تتوسط أفريقيا خريطة العالم، إلا أنها تشهد اليوم تنافساً دولياً غير مسبوق، وتشوه ملامحها عشرات الصراعات المسلحة، وتزيدها تغيرات المناخ وأزمات العالم نحولاً وهزالاً. هذه الأجواء ربما أضفت مزيداً من الاهتمام بالقمة الـ36 للاتحاد الأفريقي، التي استضافتها العاصمة الإثيوبية أديس أبابا (مقر الاتحاد) خلال الفترة من 17 إلى 19 فبراير (شباط) الحالي، بحضور 35 رئيس دولة و4 رؤساء حكومات، ووفود ممثلة لدول القارة جميعاً. بيد أن الواقع يشير إلى أن تلك الأجواء لم تكن وحدها السبب وراء الاهتمام بأعمال ونتائج القمة. القمة «العادية» ربما مثلت هذا العام فرصة «غير عادية» لإعادة النظر في سياسات العمل الأفريقي المشترك، بعدما أتم الاتحاد الأفريقي عقده الثاني، ومضى على ميلاد المنظومة الأفريقية الأم (منظمة الوحدة الأفريقية) 6 عقود كاملة. وهي مناسبة يراها كثيرون فرصة سانحة لمراجعة الماضي، ونقطة ارتكاز لانطلاق نحو المستقبل، يسعى إلى تغيير واقع القارة التي تموج بصراعات محتدمة داخلها، أو من حولها، ويحقق حلم «الآباء المؤسسين» في ستينات القرن الماضي بأن ينال أبناء القارة السمراء ما يكفيهم من «الخبز والحرية».
«التحديات»... ربما هي الكلمة الأكثر تردداً في الخطاب الأفريقي على مدى السنوات الماضية، مع أن القمة الـ36 سعت إلى الحديث عن «الفرص». مع هذا، الكلام عن الفرص لم يستطع إغفال الهواجس والمخاوف القائمة نتيجة أزمات العالم المحتقن بفعل الحرب الروسية - الأوكرانية، وقبلها تداعيات جائحة «كوفيد - 19»، التي أدت إلى تفاقم أزمات القارة، لا سيما على مستوى تدهور أمنها الغذائي. إذ تفاقم تراكم الأزمات نتيجة الحرب والجائحة، وتزايدت معاناة القارة، التي تمتلك 60 في المائة من مساحات الأراضي القابلة للزراعة عالمياً، لكنها تتصدر في الوقت ذاته لائحة المناطق الأكثر استيراداً لغذائها.
هذا الواقع جعل أفريقيا القارة الأكثر عُرضة للمجاعات، فضلاً عن كونها، وفقاً للبنك الدولي، موطناً لأكثر من 60 في المائة من فقراء العالم المدقعين. وإذا أضفنا تصاعد أعمال العنف والإرهاب، وانتشار التنظيمات المتشددة التي تُحاصر القارة شرقاً وغرباً، وتُضاعِف موجات اللاجئين والمهاجرين، وتزيد من خسائر غياب التنمية، واتساع رقعة التحولات «غير الدستورية»، ستطول لائحة «التحديات» التي تواجهها أفريقيا وتنوء تحت ثقلها.
- منطقة التجارة الحرة
القمة الأفريقية التي تولى رئاستها رئيس جزر القُمُر خلفاً لنظيره السنغالي، جاءت تحت شعار «تسريع تنفيذ منطقة التجارة الحرة الأفريقية القارية»، وسط تحديات اقتصادية بالغة الخطورة تواجه شعوب القارة. وسعى المجتمعون إلى تجاوز التباطؤ الذي اعترى إجراءات تنفيذ تلك السوق، منذ وقّع القادة الأفارقة اتفاق تأسيسها عام 2018 في العاصمة الرواندية (كيغالي)، ودخلت حيز التنفيذ في 30 مايو (أيار) 2019. إلا أنها منذ ذلك الحين، تواجه عثرات داخلية بسبب قلة توافق الأنظمة المالية والتجارية للدول الأفريقية، وزادت الأزمات الدولية، وخصوصاً «كوفيد - 19»، المشروع تعثراً.
كان طموح القادة الأفارقة أن يكون قرارهم بتخصيص 2023 «عام منطقة التجارة الحرة القارية» طوق نجاة لتلك السوق التي من المتوقع، بحسب تقرير للبنك الدولي، أن تُخرج في حال تطبيقها بالكامل 50 مليون أفريقي من الفقر المدقع، وترفع المداخيل بنسبة 9 في المائة بحلول 2035. في حين وصفت مفوضية الاتحاد الأفريقي في بيان قبيل القمة، اتفاق التجارة الحرة بأنه «سيغير قواعد اللعبة»، وسيخرج 30 مليون شخص من الفقر المدقع، و68 مليون شخص من الفقر المعتدل، وتزيد دخل أفريقيا بمقدار 450 مليار دولار بحلول عام 2035.
وهنا نشير إلى أن القادة توافقوا على «اتفاقية التجارة الحرة» التي تعد واحداً من 15 مشروعاً رئيسياً لأجندة 2023 للاتحاد الأفريقي، ووقعت 54 دولة أفريقية على الاتفاقية، بينما كانت إريتريا الدولة الوحيدة التي رفضتها.
وتنص «الاتفاقية» على إنشاء سوق قارية واحدة للسلع والخدمات، وحرية حركة رجال الأعمال والاستثمارات، وتطوير البنية التحتية المادية والرقمية. ويفترض أن تضم 1.3 مليار شخص، مع إجمالي ناتج محلي قدره 3.4 تريليون دولار، بحيث تصبح أكبر سوق في العالم، وتسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الأساسية لدول القارة، مثل الأدوية والأغذية والأسمدة، إضافة إلى توفير مزيد من الفرص للنساء والشباب للحد من الفقر وعدم المساواة.
ولفتت المفوضية إلى أن «منطقة التجارة الحرة القارية» الأفريقية ستعزز التجارة بين الدول الأفريقية بنسبة 60 في المائة بحلول عام 2034، بينما لا تتجاوز تلك النسبة حالياً 15 في المائة من السلع والخدمات، مقارنة بأكثر من 65 في المائة مع دول أوروبية، إضافة إلى إحداث طفرة في الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تحتاجها القارة لتنويع صناعاتها.
- أحلام كبيرة... وواقع صعب
هذه الطموحات الواعدة لن تجد في سبيل تحقيقها طريقاً معبدة، بل ربما تصطدم بواقع غير مواتٍ في عديد من الدول الأفريقية، وربما أيضاً في البيئة الدولية. وهي بيئة «مجحفة» بالنسبة لأفريقيا على حد وصف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي شارك في القمة، وقال إن أفريقيا تواجه «نظاماً مالياً عالمياً غير فعال ومجحف». وإن ذلك ربما يكون من تحديات القارة العديدة التي حُرم كثير من دولها من الإعفاء من الديون، والتمويل الميسر الذي تحتاجه، وفُرضت عليها أسعار فائدة، اعترف غوتيريش بأنها «ابتزازية».
وحقاً تضاعفت ديون البلدان الأفريقية 5 مرات خلال الفترة بين عام 2000 ونهاية 2022، لتصل إلى نحو تريليون دولار، وسط توقع تخلف واسع عن السداد في العام الحالي.
وتلتهم أقساط الديون - بحسب تقارير أممية - نحو 100 مليار دولار سنوياً من ميزانيات الدول الأفريقية، وتستقطع أكثر من 15 في المائة من الناتج الإجمالي.
ولقد تخلفت غانا عن سداد ديونها الدولية العام الماضي، بينما أعلنت نيجيريا عجزها عن تسديد متأخرات تصل إلى 50 مليار دولار من إجمالي ديونها البالغة 102 مليار دولار. وخفضت أيضاً مؤسسات دولية مرموقة التصنيفات الائتمانية لعدد من البلدان الأفريقية، الأمر الذي يزيد من معدلات الفوائد على قروضها.
وفي هذا السياق، يعترف خبراء اقتصاديون بالاتحاد الأفريقي، عقدوا جلسة تشاورية بدعوة من مفوضية الاتحاد والبنك الأفريقي للتنمية، على هامش القمة السادسة والثلاثين، بأن تغيير واقع القارة «يتطلب الحفاظ على معدلات نمو سنوية لا تقل عن 7 إلى 10 في المائة خلال السنوات الـ40 المقبلة إذا أُريد لخطة 2063 أن تتحقق»، وهو ما يبدو «حلماً» بالنظر إلى معدلات النمو الحالية التي لا تزيد على 3.5 في المائة في معظم الدول الأفريقية.
وهنا يوضح البروفسور كيفين أوراما، كبير الاقتصاديين بالإنابة ونائب رئيس البنك الأفريقي للتنمية، أن أداء النمو الحالي لأفريقيا «ليس كافياً للقضاء على الفقر وتحقيق أهداف التنمية المستدامة وخطة 2063»، لافتاً إلى أنه «لم تحقق أية دولة أفريقية معدلات نمو ثابتة لعقود طويلة من النمو».
هذا الواقع الأفريقي الصعب، لا يقتصر على البعد الاقتصادي، بل يزداد قسوة عند تأمل خريطة الصراعات المسلحة في القارة، حيث تتسع مساحة النزاعات بشكل لافت لأسباب دينية أو قبلية أو بحثاً عن الثروة والسلطة. وهذا فضلاً عن تفشي التنظيمات الإرهابية التي تستفيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية، والتفتت العرقي في عديد من بلدان القارة.
للعلم، الاتحاد الأفريقي كان قد تبنّى مبادرة «إسكات البنادق» عام 2013 بوصفه أحد محاور الخطة العشرية لأجندة 2063، الهادفة إلى جعل أفريقيا آمنة بحلول 2020 عبر إنهاء الحروب والنزاعات الأهلية جميعاً، ووأد كل ممارسات العنف القائم بسبب العرق أو الجنس أو اللون. إلا أن الفشل الواضح في تحقيق هذا الهدف دفع إلى تمديد المبادرة إلى عام 2023، ثم اتخذ القادة الأفارقة قراراً بتمديدها إلى 2030، وهو ما يعكس حقيقة أن توفير الأمن لا يزال معضلة حقيقية في القارة. إذ إنه بين 41 صراعاً مستمراً حتى الآن في مختلف بقاع الأرض، يدور 23 منها داخل القارة السمراء، بما يمثل 56 في المائة من صراعات العالم الممتدة، بحسب تقرير لـ«مجموعة الأزمات الدولية».
وخلال الفترة من 2012 إلى 2020 ازدادت أعمال العنف في القارة بمعدل أربعة أضعاف، من 508 عمليات عام 2012 إلى 2034 في 2020، وفق تقديرات «المركز الأفريقي لدراسات وبحوث الإرهاب»، التابع للاتحاد الأفريقي ومقره الجزائر.
- تعليق وطرد
من جهة أخرى، فإن قمة الاتحاد الأفريقي لم تحفل فقط بالمناقشات، بل شهدت أيضاً مجموعة من القرارات والمواقف اللافتة. وتكررت قرارات «تعليق العضوية» بحق عدد من الدول، سواء تلك المنتمية إلى القارة، أو حتى التي جاءت من خارجها بحثاً عن موطئ قدم لتعزيز النفوذ.
قرار «التعليق» الأول كان من نصيب 4 دول أفريقية هي: بوركينا فاسو ومالي وغينيا والسودان، التي أخفقت مساعيها في العودة إلى المنظمة القارية. فقد أظهر قادة الاتحاد الأفريقي تشدداً واضحاً وتأكيداً لـ«رفضهم المطلق التسامح» إزاء «التغييرات غير الدستورية»... وهو الوصف الأكثر لطفاً لمصطلح «الانقلابات» الذي بات تكراره خلال الآونة الأخيرة «مزعجاً» للقارة التي كان إرساء الديمقراطية من أهدافها الأولى منذ موجة الاستقلال في منتصف القرن الماضي.
أما قرار «التعليق» الثاني، فقد كان من نصيب إسرائيل، مقترناً بـ«طرد» شارون بار لي، نائبة الشؤون الأفريقية في وزارة الخارجية الإسرائيلية والوفد المرافق لها خارج قاعة «نيلسون مانديلا» التي انتظمت فيها أعمال الجلسة الافتتاحية للقمة.
ولم تكن واقعة الطرد، التي أثارت تنديداً إسرائيلياً وهجوماً على عدة دول مثل إيران والجزائر وجنوب أفريقيا، مجرد واقعة منزوعة السياق، بل جاءت وسط جلسة شهدت إلقاء خطابين عربيين للأمين العام لجامعة الدول العربية، ولرئيس الوزراء الفلسطيني، وبيان ختامي حفل بعبارات الدعم والمساندة للقضية الفلسطينية.
ولقد أعادت هذه الواقعة الكلام عن محاولات إسرائيل بسط نفوذها في القارة، حيث إن لديها حالياً علاقات دبلوماسية مع 46 دولة أفريقية. وكانت بعد تأسيس الاتحاد الأفريقي عام 2002، قد تقدمت بطلبين للحصول على صفة «عضو مراقب» في الاتحاد مرتين، عامي 2003 و2016، إلا أن الطلبين قوبلا بالرفض. وتجدد الأمر عام 2020 للمرة الثالثة، وهو المطلب الذي استجاب له موسى فقي، رئيس المفوضية الأفريقية، من دون التشاور مع الدول الأعضاء، الأمر الذي تسبب في أزمة عام 2021، وتقرر «تعليق» عضوية إسرائيل، وتشكيل لجنة من 7 رؤساء دول لدراسة الموقف.
اليوم، تبدو المساعي الإسرائيلية جزءاً من تحركات إقليمية ودولية لتعزيز الحضور في أفريقيا. ذلك أن هناك تنافساً يزداد عمقاً واتساعاً بين الولايات المتحدة - التي استضافت قمة حضرها 49 زعيماً أفريقياً نهاية العام الماضي - وروسيا، التي يُنتظر أن تستضيف قمة مشابهة منتصف العام الحالي، ناهيك عن اتساع رقعة المشروعات الصينية في أنحاء القارة، بعدما صارت بكين شريكاً اقتصادياً سخياً وموثوقاً، وحليفاً مهماً لمعظم دول القارة.
وفي حين يكثّف وزراء ومسؤولون بارزون من دول كبرى وقوى وتكتلات إقليمية ودولية تحركاتهم في أرجاء القارة، تتزايد وتيرة الاستقطاب الحاد. وهي تظهر عبر أدوات تتراوح بين توريد الأسلحة التي تعد الآن سلعة مطلوبة بشدة في قارة تشهد العدد الأكبر من النزاعات عالمياً، ووعود التنمية وتوفير الاحتياجات الغذائية في قارة يتنازع الجوع والفقر غالبية سكانها.