تحديات عبور النصّ الغرامشي في «دفاتر السجن»

ترجمة عربيّة جديدة لمختارات منها

غرامشي
غرامشي
TT

تحديات عبور النصّ الغرامشي في «دفاتر السجن»

غرامشي
غرامشي

في مايو (أيار) 1930 - وفي رواية أخرى فبراير (شباط) 1929 - خطّ الزعيم الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 - 1937) أولى كلماته فيما أصبح يُعرَف بـ«دفاتر السجن»، وهي 33 كراسة سمحت إدارة السجن الفاشستي له باستخدامها لتدوين ملاحظاته وأفكاره، عندما كان يقضي فترة محكوميته التي تسببت في النهاية بموته المبكّر عام 1937.

ومن المعروف أن تلك الدفاتر، التي هرّبتها عن أعين رجال بينيتو موسوليني شقيقة عقيلة غرامشي الروسيّة إلى الاتحاد السوفياتي، بقيت طي الكتمان لِما بعد الحرب العالميّة الثانية، عندما أُعيدت إلى إيطاليا، ونشر ست منها بلغتها الأصلية، بعناية من جيوليو إينودي بين عامي 1948 و1951. لكن نشر بقية أغلب الدفاتر تأخّر حتى منتصف السبعينات، وتُرجم بعضها للإنجليزية والفرنسيّة، لكنّها لم تصل إلى قرّاء الإنجليزيّة عبر العالم بشكل فعلي قبل الثّمانينات، ولم يكتمل نشرها إلى اليوم، رغم صدور ترجمة للجزء الأهم منها إلى الإنجليزية في ثلاثة مجلدات عن مطبعة جامعة كولومبيا - 1992، والتي أصبحت تُعدّ بمثابة النسخة المعياريّة في العالم الأنجلوساكسونيّ. وتعتزم جمعيّة غرامشي الدّوليّة نشر أعماله الكاملة - بما فيها دفاتر السجن في وقت قريب - وفق ما أعلنت، بما في ذلك طبعة بالإنجليزية، إلى جانب النسخة الإيطاليّة.

ومع ذلك فإن دفاتر سجن غرامشي؛ من شدّة أصالة الفكر الذي حملته نصوصها، استقطبت، فور نشرها، اهتماماً واسعاً في أوساط الأكاديميين من خارج دائرة اليسار، ونشرت حول مختلف طروحاتها، في مجالات الاجتماع، والسياسة، والفلسفة، والأدب، والتاريخ، مئات الكتب، وآلاف المقالات المحكمّة، ولا سيّما بالإنجليزية والإسبانيّة، إلى جانب الإيطاليّة، وعُقدت بشأنها عشرات النّدوات والمؤتمرات في جامعات حول العالم، إلى جانب المساقات الدراسيّة عن فكر غرامشي التي تتوفر لطلبة الإنسانيّات، وكذلك رسائل الماجستير والدّكتوراه، حتى إن المؤرخ البريطاني المعروف إريك هوبسوم كتب يقول إن «غرامشي أصبح منذ الثمانينات أكثر مفكر إيطالي على الإطلاق يجري اقتباس أعماله في الدراسات الأكاديميّة المحكّمة في الإنسانيات والاجتماعيات».

في العربيّة تُرجمت بعض محتويات دفاتر السجن، في صيغ مختلفة من الفرنسيّة والإنجليزيّة، وهناك ترجمة جديدة لمختارات منها ستَصدر قريباً - عن منشورات الجمل بألمانيا - لكن لم تصدر إلى الآن ترجمة كاملة لها؛ لأسباب كثيرة.

على أن عبور نصوص غرامشي، وخصوصاً تلك التي تضمّنتها دفاتر السجن، تبدو مهمّة صعبة للقارئ غير المتخصص، حتى في لغتها الأم، ناهيك بالترجمات، أو الترجمات عن الترجمات - كما هي حال السواد الأعظم مما يتوفر عن غرامشي بالعربيّة. وهكذا ينتهي الكثيرون إلى قراءة مقتطفات منفصلة، أو تجميع جراحي لعدة مقاطع تحت عناوين أو «ثيمات» مختلفة، وهو ما يُفقد النص الغرامشيّ روحه الأصليّة الشديدة التباين عن نُظم التدوين المألوفة للأفكار.

مراجعات وتأملات

ولعلَّ أهم موانع العبور متأتية من طبيعة نصوص «دفاتر السجن» نفسها، فهي ليست فصولاً من كتاب بالمفهوم التقليدي، بل سجلات غير متتابعة زمنياً، دوَّن فيها غرامشي مقاطع متفاوتة الطول حول موضوعات كثيرة، بعضها مراجعات فكريّة، وحوارات مع نصوص قرأها، وبعضها الآخر تأملات في قضايا فلسفيّة وفكريّة وتاريخيّة وسياسيّة، وأيضاً ملاحظات حول قضايا كان يعتزم الكتابة فيها، وأحياناً إعادة صياغة لنصوص كتبها في وقت سابق. ورغم محاولة الكاتب السجين تنظيم تلك الدّفاتر عبر تخصيص بعضها لموضوعات محددة، مثل «النقد الأدبيّ»، أو «الصحافة»، أو «على هوامش التاريخ»، فإن معظم الدّفاتر احتوت نصوصاً من موضوعات مختلفة لا رابط بينها.

وفي الحقيقة، فإن غير العارفين بشؤون غرامشي ينتهون غالباً إلى اعتقاد أن «دفاتر السجن»، بكل ما فيها من أفكار ساطعة، تظل أقرب إلى عمل تحضيري، غير مكتمل، ولا ناضج، ونتاج عقل أسير محاصَر في السجن. وكثيراً ما استُخدمت هذه بوصفها مبررات لتمرير ترجمات مجتزأة، أو طبعات تحت تبويبات مفتعَلة، أو محاولات لتفسير المعاني الكامنة وراء النصوص المغلَقة وتقويلها ما يخدم نظريّة هنا أو تصوراً هناك، وهي طرائقُ حذَّر منها غرامشي في «الدفاتر»، واعتبرها خطراً لا بدّ من تجاوزه، لمن أراد الوصول إلى المعاني التي تَحكيها النصوص المكتوبة.

على أن في ذلك خيانة إضافيّة للنص الغرامشي فوق خيانة الترجمة - التأويل، التي لا مفرّ منها، فـ«الدفاتر» يجب أن تُقرأ حصراً وكأنها «ورشة عمل غرامشيّة مستمرة»، على ما يقول جياني فرانسوني، في كتابه عن غرامشي، فكأنّها رحلة في عقل هذا المفكر الإيطالي الاستثنائيّ بينما يقرأ ويناقش ويحلل ويفكّر في تفاصيل الأمور التي تثير اهتمامه، في إطار منهجيته التي طالما اعتمدها، حتى قبل إيداعه السجن، وتقوم على مقاومة النزوع للأفكار الشموليّة، أو الحلول النهائيّة، أو الاستنتاجات الحاسمة، لمصلحة الاستطلاع المعمَّق المفتوح النهايات للظاهرة المحددة موضوع الدّرس، في إطار تمثلها على أرض الواقع. ومن اللافت أن غرامشي لم يرغب يوماً في تأليف الكتب؛ لأنّه كان يمقت الحتميات والتجريد التي هي نتاج طبيعي لكل نص تجمعه دفتا كتاب، ونشر، بدل ذلك، أفكاره ورؤاه، عبر عدد هائل من المقالات الصحافيّة القصيرة، والمنشورات الثوريّة، إلى جانب بث بعضها في ثنايا رسائله الكثيرة إلى رفاقه وأهله، على نحوٍ يمكن منه استقراء معانٍ عمليّة شديدة الأصالة، من حواره الجدليّ، الشيّق، والمتحرر من القيود المسبقة، مع الظواهر في هذا العالم، ما حدا بمُنظِّرين كبار إلى وصف هذه المنهجية المعرفيّة المشتبكة بأمور الحياة ومعاش الناس، بـ«الطريقة الغرامشيّة».

موانع عبور نص «دفاتر السجن» الأخرى - سوى طبيعة النصوص نفسها - تبدأ من تجذّر الفكر الغرامشي في لحظته التاريخية عند تقاطع الزّمان والمكان، ولذلك فإن معرفة قريبة بتاريخ إيطاليا في العصور الحديثة، وتطورات الحركة الشيوعية فيها، وعلاقاتها بالمنظومة الاشتراكية الدوليّة، ضرورية لوضع النصوص في سياقاتها. وقد تسببت قراءات لاحقة عزلت النصّ الغرامشي عن سياقه، في ظهور ادعاءات بأن مفكّرنا الإيطاليّ لم يكن في مرحلة السجن ماركسيّاً ثوريّاً، أو أنّه نصير لمذهب الاشتراكية الاجتماعية الأوروبيّ، أو حتى مرجعيّة لما يسمى «الماركسيّة الثقافيّة» التي تستهدف تدمير المجتمع الأمريكيّ من الداخل، من خلال أدوات الإنتاج الثقافيّ، وهذا كلّه هراء محض نتاج قراءة تحريفيّة.

صراع السجين والسجّان

المجموعة الأخيرة من موانع عبور النص الغرامشي تتعلق بالظروف الموضوعيّة الشخصيّة للرّجل السجين، والمراقب، والمعتلّ الصحّة، والمعزول عن عالمه ورفاقه وعائلته وزوجته وأولاده، إذ يجب أن نتذكر دائماً أن «دفاتر السجن» كُتبت في ظل رقابة مشدَّدة أمر بها موسوليني نفسه، مما يجعلها موضع صراع يوميّ بين السجين والسجّان. ومنعت السلطات غرامشي من الاحتفاظ بأكثر من 3 كتب في وقت واحد، ولم يسمح له باستخدام دفاتره معاً، بل كانت تُنقل مع الكتب الثلاثة التي لديه، إلى مخزن السجن؛ كي يمكن للرقيب الاطلاعُ عليها عندما يشاء، ولذلك كان يبدع في استخدام مصطلحات وتعبيرات لإخفاء المعاني الظاهرة، فالحزب الثوريّ «أمير حديث»، والماركسيّة «فلسفة ممارسة (براكسيس)»، ولينين يُشار إليه باسم «إيليتش»، وهكذا.

الأمر الآخر المرتبط بذلك هو معاناته النفسيّة الحادّة نتيجة العزلة المفروضة عليه، والتي تتناقض مع طبيعته الشخصية المائلة إلى التواصل الثري مع الآخرين؛ رفاقاً وأقارب وجماهير، والتي رغم التزامه الصلب بالنضال والصمود، أنهكت إحساسه بالعالم من حوله، وانعكست على النصوص نوعاً من نزق، ولا سيما في المراحل اللاحقة من سجنه، بعدما اتجه الحزب الشيوعي الإيطالي، الذي شارك في تأسيسه، نحو مواقف لا تتوافق مع قناعاته الفكريّة. ولا شكّ أن اعتلال صحته، الذي ازداد تفاقماً بمرور الوقت، لم يساعد على التخفيف من معاناته النفسيّة، بل دفعه، في وقت ما، إلى عرضه الطلاق على رفيقته أمِّ أولاده.

لذلك كله، فإن قراءة غرامشي - ناهيك عن ترجمته - عمليّة شديدة التطلّب، وتحتاج إلى تثقيف مسبق، لكّن كنوز الفكر النادرة، التي يمكن العثور عليها في صفحات «دفاتر السجن» - والنصوص الغرامشيّة عموماً - تجعل من تلك المهمّة استثماراً مُجزياً بكل المقاييس.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.