حتى الآن، لم يدخل قرار تدريس مقرر الفلسفة في المدارس والجامعات السعودية حيّز التنفيذ. ولكننا نكاد نتحسس أهم التحديات والإشكالات التي تواجه تطبيقه في التعليم النظامي. ومن أبرز التحديات أمام هذا التحوّل الواعد في المملكة هي: بعض التيارات الاجتماعية، والمنهج التعليمي، والأستاذ القيّم على تدريس مادة يختلف مقررها عن بقية المقررات التربوية المعهودة... وهذه تشكّل معاً ركائز التعليم السليم. ولعلّه من الضروري أن يعاد تعريف الفلسفة في المجتمع وإلقاء حمولة هذا المصطلح السلبية تاريخياً، وأن تؤَسس الطرائق التعليمية بعيداً عن نخبوية الطرح اللصيق دائماً بشخصية الفيلسوف لا بموضوع الفلسفة، وتبيان الحاجة الملحة لربط هذه المادة بحياتنا المعاصرة والاستفادة منها قدر الإمكان والتعويض عمّا فات.
وعلى الرغم من أن التعريفات تعددت بتعدد الأزمنة والثقافات، يتلخّص تعريف الفلسفة في أنها تلك اليقظة الفكرية المتأنّية التي ظاهرها الجدل والاختلاف وباطنها فن المعرفة ومهارة اختبار المفاهيم والكشف عن صميم الإشكاليات داخل التجربة الإنسانية. حيث يتيح المناخ الفلسفي ميزة التفكير النسبي الذي بدوره يقضي على الحدّية والإقصاء والتطرف. ذلك أن هدف الفلسفة هو إدراك الذات. كما أن الفلسفة هي تاريخ قدرة الإنسان على توسيع المدارك والانفتاح والمرونة وصنع الأسئلة. فكانت الفلسفة الدواءَ الذي انتصر به العقل على الخوف والجهل.
كانت الفلسفة وما زالت الأم الرؤوم التي تناسلت منها العلوم. فقد استقلت الرياضيات عن الفلسفة بموضوع الكَمّ، ثم لحقتها الفيزياء في القرن السابع عشر، ثم الكيمياء، فعِلم الأحياء (البيولوجيا) في القرن التاسع عشر. بعد ذلك تفرّعت منها العلوم الاجتماعية والاقتصاد وعلم النفس ثم علم الاجتماع. والقرن العشرون كان قرن العلوم الإنسانية بامتياز. كل تلك الأغصان أينعت من الفلسفة التي تميزت عن العلم في أنها تتعايش وتنمو تاريخياً. أما في العلوم فالنظرية الجديدة تظهر لتدحض ما قبلها.
ومنذ الحضارة الإغريقية حتى القرن السابع عشر، كانت العلوم تلازم الفلسفة ملازمة وثيقة، لتستقل عنها متى ما وجدت معملاً لتجريب نتاجاتها، في عملية تراتبية، تراكمية وتفسيرية.
لقد عُرف عن أفلاطون تمكّنه من الرياضيات، وعن أرسطو معرفته بالطبيعيات، وابن سيناء اضطلاعه في علم الفلك والرياضيات، غير الطب الذي اشتهر به. وبحّر الفارابي في الموسيقى والفيزياء، وابن رشد في الطب والقضاء. وعُرف عن ديكارت فهمه لعلم الجبر واختصاصه بالموسيقى، وعن كانط إحاطته بالفيزياء والإنسانيات، وعن روسو تأثيره في علم النبات وتصميم الرقصات ونقد الموسيقى.
بالعودة إلى السعودية، على الرغم من تعالي الأصوات المطالبة بتدريس الفلسفة بشكل متكرر والتفكير النقدي من المثقفين والمهتمين، شكّل القرار الذي صدر عن وزارة التعليم مفاجأة جميلة ومتميّزة، وسيكون نقلة نوعية في تطور مناهج التعليم بالمملكة.
ولمواجهة التحديات التي تطرحها هذه المسألة الحسّاسة وتيسير معالجتها كانت الحاجة لأن نوضحها وهي:
- المجتمع: تشكّل بعض الانتماءات الفكرية في المجتمع عائقاً وسبباً أساسياً في تعطيل المنهج لما يحمله من انطباعات قَبلية وتصورات محسومة وأحكام جاهزة حول الفلسفة، ما قد يطوّر مناعة مضادة لدى النشء، مثلما حدث مع الفنون سابقاً، حيث يشغل التراث في وعينا حيّزاً مُغَالًى فيه فتتقدّم مسألة التاريخ دائماً على الحداثة والتغريب والتغيير.
- المنهج: الفلسفة وإن كانت علماً، تظلّ في الحقيقة نشاطاً وممارسة قبل أن تكون درساً. فقد أثبتت التجارب إمكان تحويل هذا العلم إلى منهج دراسي وجلبه من الفضاء التخصّصي إلى قوالب تعليمية وقواعد تربوية تلائم السياق التدريبي. فيصار إلى تنظيمها بطريقة مبّسطة تيسّر للطالب المبتدئ استيعابها. وهذا الإجراء المُجرّب يطلق عليه تسمية «النقل الديداكتيكي»، وتكون نتائجه ملموسة وواضحة عندما يطبّق على الرياضيات والفيزياء مثلاً. لكنه يصبح أكثر صعوبة في مجال الفلسفة، إذا لم يسلم من الاجتزاء أو تلبيس المفاهيم معاني أخرى تعكّر ماهيتها.
- الأستاذ: من التحديات أيضاً إيجاد الأستاذ أو المدرّس المناسب، فكثير من مدرسي مادة الفلسفة ورغم اجتهادهم ومكانتهم العلمية، قد لا يستطيعون تحقيق الأهداف الأساسية من تدريس مادة الفلسفة. وذلك إما بسبب شرح المادة بطريقة الإلقاء والإخبار، أي بالتلقين، وإما بسبب انطلاق كل منهم من نظرته للفلسفة التي لا ترى فيها سوى نصوص للحفظ وعبارات تُجتر وتُكرر بلا طائل. وثمة من يتبنى آراءً سطحية منتزعة من سياقها، بسبب ضعف تكوينه المعرفي العام خارج التخصص، بعلوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة والاقتصاد. كل هذه التحديات موجودة نسبياً في تجارب موازية ولها مكانتها. كما أن لكل تجربة تحدياتها وإفرازاتها المختلفة، وهو الأمر الذي يسهل المهمة. ومن زاوية مغايرة، يمكن القول إن من حسن الحظ أن تحريم تدريس الفلسفة في الماضي حرسها من تجارة المدّعين وأبقاها منطقة بكراً، فلم تُمتهن كدور المثقف ورجل الدين في مجتمعنا. إلا أن المواضيع الفلسفية لم تكن غائبة تماماً، كانت تعوم حيناً وتغوص أحياناً، فتُطرح في المنتديات مستترة بأثواب مواضيع أخرى كالآداب وعلوم الاجتماع.
وتطلّ في التعليم في دروس اللغة العربية أو في حصص العقيدة أو علم النفس أو النقد، حتى ولو كانت تنتهي برفضها. ويمكننا اليوم أن نلحظ أنماط تفكير مختلفة ولافتة من خلال الإنتاج الفكري والأدبي في المكتبات أو من خلال منصات مواقع التواصل الاجتماعي التي تشير إلى أن المشاركين نهلوا من الفلسفة والعلوم الاجتماعية المختلفة. ويرشدنا هذا الاتجاه المجتمعي المتنوع إلى أن ثمة قبولاً ضمنياً للفلسفة يناسب انفتاح وحماس المجتمع على الأقل في الوقت الحالي، الذي يشهد اتساعاً فكرياً وتَقبُّلاً للآخر وازدهاراً اقتصادياً... يجعل من البيئة السعودية حاضنة لصناعة الأفكار الجديدة وممارستها، وهذا بالضبط ما تُعنى به الفلسفة.
لقد كانت الفلسفة ولا تزال تستبق المعرفة وتستشرفها وسنجد أنه رغم تباعد الزمان والمكان يمكن أن تتشابه فلسفتان من دون جذر أو اشتقاق، مثلما حدث لأفلاطون اليوناني ويامنغ مينغ الصيني حين اتفقا من دون اتصال على وجود «المعرفة الفطرية» وكذلك لأرسطو وكونفشيوس في أن «الفضيلة هي أعلى هدف يسعى الإنسان لتحقيقه».
ولطالما كان للفلاسفة دور في حركة التاريخ، وقلما تجد حضارةً لم تُبنَ على فلسفة أو مؤثراً لم يكن مصدر إلهامه فيلسوفاً. فالإسكندر المقدوني كان معلمه أرسطو، والثورة الفرنسية كانت ترجمة لأفكار فولتير وروسو وآخرين. وكانت ملكة السويد كريستينا تتبنى أفكار ديكارت، وكان لمكيافيلي في عصر النهضة دور كبير في التنظير للفكر السياسي البراغماتي والتمهيد لما سيغدو لاحقاً مدرسة الواقعية السياسية الأنغلوساكسونية التي سوف تنتهج نهج مكيافيلي المبكر في الفصل بين الأخلاق والسياسة. ونهل هتلر من شوبنهاور وأخذ من أفكار نيتشه، وجمال عبد الناصر كان من قرّاء عبد الرحمن بدوي، وميشيل عفلق كان قد تأثّر بالفرنسي برغسون، وبورقيبة بأوغست كونت.
واليوم نشاهد أثر الفيلسوف بول ريكور واضحاً على دبلوماسية ماكرون، ونلمس أثر أفكار ألكساندر دوغين على صمود الرئيس الروسي بوتين، والرئيس الصيني شي جينبينغ ما زال يردد حِكم كونفوشيوس.
نجد أن أكثر المؤثرين اليوم لديهم أمنيات وأفكار لا تبتعد عن الفلسفة ومدارسها. فالفلسفة في مضمونها هي طلب الحكمة وليس حيازتها. يذكر ستيف جوبز، مؤسس «أبل»، في أحد اللقاءات أنه مستعد للتنازل عن جميع خبراته التكنولوجية مقابل قضاء أمسية مع سقراط! ويقال إن جاك دورسي، مؤسس «تويتر»، أحد المعجبين بالمذهب الرواقي، بل إنه يُلقب (برواقي وادي السيليكون) والأمثلة غيرهم كثيرة.
ينقل الفيلسوف والباحث الموريتاني السيد ولد أباه عن أن المفكر المغربي محمد عابد الجابري أنه قال له إنه يتوقع أن تشرق شمس الفلسفة عربياً من السعودية. فهل تتحقق رؤية الجابري؟
* كاتب سعودي
الفلسفة في السعودية ورؤية محمد عابد الجابري
الفلسفة في السعودية ورؤية محمد عابد الجابري
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة