إعادة تأريخ الثقافة بوصفها مشروع إعادة تدوير

كتاب بوشنر يثير كثيراً من الأسئلة ويقدم قليلاً من الأجوبة

إعادة تأريخ الثقافة بوصفها مشروع إعادة تدوير
TT

إعادة تأريخ الثقافة بوصفها مشروع إعادة تدوير

إعادة تأريخ الثقافة بوصفها مشروع إعادة تدوير

تميل كثرة من المؤرخين - لا سيّما في العصور الإمبرياليّة للغرب - إلى قراءة «الثقافة» بوصفها مكوناً أساسيّاً من الهويّة، شيئاً ثابتاً ومكرّساً ونهائياً كما صوت الشخص أو لون عينيه، وجادل بعضهم في تمايز الثقافات وتباينها، بل وأخذ الشطط ببعضهم الآخر لافتراض أن أمماً أو أعراقاً أو أدياناً معينة لديها - على العموم - قابليّة أعلى للإبداع الثقافيّ وإنتاج الحضارة أكثر من غيرها. وهناك اتفاق بين المعنيين بعلوم النفس والسلوك على أن اهتزاز الاستقرار الثقافيّ للفرد يمكن أن يزعزع شعور الشخص بذاته. لكنّ البروفيسور مارتن بوشنر، أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة، يقول في كتابه الأحدث «الثقافة: تاريخ جديد للعالم»، إن هذه التصورات ليست سوى نتاج وهم عابر للحدود عن إمكان وجود شكل نقيّ من الثقافة مترافقاً وسوء فهم مزمن لديناميّات عملها في المجتمعات، وانحيازات آيديولوجيّة لتبرير الهيمنة وتكريس التفّوق.

التلاقح الثقافي

عند بوشنر، فإن تلاقح الثقافات وتقاطعها والاستعارات المتبادلة بينها واستلهامها لبعضها وإعادة اكتشافها ثقافات سابقة وإحيائها هي الصيغة العاّمة التي صنع بها البشر المعنى عبر الأجيال والجغرافيات، وإنّ تاريخ العالم، ليس إلا تاريخ هذه المبادلات الثقافيّة، بحيث يستحيل الزّعم بأصالة مطلقة لمنتج ثقافيّ عند أمّة أو عرق أو أتباع دين محدد، بحيث تبدو المعارف البشريّة وكانّها «مشروع دائم لإعادة تدوير واسع النطاق يتم فيه استرداد أجزاء صغيرة من الماضي أو استعارتها من شعوب أخرى لإبداع طرق جديدة في صنع المعاني في بيئات مغايرة».

مارتن بوشنر

ويورد بوشنر للتدليل على نظريته العديد من الأمثلة التي تشير إلى حدوث تبادلات ثقافيّة عالميّة في أوقات مبكرة من التاريخ البشريّ المدوّن، قبل عصور الحداثة وتطور تكنولوجيات الانتقال والتواصل.

فمثلاً، عثر المنقبون في موقع بومبي، المدينة الرومانيّة التي دفنت كما هي تحت رماد ثورة بركان فيزوف - جنوب إيطاليا - عام 79 ميلاديّة على تمثال صغير لشخصيّة أنثوية مصنوع من العاج، نقشت عليه حروف من لغة كانت مستخدمة في شمال غربي الهند، ويعتقد أنّه يمثل الإلهة الهندوسيّة البتول لاكشمي.

وعلى الرّغم من أن تاريخ مثل تلك العلاقات الثقافيّة موغل في القدم، فإن الوثائق واللقى والآثار المتوفرة لدينا اليوم تظهر أن نشوء الإمبراطوريّة الرّومانيّة خلق منصّة تبادل فكريّ وثقافيّ وماديّ كثيف وعلى نطاق جغرافي واسع امتد من حدود أسكوتلندا إلى قلب الهند مروراً بأوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جمعت بين عشرات الشعوب التي تعيش على بعد آلاف الأميال في شبكة واحدة.

وهكذا كان أثرياء روما يستوردون السلع الفاخرة من أقاصي الشرق كالحرير والتوابل، ومعها تماثيل الآلهة الهندية، ولا شكّ الكثير من الحكايا والأساطير والأفكار. في المقابل، فقد تم العثور على عملات رومانية في أجزاء مختلفة من الهند.

تطعيم الثقافة

يركز بوشنر استكشافه لهذا التمازج الثقافي في المقام الأول على الفنون البصرية والمسرحية وأشكال الكتابة بجميع أنواعها، متطرقاً بإيجاز إلى مجالات أخرى، دون أن يصل في سرديته إلى حد التعاطي مع الثقافة على أنها «طريقة حياة الشعب بأكملها» كما وصفها تي إس إليوت مثلاً. ولذلك؛ فإن الفنون كمختبر للتفاعلات الثقافيّة هي المساحة التي يبني عليها بوشنر مرافعته الممتدة في 15 فصلاً، أي «من فن الكهوف إلى فن رقص البوب (الكوري المعاصر)»، كما يذكر العنوان الفرعي للكتاب في طبعته الأمريكية.

يمضي بوشنر في سرده التاريخيّ إلى استعراض الطرق التي تمّ بها تطعيم الثقافة واقتراضها وتخزينها وإعادة اكتشافها وتدهورها وإحيائها، وكيف تأثر الجميع بالآخرين واستعاروا منهم في كل الأوقات.

لقد سُحر الفيلسوف الإغريقيّ أفلاطون بالثقافة المصرية، وبالذات نظم الكتابة الفرعونيّة القديمة، واستعار فيرجيل في الإنياذة من الأشكال الملحمية اليونانية لينظم قصة التأسيس للأمّة الرومانيّة، ونقل الرحالة الصينيّ شوانزانغ في القرن السابع الميلاديّ النصوص البوذية إلى الصين، وترجمها من السنسكريتية القديمة إلى الصينية.

ونقل السلطان فيروز شاه توغلاق في القرن الرابع عشر الميلاديّ عموداً يبلغ ارتفاعه 40 قدماً نُقشت عليه كتابات غامضة من سفوح جبال الهيمالايا إلى قصره السلطنة في دلهي. ونحن نعلم اليوم أن ذلك العمود كان صنع في عهد الملك أشوكا من إمبراطورية ماوريا في شبه القارة الهندية (القرن الثالث قبل الميلاد) لينقل توجيهاته عبر النقوش إلى رعاياه.

وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن فكرة الأعمدة المنقوشة أخذت حينها عن المسافرين الفرس في إطار شبكة تبادل ثقافي بدأها الإسكندر الأكبر المقدوني. ومن المعلوم أن الأوروبيين في بدايات عصر النهضة أخذوا كثيراً من المعارف والعلوم عن مفكرين وعلماء مسلمين، ممن صنعوا منتجات حضاريّة استفادت من شبكة تبادلات هائلة بين الشعوب الإسلاميّة امتدت من حدود الصين إلى شواطئ الأطلسي، كما أعادوا إحياء الثقافة والفلسفة الإغريقيّة القديمة.

الاستعارات الثقافية

ومن الواضح هنا أن الاستعارات الثقافيّة حدثت بين الشعوب متقاربة ومتباعدة، وبين الأجيال كذلك. والمهم دائماً كان «ليس المنتج الثقافي الذي تمت استعارته بحد ذاته، بقدر الكيفيّة التي تمت بها تلك الاستعارة، والنتيجة التي أدت إليها». بمعنى آخر، الصّيغة التي أعيد بها توظيف المنتج الثقافي التاريخي للأغراض المستجدة في سياقات مختلفة زمانياً أو مكانياً أو زمانياً-مكانياً معاً. إن هذه التوفيقية التي يقترحها بوشنر تبدو ضروريّة لمواجهة فوضى معرفتنا بالتاريخ؛ فالاستعارات الثقافيّة كانت بشكل ما المورد الوحيد الذي لدينا لفهم العالم كاستمرارية.

على أن بوشنر يشير بوضوح إلى الصعوبات التي قد تكتنف التبادلات الثقافيّة. فهيرنان كورتيس، المستكشف الإسبانيّ من القرن السادس عشر حصل من موكتيزوما، زعيم حضارة الأزتيك، على مجموعة من الهدايا الثمينة والجميلة. كانت تلك محاولة لرشوة كورتيس لعله يرحل. على أنّ تلك المجموعة من الهدايا كانت آخر ما أخذه الإسبان من الأزتيك بطريقة سلميّة. إذ إن كل شيء آخر إما استولوا عليه بالعنف البحت أو دمّروه تماماً.

وفي الحقيقة، فإن ثقافة بلاد المكسيك مثلاً هي نتاج هذا الاختلاط العنيف بين الغزاة الأوربيين وأهل البلاد الأصليين. وينقل هنا بوشنر نصاً عن نقش في مكسيكو سيتي، حيث موقع معركة شهيرة بين مقاتلين أزتيك وإسبان «لم تكن هذه المعركة نصراً أو هزيمة، بل لحظة الولادة المؤلمة لشعب المستيزو الذي هو المكسيك اليوم». ولذلك؛ يقول بوشنر، فإن «التبادلات الثقافيّة لم تكن بالقصة الجميلة دائماً»، بل كثيراً ما اختلطت بالدّماء والآلام.

في أيّامنا المعاصرة، اكتسبت مسألة الاستعارة بين الثقافات حساسيّة عالية، وأصبحت موضع جدل. فأين تقف حدود الاستعارة، ومتى تعد سرقة ثقافيّة؟ يناقش بوشنر هنا تسلسلات القوّة الحديثة، وكيف تم تعزيزها من خلال اختراع الأنثروبولوجيا والمتاحف والتوسع الاستعماري والهجرات القسريّة، ومع ذلك فهو يبدو ميالاً إلى تجاوز مفهوم امتلاك العناصر الثقافيّة محليّاً لمصلحة مفهوم أوسع يرى في الثقافة نتاجاً إنسانياً «لتفاعل المجموعات البشريّة عبر حواجز الزمان والمكان من خلال تقاطعات مبدعة وخلاقة وتأثيرات ضمنية». على أن ذلك يبدو بشكل ما غير مقنع تماماً. فكيف يمكننا أن نقبل مثلاً سرقة الإسرائيليين للتراث الفلسطيني في الأزياء والطعام وتسويقه عالمياً بأنه ثقافة إسرائيليّة؟

إنّ بوشنر حكواتيّ بارع، وسرده لتاريخ العالم في هذا الكتاب، كما في كتابه السابق «العالم المكتوب: قوة القصص في تشكيل الشعوب والتاريخ والحضارة - 2017» ممتع وجزيل دون شك، لكنّ القارئ عند نهاية رحلة مدهشة سيجد نفسه حتماً مع كثير من الأسئلة، وقليل من الأجوبة.



الرواية وأسلوب «ما بعد اليفاعة»

حنا مينه
حنا مينه
TT

الرواية وأسلوب «ما بعد اليفاعة»

حنا مينه
حنا مينه

يمكن تفسير أسلوب ما بعد اليفاعة بوصفه صيغة تواؤم مع الحياة والكتابة بعد انقشاع أوهام البدايات، وإيناع الشكوك حول اختيارات «وهج الإنجاز السريع»، واستيعاب الأخطاء والتعلُّم من إيقاع الزمن، بل يمكن اعتبار الأسلوب في هذا المقام قرين المسافة؛ إذ يستقر الإيمان والاختيار والانتماء للأفكار والتعابير والمرجعيات والموضوعات خارج نطاق الاكتشاف والحماس والعاطفة. معنى مختلف، إلى حد ما، عمّا قصده إدوارد سعيد بـ«الأسلوب المتأخر»، ذلك الذي يحدث ويكتسب ملامحه بعد فوات الأوان، مقترناً بإحساس مأساوي بالزمن، فيبدو في غير محله.

قد تكون الرواية أبلغ الفنون تعبيراً عن أسلوب «ما بعد اليفاعة» في سعيها لتمثيل مكابدة المسافة، بما أنها تتعلق بقياس مفارقات البدايات والمصائر، خبرة لا تتأتى في اليفاعة ظاهرياً، وإنما عبر ما سمّاه ديريدا بـ«الإرجاء في العلاقة بالمعنى»، بترك الصور تكتمل عبر الاختمار في الذاكرة، إذ تكتب الرواية برغبة لاعجة لفهم ما مضى، وما تحصل في جراب العمر من خطوب وتحولات، فتتجلى بما هي تأمل في النوازع الإنسانية العصية على الفهم، المحتاجة دوماً إلى امتحان صلتها بالمعنى والعدم، على حد سواء، ومساءلة للمعتقدات والأفكار المتراسلة عبر التاريخ، عن الكون والإنسان. وعادة ما نعثر في الأعمال الروائية التي تُنعث بالطليعية على مقومات تبديل القناعات، بحيث يمكن أن تخرج بعد قراءتها من سكينة اليقين، إلى جحيم الشك، ذلك ما تحققه نصوص من قبيل «الإنجيل يرويه يسوع المسيح» لجوزيه ساراماغو، ورواية «الأحمر والأسود» لستاندال، و«الغريب» لألبير كامو، وغيرها من الروايات الخالدة، إنها الخاصية الذي تجعل الرواية تمثل بما هي مراجعة لجوهر الإيمان، وسعياً إلى سرديات نقيضة.

غسان كنفاني

والمفترض أن تكتب هذه الروايات المنطوية على مراجعات جذرية بخصوص العقيدة والوجود في سن متقدمة، سيما أن روائيين كثيرين اختاروا الانحياز لأسلوب ما بعد اليفاعة، أي التعبير الروائي، في سن ما بعد الأربعين. بيد أن تفاصيل شديدة الدلالة تجعل قارئ الرواية وناقدها والمتأمل لعوالمها يراجعون مبدأ اقتران أسلوب ما بعد اليفاعة بخريف العمر؛ إذ لم تكن رواية «الغريب» الصادرة سنة 1942 لألبير كامو، وهو في سن التاسعة والعشرين من عمره، إلا مثالاً على ارتباك هذه القاعدة، التي قد يكون رسخها صدور أعمال من قبيل «الإنجيل يرويه يسوع المسيح» في التاسعة والستين من عمر صاحبها، أي في غمار الخريف الذاهب بعنفوان الجسد والذهن.

وجدير بالذكر في هذا السياق، أن الروائي الفرنسي أندري مالرو لم يكن يتجاوز سن الثالثة والثلاثين حين حصل على جائزة الغونكور عن عمله «الشرط الإنساني»، وهي الرواية المتحفية عن جوهر الإرادة المجافية للشر، التي تغدو مكبلة للواجب، وفي تناقض مع مبدأ مكابدة العيش. لقد كان مالرو مقاتلاً في حروب عدة، من الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى الحرب الأهلية الإسبانية، إذ تطوّع فيها ضمن صفوف الجمهوريين، وكانت التجربة أكبر من السنوات التي تحوّل فيها إلى مقاتل وشاهد، ثم مناضل مناهض للاستعمار ومقاوم للغزاة والفاشيين. أستحضر رواية «الشرط الإنساني» جنباً إلى جنب مع «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، التي لم تجاوز عتبات الشرط الإنساني، إذ ارتكزت مدارات التخييل فيها على قاعدة استسلام الإنسان إلى قدره بتفاهة ودون مقاومة، لقد كتبها كنفاني وهو في السابعة والعشرين من عمره، وهو المناضل الفلسطيني الذي عاش معترك الثورة وتغريباتها المتراسلة، قبل أن يقضي في يفاعته البهية شهيداً، كانت الرؤية مرة أخرى بعيدة عن خريف العمر، إنما ناضجة، وآتية من قعر الزمن والذاكرة، لفحتها قسوة المنابذ والمنافي والحروب.

فولكنر

هل قدر الرواية أن يعوض فيها قدر الوجود على شفير الموت، ومجاورة الخطر، حكمة خريف العمر؟ لا تستقيم هذه القاعدة في سياق محفوف بالالتباسات والأقدار المتضاربة والمتنائية، فحين نشر فوكنر روايته «المحراب»، وهي من أكثر النصوص الروائية عمقاً وفتنة على امتداد تاريخ الرواية الحديث، كان في الرابعة والثلاثين من العمر، دون أمجاد تذكر، ولا أحداث أو مغامرات فارقة، بعد مسيرة خاملة في إحدى مدن ولاية المسيسيبي الأميركية، كانت حياة هادئة لا تليق بكاتب روايات الرعب والصخب التي أصدرها تباعاً. لقد كتب «المحراب» بنهم إلى الحياة ظاهر؛ حيث كان القصد تدبيج نص مثير وصاعق يفتن القراء، وخلال ثلاثة أسابيع كان قد أكمل أحد أكثر أعماله عمقاً ونضجاً إنسانياً، ولم يكن هذا النص الرؤيوي، الذي بات من أشهر الكلاسيكيات الروائية، إلا حكاية فظاعة النفس البشرية واجترائها على المحرمات، كانت الرواية تنضح بإشراقات أسلوب ما بعد اليفاعة، تلك التي وسمها أندري مالرو حين قدمها للجمهور الفرنسي سنة 1933 بقوله: «إنها إقحام للرواية البوليسية في التراجيديا الإغريقية».

لكن لنعد إلى تجربة ساراماغو نفسها؛ حيث يتجلّى العمل بما هو صيغة دنيوية للإنجيل المقدس، فيشخص يسوع في بشريته. لقد كتبت الرواية بثقل السنوات النافذة من شبكة العين العتيقة المطلة من شرفة السبعين على الماضي الذي عبّر فيه الكاتب العقائد الدينية والسياسية والنضالية قبل أن يستقر على العقيدة الروائية التي جعلته ينهي سرديته على إيقاع فجائعي، يرافق لحظة انقشاع الوهم.

وفي لقطة مماثلة تدل على قنوط بالزمن، سُرّبت وصيتا غارسيا ماركيز، وحنا مينة قبل وفاتيهما بمدة، كما ترددت شائعات كثيرة حول موتهما، لعل المشترك في الوصيتين معاً هو استرسال الصوتين في السرد المتأمل والتركيز على قيم حياتية أثيلة في الروايات. رسالتان للقارئ ليستا عن الموت وإنما عما ينبغي أن يكون وعي القارئ الحي به وبالحياة بالأحرى، دونما شعور كارثي أو حسرة أو شهوة للخلاص، وإنما بنفس أسلوبي ضاج بنبض ما بعد اليفاعة. إذ الطهرانية نقيض الرواية المعجونة بالتوق للاسترسال، لهذا يتطلع الروائي المعمّر، في سطوره الأخيرة، إلى الطمأنينة، أكثر من أي شيء آخر، بعد شبع صادق من فتن خصيبة عيشت لتُروى.

تلفت الانتباه عبارة لا تخلو من سخرية في وصية حنا مينة، تقول: «عمرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت»، تختزل جوهر الروائي المتزن العميق والشجاع على حد سواء، فبخلاف القادمين إلى الكتابة الروائية من مسارات مهنية وأكاديمية مختلفة، وتجارب حياتية مرفهة بمعنى ما، ينتمي حنا إلى زمرة الروائيين القادمين إلى الكتابة من معترك العمل اليدوي وفن مكابدة الدروب والوجوه والشهوة والظمأ، التعلُّم نفسه تجلّى بما هو وسيلة نورانية لا تمت بصلة لتحصيل القوت، تُشبه حياته حياة فنانين انطباعيين ممن تحول في اعتقادهم التعبير إلى هوية وانتماء، يمكن أن يأخذ صاحبه إلى تخوم قصوى، دون عجلة في التطلُّع إلى ما بعد ذلك من إنجاز وتحقق.

ليس من شك، أن أحد الأسباب الرئيسية لذيوع الرواية ورواج أنواعها وانتشارها، أنها تحقق مآرب انقلابية عظيمة على الأمد البعيد، وتحسن معارفنا بالمجتمع والتاريخ، وبالمدن والحضارات، وبالنفس البشرية؛ وتسهم بشكل ما في تحويل استعمالاتنا للغة ومفرداتها ومجازاتها، وتملأ ما لا يُملأ من لحظات الوجود، خارج مطحنة التواصل مع الآخرين. بيد أن الأهم والأكثر تأثيراً فوق كل ذلك هو تمكينها القارئ من إدراك معنى الأسلوب، الذي هو قرين النضج، ووعي الاستمرارية.