماء أدبية أصبحت معروفة بعد حين وهي تبني على ما قدمه جيلان من الكتاب: جيل ذو النون أيوب، وما اختطه من واقعية مبكرة انتعشت كثيراً بكتابات غائب طعمة فرمان، وعيسى مهدي الصقر وشاكر خصباك، وجيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، والذين بنوا عليه وافترقوا عنه كمحمد خضير، وموسى كريدي، وأحمد خلف، وعبد الستار ناصر، وعدد آخر. وكان جمعة اللامي ينتمي إلى هذا الجيل، لكنه استعان بهندسة القصة لتكون بنية أولاً تتلمس فيها الكلمات مساحات ضيقة تنوء تحت وقع أي ثقل لغوي. ولهذا جاءت قصصه القصيرة بمزاوجة غريبة ما بين الألفة والتوحش، يتصادم فيها الاثنان، ويلتقيان في الأثر العام الذي هو مآل القص.

وعندما قرر اللامي التغرب وسكن المنفى، كان يدرك أنه لن يجد راحة البال والجسد. لكنه وجد في الإمارات ورعاية الشيخ زايد حاكم الدولة، وبعده عناية الشيخ الدكتور سلطان القاسمي ما يتيح له أن يستأنف الكتابة في الإبداع الأدبي وكذلك في العمود الصحافي. ولمرحلة ليست قصيرة كان «عموده» الصحافي مثيراً لأنه خروج على المألوف، ومزاوجة ما بين العام والشخصي، اليقظة والحلم، المادية والروحانية. وعندما ينظر المرء إلى مسيرة طويلة من الكد الذهني والجسدي فيها الدراية والعطاء، يقول إن الراحل حقق ذكراً لا تقل عنه شدة انتمائه لمجايليه وأساتذته وصحبه الذين لم يغيبوا لحظة عن خاطره وذهنه، كما لم يغب بلده الذي قيَّده بحب عميق يدركه من ألِفَ المنافي وسكن الغربة.

سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحيّة.

 كانت روايته «مَن قتل حكمة الشامي؟» خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ما ورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية)