يُقال إنه لا يمكن إرجاع عقارب الساعة فيما خصّ الوعي (Consciousness). فما يعيه الإنسان يبقى في الذاكرة، ولا يمكن تجاهله مُطلقاً خلال التخطيط لأي عمليّة مستقبليّة. فالوعي يوجّه بوصلة القرار للمستقبل. كما يقول رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل، بما معناه «أن الحقيقة مهمة جدّاً خلال الحرب، من هنا ضرورة تغليفها بمجموعة من الأكاذيب».
يقول المفكّر البروسي الكبير كارل فون كلوزفيتز، إن الضباب يُغلّف الحرب من كلّ جوانبها (Fog of War). فخوض الحرب هو كمن يحاول الركض في الوحل. لكن الحل يكمن في الاستعلام عن الحرب والعدو بصورة مستمرّة، فقط من أجل خفض كثافة الضباب حول الحرباء التي اسمها «الحرب». لكن إنتاج الضباب بصورة مستمرّة، هو مُكوّن أساسي من خصائص الحرب. فما بعد الطلقة الأولى لبدء الحرب، هو ليس كما بعد الطلقة الثانية. فكيف بحرب في أوكرانيا تخطّت عامها الأول وكأنها بدأت البارحة؟
تسريب الوثائق السريّة!
أن تتجسّس الدول بعضها على بعض هو الأمر الطبيعي، وليس الاستثنائيّ، وضمناً التجسس على الحلفاء. تجسّست أميركا صناعيّاً على بريطانيا الحليف في القرن التاسع عشر؛ لأن الثورة الصناعيّة كانت قد بدأت في بريطانيا. والصين اليوم تتجسّس على الولايات المتحدة الأميركيّة صناعياً، تكنولوجياً وحتى عسكريّاً. وإلا فما معنى تحليق المنطاد الصيني مؤخراً فوق أهداف أميركيّة ذات قيمة استراتيجيّة كبرى، وداخل الأراضي الأميركيّة؟
تجسّست أميركا على العالم، البارحة، واليوم، وسوف تستمرّ غداً وعلى المنوال نفسه. هذه هي طبيعة الدول، فهي تخشى المفاجآت، وتحاول تجّنبها عبر سبر ومعرفة أهداف العدو والمنافس مسبقاً. لكن كثرة المعلومات هي الوجه الآخر للنقص في المعلومات. ففي حالة كثرة المعلومة، يتعذّر عندها التحليل الدقيق. وفي حال شحّ المعلومة، تبقى الخطط منقوصة.
مقاربة تحليليّة مختلفة للتسريب
هو خرق للمنظومة الأمنيّة (Hacking)؟ أو هل هو تسريب للوثائق (Leak)؟ لا يهمّ الجواب؛ لأن الضرر قد حصل. فالخرق يعكس هشاشة الأمن الرقمي الأميركيّ. وفي حال التسريب، قد ينطبق المثل العربي: «دود الخلّ منه وفيه». هكذا تبيّن مؤخراً عن ناشر هذه الوثائق. فهو يعمل في قاعدة عسكريّة. وهو محبّ للأسلحة. وهو شارك مجموعته هذه الوثائق على تطبيق- منصّة «ديسكورد» بهدف تثقيفهم. إذن هو حتى الآن ليس خارقاً، أو مُسرّباً للوثائق. فهل هذه هي مجموعة الأكاذيب التي تُغلّف الحقيقة حسب نصيحة تشرشل؟
أين تستفيد أميركا من تسريب الوثائق؟
تعكس الوثائق كيف تقيّم الولايات المتحدة الأميركيّة حالتَي الجيش الروسي كما الأوكراني. كما تؤكّد الوثائق أن أميركا كانت تعرف كل خطط الجيش الروسي مسبقاً. فهل تقول أميركا عبر الوثائق إنه لن يكون هناك رابح وخاسر في هذه الحرب؟ وهل تقول إن الوضع سيكون للفريقين، وفي حال استمرار الحرب «خاسر- خاسر»؟ فما هي الرسالة؟
كما تقول الوثائق إن الهجوم الأوكراني المنتظر لن يؤدّي إلى نتائج كبيرة. فالهجوم بحاجة إلى دعم أو تغطية جويّة. وهذا أمر ليس مؤمّناً بسبب النقص في المنظومات الدفاعيّة الأوكرانيّة؛ الصواريخ تحديداً. وفي حال فشل تأمين المنظومة الدفاعيّة الجويّة، ستصبح الأجواء الأوكرانيّة مفتوحة وبحريّة لسلاح الجوّ الروسي الذي لا يزال سليماً معافى. فما هي الرسالة؟
تذكر الوثائق المُسرّبة أن الصين كانت تنوي إرسال أسلحة إلى روسيا تحت غطاء عتاد مدنيّ. فما هي الرسالة؟ ألم تُفرّغ هذه التسريبة ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الموقف الغربي من الصين- تايوان، وعلاقة الصين بالحرب الأوكرانيّة؟ فما هي الرسالة؟
تذكر الوثائق أيضاً أن رئيس وزراء هنغاريا صنّف أميركا على أنها الخصم الأول. فما هي الرسالة؟ ولماذا تفرض أميركا عقوبات على بنك هنغاري تعتبره ممول شبكة الجواسيس الروسيّة في أوروبا؟
التسريب هو وسيلة من وسائل الدبلوماسيّة غير المباشرة. فالدبلوماسيّة، وبشكل عام، هي محاولة التغطية والتعمية على الموقف الحقيقي للدول. إنها وبكلام بسيط عمليّة خداع كبيرة.
تسريب الوثائق مفيد للولايات المتحدة الأميركيّة. فهو وسيلة من وسائل الدبلوماسيّة التي توصل الرسائل لمن يعنيهم الأمر؛ لكن ليس عبر الطرق الدبلوماسيّة التقليديّة. هي تقول لهم، للعدو والحليف، إننا نعرف، إننا نراقب، فحذار. ألم يُبرّر بعض الحلفاء ما سُرّب عنهم في الوثائق؟
كل ذلك مع إمكانيّة نكران المسؤوليّة. فالوثيقة مُسرّبة، أو مخترقة، وليس بالضرورة أن تكون حقيقيّة. فهل هي استكمال للطريقة الجديدة التي ابتكرها ويليام بيرنز مدير الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة، والتي تقوم على نشر الأسرار بدل الاحتفاظ بها حسب الطريقة القديمة؟ ألم ينشر بيرنز كلّ خطط الرئيس بوتين العسكريّة قبيل اجتياح أوكرانيا؟
هل هي رسالة أميركيّة لروسيا؟ هل أصبحت الحرب الأوكرانيّة عبئاً ثقيلاً على صدر أميركا؟ وهل ما تشهده جبهة تايوان اليوم أصبح أكثر إلحاحاً من جبهة أوكرانيا؟ هذا كلّه في التحليل في ظلّ غياب المعلومة. لكن الأكيد أن حرفة التجسّس قد تبدّلت إلى غير رجعة في العصر الرقميّ.