أرشيفات الصحف المصرية... «كنز» معرفي وذاكرة وثائق تاريخية

خبراء يعدّونها مرجعاً مهماً للإعلاميين والباحثين

دار الكتب والوثائق القومية المصرية
دار الكتب والوثائق القومية المصرية
TT

أرشيفات الصحف المصرية... «كنز» معرفي وذاكرة وثائق تاريخية

دار الكتب والوثائق القومية المصرية
دار الكتب والوثائق القومية المصرية

على مدار سنوات طويلة اعتبر أرشيف الصحف والمجلات مصدراً مهماً للمعلومات، يحمل توثيقاً لحقب تاريخية على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومن خلال دراسة عدد صحيفة أو مجلة في فترة من الزمن يستطيع الباحث التعرف على القضايا التي كانت تشغل بال المواطنين والسياسيين والمثقفين في تلك الفترة، وكيف كانوا يتفاعلون مع الأحداث المختلفة من حولهم، وكأنه انتقل عبر «آلة الزمن» إلى عصور تاريخية سابقة.


 (موقع أرشيف الإنترنت)

وحقاً، كلما طال عمر صحيفة أو مجلة، زادت قيمة أرشيفها وقوته بتناوله حقباً تاريخية متنوعة. وبالتالي، يتحوّل إلى مصدر لا غنى عنه لقصص ومواضيع صحافية تعمل على ربط الماضي بالحاضر، أو تحاول استعادة لحظات تاريخية، أو تروي وتوثّق سيراً ذاتية لشخصيات عامة أو رموز سياسية وفنية وثقافية.
في مصر، بالذات، تُعَد أرشيفات المطبوعات القديمة العريقة مرجعاً حيوياً وضرورياً للإعلاميين والباحثين، وهي تشكل مصادر معلومات أساسية لمواضيعهم الصحافية ومراجع رئيسية في أبحاثهم العلمية. وهذا، مع أن ثمة اختلافات يشهدها القطاع الإعلامي اليوم مع ظهور الإنترنت، إذ أتاحت الشبكة العنكبوتية الوصول إلى المعلومات الأرشيفية والتاريخية بسرعة ويسر. ولكن في الوقت عينه، كان ثمن السرعة واليسر في استثمار الإنترنت باهظاً في عدة حالات على صعيد الصدقية. إذ يحمل البحر المتلاطم من المواقع الإلكترونية، عبر الإنترنت، كثيراً من المعلومات الزائفة والمضللة، ما يفرض على الإعلاميين والباحثين - على حد سواء - مزيداً من التدقيق والتقصّي قبل اعتمادها في أعمالهم.

«لا ديكاد إيجيبسيان»

دخول المطبعة
تاريخياً، عرفت مصر الصحافة مع دخول المطبعة لأول مرة إبان فترة الحملة الفرنسية على البلاد (1798 – 1801). ولقد بدأت المطبعة بإعداد المنشورات باللغة العربية. ثم بدأ إصدار صحف باللغة الفرنسية، فشهدت القاهرة الصورة الكاملة للصحف عبر صحف مثل «الكورييه دو ليجيبت»، و«لا ديكاد إيجيبسيان». إلا أن عمر هاتين الصحيفتين انتهى بخروج الحملة الفرنسية من مصر، حسب ما ورد في مجلة «ذاكرة مصر المعاصرة» الصادرة عن مكتبة الإسكندرية.
من ناحية ثانية، يؤرخ للصحافة المصرية بفترة حكم محمد علي. ووفق «ذاكرة مصر المعاصرة»، تعد «جريدة الخديوي»، التي تحوّلت عام 1828 إلى صحيفة «الوقائع المصرية» أقدم وأول صحيفة رسمية مصرية. وفي حين يحمل أرشيف «الوقائع المصرية» توثيقاً لجميع القرارات والقوانين الرسمية الصادرة في البلاد منذ عهد محمد علي، فإن ثمة صحفاً ومجلات عريقة تتضمن أرشيفاتها توثيقاً اجتماعياً وسياسياً غنياً جداً للأوضاع في مصر منذ القرن التاسع عشر، وعلى رأسها أرشيف صحيفة «الأهرام» المصرية التي أسست عام 1875، ومجلة «روزاليوسف» التي أسست عام 1925، وغيرها.
محمد بغدادي، الكاتب الصحافي في مجلة «روزاليوسف» المصرية، اعتبر في حوار مع «الشرق الأوسط» أن أرشيفات الصحف والمجلات «من أهم مصادر المعلومات للصحافي، كما أنها مصدر قوة للصحيفة والمؤسسة الإعلامية بشكل عام». وأردف أنه «كلما كان أرشيف الصحيفة أو المجلة قوياً، زادت قدرتها على التواصل مع قضايا الناس عبر إتاحة معلومات تربط الماضي بالحاضر، وأعطت الصحافي فرصة أكبر لتوثيق قصصه الصحافية، وتضمينها بيانات ومعلومات تاريخية موثقة».
وتحدث بغدادي عن «تطور الأرشيف الصحافي مع مرور الوقت، من الميكروفيلم، إلى الرقمنة على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، ما أتاح للصحافي والباحث الحصول على المعلومات بشكل أيسر، وأسرع». وقال إن «هذه السهولة في الحصول على المعلومات، تزامنت مع فرض أعباء أخرى على الصحافي والباحث، بعضها مادي إذ تفرض بعض المؤسسات رسوماً للحصول على أرشيفها، أما البعض الآخر فمرتبط بضرورة تمكن الصحافي أو الباحث من أدوات التحقق من المعلومات، ولا سيما مع وجود كم هائل من المعلومات غير الموثقة على شبكة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي». ومن ثم شدد على «ضرورة أن توفر المؤسسات الإعلامية للعاملين فيها اشتراكات في أرشيفات المؤسسات المرموقة وذات المصداقية، لضمان قصص صحافية دقيقة».


«كورييه دو ليجيبت»

قصص ومواضيع شتى
في الواقع، لا يقتصر دور الأرشيف على تزويد الصحافي بمعلومة تاريخية، أو صورة لتضمينها في قصته الصحافية، بل غالباً ما تصدر قصصٌ ومواضيع كاملة مستوحاة من الأرشيفات، وتخصّص بعض الصحف والمواقع الإلكترونية أبواباً ثابتة تتضمن مواضيع معتمدة بالكامل على الأرشيف الصحافي. وكمثال على ذلك تناول ذكرى حادثة وقعت في تاريخ معين، أو استرجاع سيرة فنان أو شخصية عامة من حواراته الصحافية. وإلى جانب هذا اعتماد الباحثين على هذه الأرشيفات في أبحاث تحاول شرح الأوضاع الاجتماعية في فترة زمنية معينة، أو رصد تطور الإعلانات في فترة زمنية أخرى، وغيرها من المواد التي يعتبر الأرشيف الصحافي رافداً أساسياً لها. ولذا وصفه البعض بـ«الكنز»؛ تقديراً للكم الهائل من المعلومات والأفكار التي يمكن أن يختزنها وتقدم لدى نشرها خدمة معرفية مميزة.
في هذا الإطار، تعتمد الكاتبة والناقدة أنس الوجود رضوان، مدير تحرير القسم الثقافي في صحيفة «الوفد» المصرية، على الأرشيف في كتابة كتاب عن زوجها الراحل الصحافي والروائي موسى صبري. خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» قالت شارحة إن «الأرشيف الورقي للصحف والمجلات شيء في غاية الأهمية، يتضمن توثيقاً لمراحل تاريخية مهمة... ومن خلاله يمكن سبر أغوار شخصيات، ودراسة حال المجتمع على جميع المستويات». واستطردت: «الصحيفة وثيقة تاريخية مهمة» قبل أن تشكو من «ضياع الأرشيف مع بداية عصر الرقمنة»؛ إذ تقول: «خلال عملية الرقمنة فُقد كثير من نسخ الصحف والمجلات... ولولا احتفاظ زوجي الراحل بأرشيف خاص لما تمكنت من إعداد كتابه بالشكل المطلوب» بسبب ضياع مواد كثيرة من الأرشيف.
وبالفعل «ضياع الأرشيف» من النقاط التي تطرقت إليها الدكتورة ليلى عبد المجيد، أستاذة الإعلام في جامعة القاهرة، خلال حوارها مع «الشرق الأوسط»، مشيرة إلى قضايا أثيرت أخيراً تتعلق بـ«بيع وضياع جزء من أرشيفات الصحف والمجلات المصرية». وأكدت عبد المجيد على «أهمية الأرشيف كوثيقة تاريخية، ورافد بحثي... وإبان إعدادي رسالتي الماجستير والدكتوراه كان الأرشيف الصحافي أحد المراجع المهمة التي اعتمدت عليها». ومعلوم أن قضية بيع الأرشيف الصحافي المصري أثارت جدلاً في الفترة الأخيرة، في أعقاب أنباء تحدثت وصول أرشيف صحيفة «الأهرام» إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية، في إطار التعاقد مع شركة أميركية لإتاحة أرشيف «الأهرام» بصورة رقمية.
من جهة ثانية، بينما ترى وفاء عبد الحميد، رئيسة إذاعة البرنامج الثقافي السابقة في الإذاعة المصرية، أن «الإتاحة الرقمية ربما سهلت من حفظ وإتاحة المعلومات الأرشيفية»، فهي شددت في حوار مع «الشرق الأوسط» على ما اعتبرته «مكامن الخطورة» في هذه الإتاحة الرقمية، وفي مقدمتها «انتشار المعلومات الزائفة». وقالت: «الإنترنت مليء بالمعلومات الخاطئة والمضللة... وبالتالي، يظل الأرشيف الرسمي للصحف والمواقع الإلكترونية الموثوقة، والإذاعة والتلفزيون الوثيقة الأهم».
ثم تطرقت عبد الحميد إلى «قلة اهتمام الصحافيين اليوم بالأرشيف مقارنة بما كانت عليها الحال قبل سنوات». واستطردت «يكتفي الصحافي اليوم بالبحث على الإنترنت من دون أن يكلف نفسه عناء الذهاب إلى أرشيف مؤسسة إعلامية... في حين إنني كنت أمضي أياماً في الأرشيف لإعداد قصصي الصحافية، سواءً كان ذلك داخل الإذاعة أو في دار الكتب والوثائق القومية التي تحتفظ بنسخ من جميع الصحف والمجلات المصرية».
وما يستحق التنويه هنا، أن دار الكتب والوثائق القومية المصرية تحتفظ بنسخ من أرشيفات الصحف المصرية، ما يجعلها مصدراً مهماً للباحثين ودارسي الإعلام والصحافيين، وكثيراً ما يكلّف دارسو الإعلام بإعداد قصص أو مشاريع بحثية عن تاريخ الصحافة في مرحلة معينة، خلال فترة دراستهم. كذلك تضم مكتبة الإسكندرية بدورها نسخاً مرقمنة من أرشيفات الصحف والمجلات المصرية.
وعلى الصعيد الدولي، تضع الصحف والمجلات الكبرى قواعد لتداول أرشيفاتها، فعلى سبيل المثال، تتيح صحيفة «النيويورك تايمز» الأميركية، الاطلاع على أرشيفها بطريقتين، توضحهما على موقعها الإلكتروني: الأولى من خلال أرشيف مقالات «النيويورك تايمز»، وهو متاح للجميع ويغطي الفترة من 1851 وحتى الآن.
أما الطريقة الثانية فعبر ما يسمى بـ«آلة الزمن» التي تتيح الاطلاع على الأعداد كاملة من عام 1851 وحتى 2002 مقابل اشتراك شهري.


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

جهود خليجية لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لمواجهة «الأخبار المزيّفة»

الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
TT

جهود خليجية لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لمواجهة «الأخبار المزيّفة»

الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)

بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير الذكاء الاصطناعي ضمان الموضوعية مع التدفّق المعلوماتي المتسارع والمتزايد عبر شبكة الإنترنت، واستخدام وسائل عديدة لضخ مختلف المعطيات والمعلومات، بات من الصعب على المتلقي التمييز بين الحقيقة والدعاية من جهة وبين الإعلام الموضوعي والتأطير المتحيّز من جهة ثانية.

وهكذا، تتأكد أكثر فأكثر أهمية وجود تقنيات التحليل والكشف وتصفية (أو «فلترة») هذا الكم الهائل من المعطيات، توصلاً إلى وقف سيل المعلومات المضللة وإبعاد الإشاعات و«الأخبار المزيّفة»، وجعل شبكة الإنترنت مكاناً آمناً لنقل المعلومات والأخبار الصحيحة وتداولها. والواقع أنه مع التحول الرقمي المتسارع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، غدت «الأخبار المزيّفة» واحدة من أبرز التحديات التي تهدد المجتمعات حول العالم؛ إذ يجري تداول ملايين الأخبار والمعلومات يومياً، ما يجعل من الصعب على الأفراد - بل وحتى المؤسسات الإعلامية - التمييز بين ما هو صحيح وما هو مزيّف أو مضلِّل، وفي هذا السياق برزت تقنيات الذكاء الاصطناعي كأداة مبتكرة وفعّالة للكشف عن «الأخبار المزيفة» وتحليلها.

تُعرَّف «الأخبار المزيّفة» بأنها محتوى إعلامي يُنشأ ويُنشر بهدف التضليل أو التلاعب بالرأي العام، وغالباً ما يصار إلى استخدامه لتحقيق غايات سياسية واقتصادية أو اجتماعية. وتتنوّع تقنيات إنشاء «الأخبار المزيّفة» بين التلاعب البسيط بالمعلومات... واستخدام تقنيات متقدمة مثل التزييف العميق، الأمر الذي يزيد من تعقيد اكتشافها.

جهود مبتكرة

من هذا المنطلق والمبدأ، في العاصمة الإماراتية أبوظبي، يقود الدكتور بريسلاف ناكوف، أستاذ ورئيس قسم معالجة اللغة الطبيعية في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، جهوداً مبتكرة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً تحليل الطرق المستخدمة في الإعلام للتأثير على الرأي العام. ويبرز ضمن أبرز إسهامات ناكوف تطوير تطبيق «فرابيه - FRAPPE»، وهو أداة تفاعلية مصممة لتحليل الأخبار عالمياً، حيث يقدم التطبيق رؤية شاملة حول أساليب الإقناع والخطاب المستخدمة في المقالات الإخبارية، ما يمكّن المستخدمين من فهم أعمق للسياقات الإعلامية المختلفة. ويشير ناكوف إلى أن «فرابيه» يساعد المستخدمين على تحديد كيفية صياغة الأخبار وتأطيرها في بلدان مختلفة، ما يتيح رؤية واضحة لتباينات السرد الإعلامي.

تحليل أساليب الإقناع

مع أن دراسة أساليب الإقناع لها جذور قديمة تعود إلى الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو، الذي أسس لمفاهيم الأخلاق والعاطفة والمنطق كأساس للإقناع، فإن فريق ناكوف أضاف تطويرات جديدة لهذا المجال.

وعبر تحليل 23 تقنية مختلفة للإقناع، مثل الإحالة إلى السلطة، واللعب على العواطف، وتبسيط الأمور بشكل مفرط، يُسهم «فرابيه» في كشف أساليب الدعاية وتأثيرها على القراء. وتُظهر هذه الأساليب كيف يمكن للإعلام أن يختار كلمات أو صوراً معينة لتوجيه فهم الجمهور. وكمثال، يمكن تأطير قضية تغيّر المناخ كمشكلة اقتصادية أو أمنية أو سياسية، حسب الإطار الذي تختاره الوسيلة الإعلامية.

التشديد على أهمية تقنيات التحليل والكشف و"فلترة" المعلومات لجعل شبكة الانترنت مكاناً آمناً. (رويترز)

تقنية التأطير الإعلامي

أيضاً من الخواص التي يستخدمها تطبيق «فرابيه» تحليل أساليب التأطير الإعلامي، وهنا يوضح ناكوف أن التطبيق يمكّن المستخدمين من مقارنة كيفية تناول وسائل الإعلام للقضايا المختلفة؛ إذ يستطيع التطبيق أن يُظهر كيف تركّز وسيلة إعلامية في بلد معيّن على الجوانب الاقتصادية لتغير المناخ، بينما قد تركز وسيلة إعلامية في بلد آخر على الجوانب السياسية أو الاجتماعية.

وفي هذا السياق، يعتمد التطبيق على بيانات متقدّمة مثل قاعدة بيانات «SemEval-2023 Task 3»، التي تحتوي على مقالات بأكثر من 6 لغات، ما يجعل «فرابيه» قادراً على تحليل محتوى إعلامي عالمي متنوع. ويستخدم التطبيق الذكاء الاصطناعي لتحديد الإطارات السائدة في الأخبار، كالهوية الثقافية أو العدالة أو المساواة ما يساهم في تقديم صورة أوضح للسياق الإعلامي.

الذكاء الاصطناعي أداة أساسية

الذكاء الاصطناعي أداة أساسية في تطبيق «فرابيه»؛ إذ إنه يتيح للتطبيق تحليل الأنماط اللغوية التي تؤثر على آراء القراء. وهنا يقول ناكوف، خلال حواره مع «الشرق الأوسط» عن قدرات التطبيق: «يُعد الذكاء الاصطناعي في (فرابيه) عنصراً أساسياً في تحليل وتصنيف واكتشاف الأنماط اللغوية المعقّدة التي تؤثر على آراء القراء وعواطفهم». ويضيف أن هذا التطبيق «يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، مثل الشتائم ولغة الترهيب، والتنمّر والمبالغة والتكرار. ولقد جرى تدريب النظام على التعرّف على 23 تقنية مختلفة غالباً ما تكون دقيقة ومعقّدة في محتوى الوسائط في العالم الحقيقي».

ويتابع ناكوف شرحه: «... ويستخدم التطبيق أيضاً الذكاء الاصطناعي لإجراء تحليل التأطير، أي لتوصيف وجهات النظر الرئيسة التي تُناقش قضية ما من خلالها مثل الأخلاق والعدالة والمساواة والهوية السياسية والثقافية وما إلى ذلك. ويسمح هذا للتطبيق بتمييز الإطارات الأساسية التي تؤثّر على كيفية سرد القصص وإدراكها، وتسليط الضوء على الإطارات المهيمنة في المقالة ومقارنتها عبر مصادر الوسائط والبلدان واللغات».

التحيزات الإعلامية

من جهة ثانية، بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ضمان الموضوعية والتقليل من التحيّز. وفي هذا الجانب، يوضح ناكوف أن «فرابيه» يركّز على تحليل اللغة المستخدمة في المقالات وليس على تقييم صحتها أو موقفها السياسي، وكذلك يعتمد التطبيق على تصنيفات موضوعية وضعها صحافيون محترفون لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، ما يقلل من مخاطر التحيّز.

وبالفعل، تمكن «فرابيه»، حتى الآن، من تحليل أكثر من مليوني مقالة تتعلق بمواضيع مثل الحرب الروسية الأوكرانية وتغير المناخ. ويدعم التطبيق راهناً تحليل المحتوى بـ100 لغة، ويخطط الفريق لتوسيع نطاقه ليشمل لغات إضافية وتحسين دقة التحليل، ما سيعزّز قدرة التطبيق على فهم الأنماط الإعلامية عالمياً.

وفي حين يأمل الباحثون أن يصبح هذا التطبيق أداة أساسية للصحافيين والأكاديميين لفهم أساليب الإقناع والدعاية، يشير ناكوف إلى أهمية تطوير مثل هذه التقنيات لمساعدة الناس على التمييز بين الحقائق والدعاية، خاصة في عصر تزايد استخدام المحتوى «المؤتمت» والمعلومات المضللة. وبالتوازي، يسهم «فرابيه» بدور حيوي في تمكين الجمهور من تحليل الأخبار بطريقة أكثر وعياً وموضوعية، ووفق ناكوف: «في عصرنا الحالي، يمكن أن تُستخدم أساليب الإقناع لتضليل الناس؛ ولهذا السبب نحتاج إلى أدوات تساعد في فهم اللغة التي تشكّل أفكارنا». وبالتالي، من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يصبح «فرابيه» نموذجاً لتطبيقات مستقبلية تسعى لتعزيز الشفافية في الإعلام وتقليل تأثير التضليل الإعلامي.

مكافحة «الأخبار المزيّفة»

في سياق متصل، تمثل خوارزميات الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية في مكافحة «الأخبار المزيّفة»؛ حيث تعتمد على تقنيات متقدمة لتحليل النصوص والصور ومقاطع الفيديو.

ومن بين أبرز التقنيات المستخدمة في هذا المجال يمكن أيضاً تحليل النصوص؛ إذ تعتمد خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية على تحليل لغة المقالات والتحقق من الأسلوب، واكتشاف المؤشرات اللغوية التي قد تشير إلى التضليل.

كذلك تعمل أدوات الذكاء الاصطناعي على التحقّق من المصادر، وبالأخص من موثوقية المصادر الإعلامية من خلال تحليل تاريخ النشر والتكرار والمصداقية، والتعرف على التزييف البصري عن طريق استخدام تقنيات التعلم العميق للكشف عن الصور أو الفيديوهات المزيفة باستخدام خوارزميات يمكنها تحديد التلاعبات البصرية الدقيقة.

التحديات المستقبلية

ولكن، على الرغم من النجاح الكبير للذكاء الاصطناعي في هذا المجال، لا بد من القول إن التحديات لا تزال قائمة. من هذه التحديات تزايد تعقيد تقنيات التزييف، بما في ذلك عبر تطوّر تقنيات مثل «التزييف العميق» الذي يزيد مهمة كشف «الأخبار المزيّفة» صعوبة. وأيضاً ثمة مشكلة «تحيّز البيانات (أو المعطيات)» حيث يمكن أن تتأثر خوارزميات الذكاء الاصطناعي ببيانات التدريب، ما قد يؤدي إلى نتائج قليلة الدقة أو متحيزة. وبالطبع، لا ننسى أيضاً إشكالية التنظيم القانوني مع طرح استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا السياق تساؤلات حول الخصوصية والموثوقية والمسؤولية القانونية.