الغلاف بوصفه «الهوية البصرية» للكتاب

ناشرون ورسامون مصريون يشيرون إلى تحديات كثيرة تهدد صناعته

الرسام أحمد الصباغ
الرسام أحمد الصباغ
TT

الغلاف بوصفه «الهوية البصرية» للكتاب

الرسام أحمد الصباغ
الرسام أحمد الصباغ

يرى رسامون وناشرون أنه رغم الأهمية الاستثنائية التي يحظى بها غلاف الكتاب باعتباره «العتبة» التي يخطو عبرها القارئ إلى مضمون العمل و«الهوية البصرية» التي ترسم ملامحه، وتشكل عنصر الجذب الذي يساعد على اتخاذ قرار الشراء من عدمه، فإن ثمة تحديات جدية تهدد صناعة أغلفة الكتب. هنا يبرز التعجل والتكرار والتشابه كمصادر تهديد مباشرة، ما يطرح تساؤلات مشروعة عن آليات وكواليس تلك الصناعة، وتصورات دور النشر ومصممي الأغلفة أنفسهم حولها.
في هذا التحقيق نتعرف على جوانب من هذه التحديات.

الناشرة نورا رشاد

* محمود عبد النبي (دار إبييدي): اختيار المصمم حسب محتوى الكتاب
الغلاف أصبح جزءاً أصيلاً من ركائز مبيعات الكتاب، ويسهم بنسبة قد تتخطى حاجز 40% من قرار الشراء بالنسبة للقارئ. إنه يمثل حالياً عنصر جذب لدى قطاع كبير من شباب القراء، وكذلك كلمة الغلاف الخلفية. وتزداد تلك الأهمية عندما لا يكون اسم المؤلف معروفاً لدى القارئ. ولتصميم الغلاف مدارس عدة، منها المدرسة التقليدية أو الكلاسيكية، وهي التي تحدد بطلاً أو رمزاً للعمل كله، وتركز عليه كل التركيز لإبرازه في صدر الغلاف. وهناك المدرسة الأكاديمية التي تهتم باسم الكتاب، وتجعل منه البطل. ونحن نختار مصمم الغلاف حسب طبيعة العمل، ولا نجعل مصمماً واحداً يشتغل في تصنيفات مختلفة. وعلى سبيل المثال، مصمم أغلفة الأعمال الروائية لا يقوم بتصميم الكتب الطبية أو القانونية؛ حيث إنه لا يبرع في المحتوى غير الروائي، والعكس صحيح.
هناك بعض المصممين الذين يحتفظون بعدد من اللوحات والتصميمات سابقة التجهيز، ليضعوها على كتب مستقبلية بصرف النظر عن محتوى تلك الكتب. هؤلاء يسلمونك الغلاف في اليوم نفسه الذي يتسلمون فيه مسودة العمل؛ لأنهم أضافوا فقط اسم المؤلف واسم العمل، والحق أنهم غالباً ما يكونون بارعين فيما يفعلونه، ولكن هذا الأسلوب لا يناسبني بوصفي ناشراً في الحقيقة. أبحث عن غلاف خرجت فكرته من ثنايا النص، ويستطيع خطف نظر القارئ منذ الوهلة الأولى وبقوة. ولكي يتحقق هذا الهدف، لا بد من التريث والتجويد قبل الاستقرار على الغلاف النهائي الذي يجب أن يختار «ثيمة» ما يشتغل عليها ويبرزها، فضلاً عن نوعية الخط المستخدم وحجمه ومدى تناسق الألوان.

الناشر محمود عبد النبي

* شريف بكر (دار العربي):تفاوت في الموهبة والتجربة
على مدار ما يقرب من نصف قرن، أستطيع قول إن الغلاف كان يحمل أهمية كبيرة في عقدي الستينات والسبعينات، وكان كبار الرسامين والفنانين التشكيليين هم من يصنعون أغلفة إصداراتنا في عهد والدي، مثل محيي الدين اللباد وعدلي رزق الله... وغيرهما، لكن تلك الأهمية تراجعت في حقبة الثمانينات التي كانت الأسوأ في تلك الصناعة، وامتد الأمر ليشمل معظم عقد التسعينات. كان الانحدار شاملاً حيث ساءت نوعية الورق والإخراج الفني عموماً. وفي بداية الألفية الثالثة ظهر جيل جديد من المصممين الذي يمتلكون الموهبة والتقنية والحداثة، واستطاعوا أن يحدثوا ثورة في عالم تصميم الأغلفة. وقد تواكب ذلك مع ظهور المكتبات الخاصة على طريقة «الكوفي شوب» وتنامي ميول القراءة لدى الشباب والمراهقين.
وبالنسبة لنا في «دار العربي» فإننا تعاملنا مع معظم مصممي الأغلفة الموجودين في سوق النشر، لكننا نحرص على التجديد واكتشاف مواهب جديدة وإعطاء الفرصة للشباب بين الحين والآخر. ولأن ترجمة الأعمال العالمية إلى العربية هي نشاطنا الأساسي، فلا بد من مراعاة بعض الملاحظات عند تصميم الغلاف. وقد يكون المصمم فناناً مدهشاً لكنه بحاجة لبعض التوجيه. وهناك مصممون لا يمتلكون الخيال الإبداعي، لكنهم جيدون في تنفيذ رؤية الناشر. من هنا نتعامل مع «تشكيلة» متفاوتة السن والتجربة من المصممين. ولا نفضل التعامل مع لوحات جاهزة إلا في حالات نادرة؛ حيث يظل التصميم المبتكر الجديد هو خيارنا الأول.

الرسامة هند سمير

* نورا رشاد (الدار المصرية - اللبنانية): وسيلة التسويق الأولى
على المستوى الشخصي، أول ما يجذبني في أي كتاب هو غلافه وعنوانه. إنه أول ما يقابلنا حتى قبل معرفة محتوى العمل؛ لذا نهتم غاية الاهتمام بتلك الجزئية. والحقيقة أنه في كثير من الأحيان، تُظلم بعض الكتب بسبب أغلفتها السيئة أو غير المعبّرة عن مضمونها، والعكس أيضاً يحدث، فكثيراً ما ينخدعُ القارئ في كتب ضعيفة المحتوى بسبب غلافها الجذاب الذي شده لاقتناء العمل. أصبحنا الآن نستغرق وقتاً طويلاً في اختيار غلاف الكتاب، ونعده من أصعب مراحل النشر، حتى أننا نعد أحياناً اختيار الغلاف المناسب مرهقاً أكثر من عملية تحرير وتدقيق العمل نفسه؛ لأننا دائماً نبحث ونفكر مع المصمم عن فكرة جديدة ومبتكرة لغلاف الكتاب. يتم دائماً عرض الغلاف المقترح على إدارة التسويق والمؤلف. ويكون الرأي الفاصل دائماً في اختيار الغلاف لإدارة التسويق، فهم دائماً مطلعون أكثر على مجريات سوق النشر، ولهم نظرة ثاقبة في اختيار الغلاف الأفضل.
هل يتم تكليف فنانين بعينهم؟ الحق أننا نتعامل مع كثير من الفنانين المهمين في تصميم الأغلفة. وكل كتاب تختلف طبيعة مضمونه، وبالتالي يختلف المصمم الذي نختاره لعمل الغلاف. وكذلك يختلف قارئ الكتب الكلاسيكية عن قارئ الكتب الأكثر مبيعاً مثلاً. الكتب العلمية وغير الروائية أيضاً لها طبيعة مختلفة. كنا في الماضي نلجأ للوحات في معظم إصداراتنا، ولكن مع مرور الوقت تغيرت ذائقة القارئ، كما تغير شكل الكتاب. ولكننا ما زلنا في بعض السلاسل والكلاسيكيات نلجأ للوحات لتوافقها مع مضمون الكتاب.
وكثيراً ما نرفض تصميمات لأنها مغرقة في الطابع الفني الجمالي، وتفتقد فكرة الجاذبية التسويقية. ورغم تقديرنا الشديد للكتاب كقيمة فكرية، فإنه في النهاية منتج تجاري لا نصنعه كي يبقى أسير واجهات العرض.
ويحدث كثيراً أن نؤجل صدور كتاب ما لأننا ما زلنا غير راضين عن الغلاف، وحدث ذات مرة أن أجرينا 14 بروفة غلاف لإحدى الروايات حتى وصلنا للشكل الأمثل. هذا لا يعني أننا نتدخل بالكامل في عمل المصمم، وإنما نحتفظ بحقنا في التعبير عن وجهة نظرنا التي تنبع من كمّ الخبرات والتجارب التي مررنا بها، فضلاً عن مشاركاتنا في مختلف المعارض العربية على مدار العام.

* أحمد الصباغ (مصمم أغلفة):
ذوق القارئ أولاً
تظل مواكبة الجديد على مستوى التكنولوجيا والغرافيك والأفكار المطروحة أبرز التحديات التي تواجهنا بوصفنا مصممي أغلفة، فضلاً عن إرضاء أطراف صناعة الكتاب، وهي: الناشر، والمؤلف، والقارئ. من هنا يجب أن نواكب الذوق العام وما يستجد فيه، لكن يظل التحدي الأكبر هو مواسم الكتب، مثل المعارض وما يسبقها من ضغط في العمل وضيق الوقت، وكيف تنجز المهام المطلوبة منك دون تكرار أو تشابه أو منتج رديء. وأحياناً أضطر إلى الاعتذار عن عدم العمل، إذا شعرت بأن ضيق الوقت سيضطرني إلى تقديم غلاف لا أرضى عنه.
والحقيقة أن رضا القارئ يأتي عندي في المقام الأول، وعلى سبيل المثال قد يكون هناك لون ما غير مفضل بالنسبة لي على مستوى الذوق الشخصي، ولكني أوظّفه في التصميم لأني أعرف أنه يعجب القراء. هذا لا يعني أنني أتجاهل ذوقي الشخصي على طول الخط، ولكن يجب طوال الوقت أن نوازن بين ما يعجب القارئ وما يرضينا باعتبارنا مصممين.

* عمرو الكفراوي (تشكيلي ومصمم أغلفة): لا أسعى لإرضاء المؤلف
أسعى بدايةً لإرضاء نفسي عن تصميم الغلاف، شريطة أن يكون المنتج النهائي يساعد على ترويج الكتاب، وأحترم وجهة نظر الناشر والموزع نظراً لخبراتهما في السوق. إن إرضاء المؤلف ليس على قائمة أولوياتي، فكثير من المؤلفين تكون لديهم تصورات حالمة وغير واقعية تجاه الشكل النهائي لأغلفة كتبهم، على نحو يضر بالكتاب بشدة لو تنازل المصمم وحاول مجاراتهم. ومع ذلك أسعد بفرح المؤلف بالغلاف، لكن هذا لا يشكل هدفاً بالنسبة لي في أثناء العمل.
هدفي النهائي عند تصميم غلاف ما، التعبير عن رؤيتي الفنية للعمل بكل محدداتها الجمالية، وفي الوقت نفسه مراعاة عنصر التسويق، بحيث يكون الغلاف عنصر جذب تجاري، ويساعد على زيادة المبيعات. ساعدتني خلفيتي بوصفي فناناً تشكيلياً كثيراً في هذا السياق. ففي بداياتي الأولى كنت أركز أكثر على الشكل الجمالي المختلف، لكن بتراكم سنوات العمل أصبحت أهتم بالمضمون والرؤية الفلسفية لكل من النص والغلاف.

* هند سمير (مصممة أغلفة):
قيم بصرية جمالية
أراعي متطلبات التسويق التجاري، لكن بالدرجة التي لا تخل بأبجديات التصميم فنياً. إنها معادلة صعبة أحياناً، لكن لا بد من الإقرار بأن الكِتاب في الأخير هو منتج يخضع بشكل ما لآليات السوق. وساعدتني دراستي الأكاديمية التي بها حصلت على درجة الدكتوراه في الإخراج الفني للكتاب، على إحداث نوع من التوازن الفني عند تصميمي غلاف الكتاب، بحيث يتوفر عنصر الجذب واستيفاء القدر الأكبر من القيم البصرية الجمالية، مثل وضوح التصميم وعلاقته بالمتن والاهتمام بجودة الصورة الطباعية ووضوح بيانات الكتاب، من عنوان واسم المؤلف ودار النشر. كل هذه مفاهيم وخبرات اكتسبتها أيضاً من خلال تجربتي في تصميم أغلفة معظم إصدارات هيئات وزارة الثقافة المصرية، مثل: الهيئة العامة للكتاب، والمجلس الأعلى للثقافة، والمركز القومي للترجمة.



كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».