بينيني والعائلة في «الحياة حلوة» ( ميلابو سينماتوغرافيكا)
TT
TT
سنوات السينما
بينيني والعائلة في «الحياة حلوة» ( ميلابو سينماتوغرافيكا)
- Life is Beautiful - أفضل من فيلم تشابلن عن الموضوع ذاته - جيد ★★★ المقارنة بين فيلم روبرتو بينيني «الحياة حلوة» (1997) وفيلم تشارلي تشابلن The Great Dictator يرد طبيعياً. كلاهما يدور عن الحقبة النازية. كلاهما يشخّصان حالة العداء لليهود. في كليهما يؤدي المخرج البطولة لاعباً دور يهودي... وكلاهما كوميدي. «الديكتاتور العظيم» (1940) يتناول حكايتين يقوم ببطولتهما تشابلن: الأولى حول حلاق يهودي يعاني تعصب البلد (الخيالي)، الذي تقع فيه الأحداث، والثانية هي شخصية الديكتاتور المبنية على شخصية هتلر. يفتقد فيلم تشابلن لحسن الانتقال والربط بين حكاية وأخرى وينتهي عملاً عاطفي التناول ووعظي النهاية. إنه فيلم جيد النوايا ومحدود الفاعلية في أي شأن آخر. فيلم المخرج والممثل بينيني يعكس دراية إخراج أفضل بكثير تتضمن تحويل النوايا إلى مشاهد ملموسة. العاطفة هنا ليست بالون اختبار أو فعلاً مبسطاً، بل نتاج نظرة إنسانية شاملة ورغبة في توسيع الرقعة البديهية حول التعصب والتسامح لتشمل مساحات وأزمنة غير محددة. يؤدي بينيني دور رجل اسمه غويدو ه، وقد وصل إلى بلدة بسيارة بلا مكبح ويقع في الحب بلا مكبح أيضاً وهذا عندما يلتقي بدورا (نيكوليتا براشي) التي يحبها كذلك فاشي محلي يسعى للاستحواذ عليها، مما يؤدي إلى تنافس بين الاثنين على قلبها. لا يسرع بينيني في الكشف عن أن غويدو يهودي وعندما تعلم دورا فإن موقفها نبيل. مع مخاطر الفاشية والتعصب المحيطة ينجح غويدو ودورا بالهرب معاً. بعد سنوات، يجد غويدو نفسه وزوجته وابنهما الصغير في القطار المتوجه صوب أحد معسكرات الاعتقال النازية. همّ غويدو من هذه اللحظة إنقاذ ولده من المأساة المنتظرة. طريقته هي بناء عالم خيالي كما لو أن ما يحدث لا يحدث مطلقاً. حاز الفيلم على ثلاثة أوسكارات: أفضل فيلم أجنبي وأفضل ممثل في دور أول (بينيني) وأفضل موسيقى مكتوبة خصيصاً (نيكولا بيوفاني). لكنه ووجه بمعارضة نقاد وإعلاميين على أساس أنه فيلم عاطفي لا يهاجم أو ينتقد، بل يقدّم الحكاية كملهاة. بعض هؤلاء اتهمه بأنه لا يعترف بالهولوكوست. الحقيقة هي أن الفيلم يعترف بالهولوكست لكن ما يرفض الفيلم أن يكون عليه، هو أن يلعب لعبة سياسية أو يحوّل العاطفة الواردة طبيعياً في النص إلى مناسبة بكائية. هذا كان أيضاً موقف بينيني من الحرب العراقية عندما أخرج The Tiger and the Snow سنة 2005 مستعيداً رغبته في طرح الموضوع الإنساني قبل السياسي. موقف رائع في إيمان المخرج به وبالكيفية التي تجعل الكوميديا تسمو فيه فوق التراجيديا.
ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.
بشير الديك، كاتب القصّة والسيناريو لعدد كبير من الأفلام المصرية طوال العقود الأربعين الماضية، الذي توفي في اليوم الأخير من العام الراحل، 2024، كان أحد السينمائيين الخارجين عن قوانين السينما التقليدية في النصف الأول من سنوات مهنته. لكن على الرغم من أنه في النصف الثاني وقّع على أعمال كثيرة من التي يمكن وصفها بالتقليدية، ومن بينها 6 أفلام من بطولة نادية الجندي، فإنه واظب على معالجة نصوصه باحتراف يجمع بين حكايات تحمل مضامين تنتمي إلى نزعة جادة وتنشد ميزانيات كبيرة.
لعل حقيقة أن نادية الجندي كانت تصبو دوماً إلى أدوار تخلّدها وأفلام تحافظ عبرها على مكانتها لعب بشير الديك دوراً في تلبية هذه الرغبات عبر حكايات تشويقية في المقام الأول، وشخصية رئيسية مضخّمة وذلك في أفضل نصوص ممكنة ضمن التوليفة التجارية.
بدأ هذا التعاون على نحوٍ ثلاثي: بشير الديك يكتب، ونادر جلال يُخرِج ونادية الجندي تلعب دور البطولة. هذه الأفلام هي «الإرهاب» (1989)، و«شبكة الموت» (1990)، و«عصر القوّة» (1991)، ومن ثَمّ «مهمّة في تل أبيب» (1992)، و«الشطّار» (1993)، ولاحقاً «امرأة هزّت عرش مصر» (1995).
اتجاهان
بعد بدايات متفاوتة الأهمية من بينها «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمي (1979)، و«دعوني أنتقم» لتيسير عبّود (1979)، و«الأبالسة» لعلي عبد الخالق (1980) التحق الديك ببدايات المخرج الراحل محمد خان عبر 6 أفلام هي «الرغبة» (1980)، و«موعد على العشاء» (1981)، و«طائر على الطريق» (1981)، و«نص أرنب» (1983)، و«يوسف وزينب» (1984) و«الحرّيف» (1984) وكلها من أفضل ما حققه خان.
تعامُل الديك مع الموضوعات الجادة التي عرفتها تلك الأفلام سمح له بكتابة واحد من أفضل أعماله وهو «سواق الأتوبيس»، الذي حققه الراحل عاطف الطيب سنة 1982، وكلاهما لاحقاً تعاونا على تحقيق فيلم مهم (أكثر مما كان جيداً) آخر هو «ناجي العلي» (1992). لجانبهما فيلم ثالث هو «ضد الحكومة» (1992) من بطولة أحمد زكي ولبلبة.
في تقييم كتابات بشير الديك تتداخل بعض العناصر التي يمكن إيجاز هذا التقييم عبرها.
من ناحية، حاول دوماً التطرّق صوب قضايا مهمّة تطرح قصصاً ذات جانبٍ وطني مثل «مهمّة في تل أبيب»، الذي دار حول جاسوسة مصرية تعمل لصالح إسرائيل، ومن ثَمّ تندم فتطلب منها الاستخبارات المصرية (ممثلة بكمال الشناوي)، العمل لحساب مصر وتنجح. «ناجي العلي» ينضم إلى هذا النحو من الأعمال.
في ناحية أخرى، لم يتأخر عن كتابة ما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات من اتجاه صوب الحديث عن مراكز قوى في الشارع المصري والصراع بين الأخيار والأشرار. هذه الموجة لم تعرف بداية ونهاية محدودتين فتاريخها عريق يعود لعقود سابقة، لكنها عرفت في تلك الفترة تدافعاً بين المخرجين للحديث عن تلك المراكز في حارات القاهرة (في مقابل الكثير من صراع الخير والشر على ساحلَي بور سعيد والإسكندرية في أفلام الخمسينات والستينات) في أجواء ليست بعيدة عن الخط الذي وضعه نجيب محفوظ وشخصياته.
مخرجون عديدون حقّقوا هذه الأفلام التي شُكّلت حكاياتها من صراع القوى في الشارع المصري مثل أشرف فهمي («الأقوياء»، 1982)، وأحمد السبعاوي («السلخانة» 1982 و«برج المدابغ» 1983) وكمال صلاح الدين («جدعان باب الشعرية» 1983). لكن من مزايا ما كتبه بشير الديك في هذه الأعمال التي لاقت رواجاً جماهيرياً إنه كتب ما هو أعمق في دلالاته من قصص المعلّم الشرير ضد سكان منطقته وأزلامه الذين يتصدّون للأبرياء إلى أن يخرج من رحم تلك الحارة من يواجههم جميعاً.
بداية من «نصف أرنب» توّجه الديك إلى حكاية تشويقية ذات طابع بوليسي، وفي «سوّاق الأتوبيس» وقف مع ابن المدينة في موضوع حول تفتت المجتمع مادياً. أما في «الحرّيف» فنقل اهتمامه إلى الوسط المهمّش من سكان القاهرة وأحلامهم ومتاعبهم الشخصية.
هموم المجتمع
ما يجمع بين هذه الأعمال هموم تسلّلت إلى عدد كبير من كتابات بشير الديك السينمائية.
في مقابلة تمّت بين المخرج عاطف الطيب وبيني بعد مشاهدة فيلمه النيّر «سواق الأوتوبيس»، سألت المخرج عن كيف بدأ التفكير في تحقيق «سوّاق الأتوبيس». أجاب: «بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، وكانت الظروف الحياتية نفسها تجمعنا كلنا تقريباً. فقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي الأول (يقصد «الغيرة القاتلة»، 1982)، الذي اضطُرِرت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي (أجنبي) رغم إيماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. اقترح محمد خان وبشير الديك فكرة وُضع لها عنوان: (حطمت قيودي)، تدور حول عائلة مهدّدة بالضياع نتيجة فقدان الأب للورشة التي أسسها وبحْثُ الابن، سائق الأتوبيس، عن مخرج من الأزمة بلا جدوى وأعجبتني الفكرة، خصوصاً أنني أميل كثيراً إلى الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة التي نريد التعبير عنها. في الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه».
كتب بشير الديك نحو 60 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً، معظمها جمع هذه الصفات المجتمعية على نحو سائد أو مخفف. هذا ما جعله أحد أبرز كتاب السيناريو في مصر في حقبة كان للسينما البديلة والمستقلة عن السائد دور فاعل في نهضة الفيلم المصري عموماً.
مع الطيّب وخان ورضوان الكاشف ورؤوف توفيق وخيري بشارة ورأفت الميهي وسواهم، ساهم بشير الديك في منح تلك الفترة مكانتها الساطعة التي لا تغيب.