هل كان هتلر مثقفاً؟

كانت مكتبته تضم 16 ألف كتاب

هل كان هتلر مثقفاً؟
TT

هل كان هتلر مثقفاً؟

هل كان هتلر مثقفاً؟

كم دهشت، بل وصعقت، عندما اكتشفت أن هتلر كان عاشقاً للكتب وقارئاً نهماً لا يشبع! في البداية لم أكد أصدق عيني حتى تعمقت في الموضوع مؤخراً وتوقفت عنده. بعد أكثر من سبعين سنة على سقوط النازية كنا نعتقد أننا نعرف كل شيء عن هتلر. فالمؤلفات التي نُشرت عنه في شتى لغات العالم لا تُعد ولا تُحصى. لم يتركوا شاردة وواردة في حياته إلا نقّبوا عنها ودرسوها وأشبعوها تمحيصاً وتدقيقاً. ولكن حتى الآن لم يفكر أحد في دراسة الموضوع التالي: علاقة هتلر بالثقافة والكتب. فهم يتهمونه بحرقها فإذا به مولع بها. والواقع أنه حرق منها الملايين، ولكنه جمع منها الآلاف أيضاً في مكتبته الخاصة. ما هي المطالعات التي شكّلت ثقافته وشخصيته؟
أول شيء نستخلصه هو أن هتلر كان مصاباً بعقدة النقص تجاه الثقافة والمثقفين بشكل عام. لماذا؟ ليس لأنه كان يكرههم على عكس ما نظن. وإنما لأنه كان يشعر بعقدة النقص تجاه المثقفين جداً أو الحائزين شهادات عليا؛ لأنه هو كان محروماً منها. لم يكن يحمل حتى شهادة البكالوريا! من يصدق ذلك؟ وبالتالي فكل ثقافته كوّنها بشكل عصامي معتمداً على نفسه. ولهذا السبب انخرط في اقتناء الكتب وقراءتها بكل حماسة لسد النقص. وعندما انتحر عام 1945 وجدوا في مكتبته الخاصة ما لا يقل عن ستة عشر ألف كتاب! وهو رقم كبير جداً بالنسبة لذلك الزمان، بل وحتى بالنسبة لزماننا. ولكن كيف كان يجد الوقت الكافي لإشباع هوايته في المطالعة أو عطشه للقراءة وهو على رأس الدولة؟ وأي دولة! أعظم دولة في ذلك التاريخ. في بعض اللحظات كان يهيمن على أوروبا، بل والعالم كله تقريباً. تقول لنا الأخبار بأنه كان ينتظر بفارغ الصبر حتى تنتهي آخر مواعيده الرسمية كل مساء، لكي يختلي في مكتبته مع إبريق كامل من الشاي فيطالع الكتب حتى ساعة متأخرة من الليل. ويقال بأنه كان يقرأ كتاباً واحداً كل ليلة! شيء عجيب. شيء لا يكاد يصدقه العقل. أنا المتفرغ كلياً للكتابة والمطالعة على مدار الساعة لا أستطيع أن أقرأ كتاباً كاملاً في اليوم. ربما قرأت نصفه أو ربعه لا أكثر. أقول ذلك وأنا لست رئيساً على أي شخص ولا على أي دولة ما عدا دولة نفسي وبالكاد! ولا أقود الجماهير ولا يخطر على بالي أن أشتغل في السياسة لحظة واحدة. ولا أعقد اجتماعات مع أي شخص اللهم إلا مع ذاتي. عصر السياسة لم يحن أوانه بعد. هذا عصر التفكير والتحليل والتعزيل الكبير. ربما أصبحت السياسة ممكنة في العالم العربي بعد عشرين أو ثلاثين سنة قادمة. السياسة الوحيدة الممكنة اليوم هي سياسة الفكر المبدع الخلاق:
لا تصلح الدنيا ويصلح أمرها
إلا بفكر كالضياء صراح
(بدوي الجبل متحدثاً عن المعري)
على أي حال، كان هتلر مولعاً بالقراءة والمطالعة إلى حد الهوس. كان مولعاً بقراءة السير الذاتية عن كبار الفاتحين في التاريخ: كنابليون، ويوليوس قيصر، والإسكندر المقدوني، وفريدريك الكبير الذي ربما كان آخر كتاب قرأه قبيل انتحاره في 30 أبريل (نيسان) عام 1945. ربما تساءلتم هنا: لكن ما هي أهم الكتب الأدبية التي كانت تحظى بإعجابه؟ أولاً: دون كيشوت، وروبنسون كروزو، ورحلات غوليفر، إلخ. كان يعدّ هذه الكتب من روائع الأدب العالمي. وكان يمتلك الأعمال الكاملة لويليام شكسبير الذي كان يضعه فوق غوته وشيلر رغم عصبيته الآرية الألمانية. وكان يتساءل أحياناً بغضب: لماذا أنجب عصر التنوير الألماني مسرحية «ناثان الحكيم» للفيلسوف ليسنغ التي تقص حكاية ذلك الحاخام الذي حاول المصالحة بين المسيحيين والمسلمين واليهود، هذا في حين أن شكسبير قدّم للعالم الصورة الحقيقية عن اليهودي، أي الصورة البشعة، من خلال مسرحيته الشهيرة «تاجر البندقية» وشخصية شايلوك المقززة؟. لهذا السبب؛ كان هتلر يفضّل شكسبير لأن هذه الفكرة كانت تتماشى مع كرهه الشديد؛ ليس فقط لليهود وإنما للساميين بشكل عام، ومن بينهم نحن العرب بالذات!
من هنا انقلابه على عصر التنوير وقيم التسامح والعقلانية والنزعة الإنسانية وكل إمكانية للمصالحة بين الأعراق البشرية والأديان المختلفة. من هنا عنجهيته الآرية وإشعاله كل النزعات الهيجانية اللاعقلانية التي اكتسحت ألمانيا في عهده وأدت إلى النتيجة الكارثية التي نعرفها.
هذا، وقد اطلع في الترجمة الألمانية على كتاب الصناعي الأميركي الشهير هنري فورد عن «اليهودي العالمي الكوسموبوليتي: مشكلة العالم الكبرى». وتأثر به كثيراً على ما يبدو. ونستنتج ذلك من خلال التعليقات الكثيرة التي كان يكتبها على هوامش الكتاب. وعموماً، كان يقرأ بنهم كل الأدبيات العنصرية التي كانت مسيطرة على عصره وتتخذ صفة الحقيقة العلمية المطلقة. كان ذلك بعد داروين ونظرية الاصطفاء الطبيعي والبقاء للأصلح، إلخ. كان يعتقد بأن الأعراق الدنيا ينبغي أن تنقرض لكي يخلو الجو فقط للأعراق العليا، وبالأخص العرق الآري الجرماني. هذا الفهم الخاطئ لداروين والنظرية البيولوجية الحديثة هو الذي أودى بهتلر وأفسد كل مشروعه السياسي لأنه أصبح مفرغاً من كل نزعة أخلاقية أو إنسانية. هنا يكمن مقتل هتلر بالضبط. وذلك لأنه لا يمكن أن ينجح أي مشروع سياسي قائم فقط على الكره والبغض واحتقار الآخرين. كل الحضارات البشرية العظمى ومنها حضارتنا العربية الإسلامية قامت على أكتاف الحب العارم والنزعة الإنسانية. وقد سقطت هذه النظرية البيولوجية العنصرية لحسن الحظ لاحقاً. ولكن اليمين المتطرف الأوروبي لا يزال متعلقاً بها بدليل نظرته السلبية عن العرب والسود مثلاً. فنحن في نظرهم من عرق أدنى غير صالح للحضارة. وسوف نظل همجاً متخلفين إلى أبد الدهر. فهناك أعراق بشرية خُلقت للحضارة وهناك أعراق لم تُخلق لها. هذا هو المنظور الأساسي الذي كان يخيم على عقل هتلر.
أما قصة تأثره بنيتشه وشوبنهاور وفيخته فمبالغ فيها جداً؛ لسبب بسيط: هو أن ثقافته الفلسفية كانت سطحية ولا تسمح له بفهم المقاصد العميقة لكبار الفلاسفة. كان يفهم الكتب السياسية والتاريخية، ولكن ليس الكتب الفلسفية العميقة التي تحتاج إلى اختصاص وتبحر. ولكن بما أنه زار بيت نيتشه واستقبلته أخته إليزابيث بكل حماسة وأهدته عصا الفيلسوف وأخذوا له صورة أمام تمثال أخيها العظيم، فإن الناس اعتقدوا بأنه كان نيتشوياً صرفاً! في الواقع، إن الدعاية النازية سطت على فلسفة نيتشه واستخدمتها لأغراضها الديماغوجية الغوغائية كما تفعل الحركات السياسية عادة مع كبار المثقفين. ومعلوم أن نيتشه كان وقتها في أوج شهرته ومجده. وكان قد مات مجنوناً منذ أكثر من ثلاثين سنة عندما زار «الفوهرر» بيته ومتحفه وتمسح بركابه وادعى أنه من تلامذته المعجبين! نقول ذلك ونحن نعلم أن شهرة نيتشه انفجرت بعد موته كالقنبلة الموقوتة.
أما في حياته فلم يكترث له أحد ولم يُنشر عن كتبه العبقرية المتتالية شيء يذكر في الصحف. ولم يُبع منها إلا بضع نسخ، وهكذا ظلت ملقاة على الرفوف حتى تلفت أو كادت. وكان ينشرها على نفقته الخاصة رغم فقره وتعتيره. ولكن بعد موته أصبحت تُطبع بالملايين! تصوروا لو أن نيتشه عاش بما فيه الكفاية لكان قد أصبح مليونيراً أو مليارديراً فقط من مبيعات كتبه. من هنا نفهم سر عبارته الشهيرة: «هناك أناس يولدون بعد موتهم»! كان يعرف أن لحظته آتية لا ريب فيها، ولكنه لن يكون هنا لكي يستمتع بثمار شهرته وعبقريته. مسكين نيتشه!
على أي حال كل الشهادات التي نقلت إلينا تدل على أن هتلر كان يفضل رفقة الكتب على رفقة البشر، وتضييع الوقت في الثرثرة مع هذا أو ذاك كما يفعل الآخرون. كانت تنطبق عليه كلمة المتنبي: وخير جليس في الزمان كتاب! ولكن مشكلته هي أن قراءاته كانت متبعثرة ومتشتتة أكثر من اللزوم.
أخيراً، لا بد من طرح هذا السؤال: كيف استطاع شخص نكرة، ضائع، عاطل عن العمل، متسكع في الشوارع، جائع، مثل هتلر، أن يصبح في ظرف سنوات معدودات قائد ألمانيا وزعيمها الأوحد؟ لا نستطيع الإجابة عن سؤال ضخم كهذا بكلمات معدودات. ولكن ينبغي العلم بأن الشخصيات الاستثنائية في التاريخ هي شخصيات إشكالية، عصابية، بل ومرضية بالمعنى الحرفي للكلمة. وإلا لما تجرأت على القذف بنفسها في فوهة المجهول وحرق المراحل والانتقال من الحضيض إلى القمة بسرعة صاروخية. الإنسان العاقل المتوازن أكثر من اللزوم لا يمكن أن يصبح قائداً تاريخياً لأنه يحسب الحساب لكل صغيرة وكبيرة ويخاف على حياته وأولاده ولا يتجرأ على الإقدام والاقتحام في اللحظة المناسبة. تنقصه جرعة الجنون الضرورية لذلك. لا عبقرية من دون جرعة جنونية أو حتى جرعات كما قلت في كتابي الذي سيصدر قريباً عن «دار المدى» بعنوان «العباقرة وتنوير الشعوب». ولذلك؛ لا يمكن للأشخاص العاديين الطبيعيين الخوافين من أشكالنا أن يصبحوا شخصيات عبقرية أو استثنائية. هتلر كان لا يتردد عن المخاطرة بنفسه في أي لحظة تماماً مثل نابليون وبقية القادة الكبار. بعد أن وصلنا في الحديث إلى هذه النقطة ينبغي القول بأن تاريخ البشرية ينقسم عموماً إلى نوعين من العباقرة: عباقرة الخير، وعباقرة الشر. ومأساة هتلر هي أنه كان ينتمي إلى النوع الثاني لا الأول؛ بدليل أن مشروعه انتهى بالانتحار الشخصي والجماعي لألمانيا التي كانت عزيزة جداً على قلبه. ومن الحب ما قتل! لقد دُمرت ألمانيا عن بكرة أبيها وانهارت على عروشها بسبب المشروع النازي. وبالتالي، فهتلر كان عبقرياً شريراً من الطراز الأول، على عكس نابليون الذي طبق فلسفة الأنوار ونشر مبادئ الحرية والمساواة والإخاء في شتى أنحاء أوروبا. وحتى عندما غزا مصر جلب معه مئات العلماء والفلاسفة لنقل نور الحضارة إلى الشرق! مَن هناك يرُجُّ الشرق؟ يقول شاعر عربي كبير (أدونيس).



كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».