ما إن يعقِد المسلم نيته لإنجاز رحلة العمر، وزيارة الأماكن المقدسة وأداء مناسك العمرة، حتى يملأه الشوق لرؤية تفاصيل المكان، الذي بدأت فيه، وانطلقت منه رسالة الإسلام إلى العالم قاطبة، ويصل حيث مهوى الأفئدة وقبلة المسلمين، يؤدي عباداته في خشوع، ويبدأ رحلة استكشافية مهمة للتشبع من تفاصيل المكان الأثير إلى قلوب الملايين.
إزاء ذلك، تطوّر السعودية والجهات المعنية بضيوف الرحمن نوافذ معرفية وإثرائية متصلة بالمواضع التاريخية التي بقيت قائمة كشواهد على حقبة الإسلام الأولى، واتصلت بقصص كثيراً ما ارتبطت بها أجيال الإسلام عبر الكتب والمراجع، وأضحى من الميسور لهم اليوم الوقوف من كثب على أطلال تلك الشواهد والمعالم التاريخية.
وتعمل السعودية على إطلاق مشروع «درب الهجرة النبوية» المرتبط بأهم رحلة في تاريخ الإسلام، ويُعنى المشروع بتطوير المواقع التاريخية والإسلامية والثقافية، التي مرّ بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ورفيق رحلته الخليفة أبو بكر الصديق، في أثناء رحلته التاريخية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، حيث استقر به المقام هناك في العام الأول للهجرة الموافق لـ622 للميلاد.
وتتضمن مبادرة تطوير درب الهجرة النبوية، تمكين الراغبين من تقفّي رحلة النبي محمد، حيث تجشم مصاعب الطريق وتحدياته الوعرة، وزيارة المواقع التاريخية الإسلامية والثقافية، وإغناء رحلتهم الإيمانية والروحانية بنوافذ معرفية وإثرائية، وتوفير الخدمات والمتطلبات الأساسية التي تمكنهم من الحصول على تجربة ثرية وسلسة.
ويرتبط درب الهجرة النبوية، بأهم رحلة في تاريخ الإسلام، وعليها وقع اختيار المسلمين موعداً لكتابة التاريخ الهجري، وشهدت الرحلة كثيراً من المواقف التي مرّ بها النبي محمد وصاحبه منذ خروجه من غار ثور، حتى بلوغه (قباء) المحطة النهائية للرحلة الكبرى التي وثقت المصادر التاريخية الكثير من معالمها الجغرافية والمواقف الإنسانية التي يستلهم منها المسلمون حتى اليوم.
رحلة الهجرة الكبرى التي امتدت ثمانية أيام، شمل مسارها التاريخي محطات ومعالم ومواقف بين مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، انطلق خلالها الركب النبوي، وشملت جبالاً وأودية ورياضاً وطرقاً وعرة، حتى بلوغ قباء، المحطة النهائية في مسار الهجرة النبوية، وفيها بني أول مسجد في الإسلام، فيما أقام النبي في قباء أربع ليال ابتداءً من يوم الاثنين آخر أيام الرحلة النبوية حتى ليلة الجمعة، وغادرها متجهاً إلى المدينة المنورة ليقيم في ديار بني النجار، حيث موقع مسجده اليوم، الذي عُرف على مر التاريخ بالمسجد النبوي، ونزل في منزل أبي أيوب الأنصاري لمدة ستة أشهر إلى أن بنى منزله شرق المسجد النبوي.
وقال الباحث عبد الله الشنقيطي إن الأمر الملكي الذي صدر في السعودية عام 1429 للهجرة، ونص على منع التعرض لأي أثر إسلامي في مكة المكرمة والمدينة المنورة، أسهم في إنقاذ الكثير من الآثار والمعالم والشواهد، التي كانت تتعرض مع الزمن لكثير من الإهمال والإزالة في بعض الأحيان، منوهاً بأهمية الجهود الرامية لإنعاش ذاكرة المكان، وما استقر في أسفار التاريخ من حكايات وملاحم.
ويهتم الباحث الشنقيطي بتتبع المواضع التاريخية في المدينة المنورة، التي ارتبطت بقصة الإسلام، وهو شغف بدأ منذ وقت مبكر في حياته العملية والعلمية، وحوله إلى مشروع لتصحيح المعلومات التاريخية المتعلقة بطريق الهجرة النبوية، وأصدر مجموعة مؤلفات متعلقة بالمواضع التاريخية التي كان يفحص مواقعها ميدانياً، آملاً أن تسهم جهوده البحثية في إغناء وإثراء كل المحاولات التي تحفظ قصة التاريخ الإسلامي، وتعيد ارتباط المجتمع المسلم والعالم أجمع بالبيئة التاريخية والجغرافية التي احتضنت رسالة نبي الإسلام.
وطوّرت السعودية نوافذ معرفية وثقافية لإثراء تجربة الزوار وقاصدي الحرمين الشريفين، بوصفها أحد الأهداف الاستراتيجية لبرنامج خدمة ضيوف الرحمن أحد برامج «رؤية 2030». وذلك للتعريف بالسعودية والإرث التاريخي العربي والإسلامي الذي تضمّه على أراضيها، وتتنوع النوافذ بين رعاية المواقع التاريخية والمعالم الأثرية، وبين إقامة الأنشطة والفعاليات والمعارض التي تعكس حجم التاريخ العريق.