الفنان الألماني أنسيلم كييفر يثير أشباح التاريخ

«لقد جمعتُ في أعمالي بين المعاصرة وأعماق التاريخ»

«بلاد ما بين النهرين» من لوحات أنسيلم كييفر المعروضة بمنزل الفنان في فرنسا (أنسيلم كييفر - جوليان مينوت / {نيويورك تايمز})
«بلاد ما بين النهرين» من لوحات أنسيلم كييفر المعروضة بمنزل الفنان في فرنسا (أنسيلم كييفر - جوليان مينوت / {نيويورك تايمز})
TT

الفنان الألماني أنسيلم كييفر يثير أشباح التاريخ

«بلاد ما بين النهرين» من لوحات أنسيلم كييفر المعروضة بمنزل الفنان في فرنسا (أنسيلم كييفر - جوليان مينوت / {نيويورك تايمز})
«بلاد ما بين النهرين» من لوحات أنسيلم كييفر المعروضة بمنزل الفنان في فرنسا (أنسيلم كييفر - جوليان مينوت / {نيويورك تايمز})

بالنسبة لأنسيلم كييفر، ليس هناك مشهد بريء. إذ يرى الفنان الألماني - المولود تحت قنابل الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الثانية - في كل شيء دورة من الخراب والانبعاث. إذ دائماً ما يخرج من بين الغبار والركام شيء ما. وهنا في «لاريبوت»، الضيعة مترامية الأطراف في جنوب فرنسا، حيث عاش وعمل لمدة 15 عاماً، خلق كييفر متاهة من هواجسه في صورة أكثر من 70 عملاً مثيراً للإرباك مثبتة في مختلف الأنحاء.
الأبراج المائلة المصنوعة من حاويات السفن المهملة تتحدى الجاذبية في إرسال الظلال إلى الأحواض المتموجة. والمدرج الكبير، المُعلق ببقايا بكرات الأفلام المتلاشية، هو نصب تذكاري للإمكانية والانحلال، من شرفاته العليا المملوءة بالضياء إلى الأنفاق المتخمة أسفل المسرح. أزهار عباد الشمس المجففة، والكتب المصنعة من الرصاص، هي تيمات متكررة لعالم يتوه في أشباه الظلام ما بين الحياة والموت.
قال لي كييفر في مقابلة: «إذا لم يكن هناك موت، فلن نكون. إنها الطريقة التي تحدد هويتنا. وإنني لأفكر في هذا الأمر، ولكن ليس بطريقة سقيمة. حتى في حالة نشوب حرب نووية»، كما تابع قائلاً: «حتى لو مُحيت البشرية عن بكرة أبيها، فستكون هنالك بكتيريا في نهر جليدي بمكان ما، حيث يبدأ تطور جديد. كل شيء عبارة عن تدفق غير خطي، كمثل خيمياء العناصر. لقد جمعتُ في أعمالي بين المعاصرة وأعماق التاريخ».
وقد أسفر تطوره الذاتي في لاريبوت، موضع مصنع الحرير السابق، حيث عاش كييفر مع عائلته من 1992 إلى 2007، عن نشوء مستوطنة غير محتملة من المباني والسرادقات التي لا يسكنها الناس وإنما الأعمال الفنية. تمتد هذه الضيعة على ما يقرب من 100 فدان، وتتصل بجسور المشاة والممرات تحت الأرض، طبقاتها أشبه ما تكون بالحفريات الأثرية، وقد فُتحت للعامة أول مرة خلال العام الحالي. وصارت الآن معرضاً دائماً، يُفتتح سنوياً من مايو (أيار) إلى أكتوبر (تشرين الأول).

أنسيلم كييفر في الاستوديو (نيويورك تايمز)

بلغ كييفر درجة من التمجيد المثالي ببلوغه السابعة والسبعين من عمره. وهو واحد فقط من اثنين من الفنانين الأحياء ممن لهم عمل معروض في متحف اللوفر، إذ صدر إليه التكليف من الرئيس إيمانويل ماكرون عام 2020 لإنشاء عمل فني مُثبت الآن في البانثيون. وهو يحظى بشرف كبير في فرنسا، حتى إن صحيفة «لوموند» أشارت العام الماضي، إلى أنه صار قاب قوسين أو أدنى لأن يصبح الفنان الرسمي للبلاد. وفي الولايات المتحدة، حيث تعاظمت شهرته عبر عقود من الزمان، افتتح هذا الشهر عرضان تحت عنوان «الخروج» في صالات «جاغوسيان» في نيويورك ولوس أنجليس.
مع ذلك، غالباً ما يلقى استخفافاً غريباً في موطنه الأصلي بألمانيا. الواقع أن هناك شيئاً ما في استِجلاء كييفر غير المتوقف لما سماه «الدقة المريعة» لآلة القتل النازية، هناك أمر ما يتعلق بانهماكه البحثي الدؤوب في سبر منطقة الشفق الشاسعة ذات الغطاء الرمادي المفعم بالسواد، أمر أشبه بعشقه لما سماه الكاتب الفرنسي بيير كورنيل: «ذلك السطوع القاتم الهابط من بين النجوم»، أمر قد أثبت لفترة طويلة إزعاجه المتكرر وإحراجه اللاذع إلى الحد الذي جعل الألمان ينكرونه رافضين. وأشار ناقد بصحيفة «دي فيلت» الألمانية ذات مرة قائلاً: «نحن فقط في هذا البلد (ألمانيا) لم ندرك تماماً مرامي ومقاصد ما يحاول أن ينادي به أو يدعو إليه».
أجاب كييفر ذات مرة بقوله: «إنهم غير مترددين في نقد أعمالي، بل إنهم يعارضونها على الدوام. ويقولون الآن إنني فنان عتيق الطراز قد غادرني الزمان»، هز كتفه، كأنه يقول إنها رواية قديمة مبتذلة لم تعد تلفت اهتمامه.
رجل مهووس بالحدود - وما من موضع كان أكثر شرباً للدماء حتى منتصف القرن العشرين من الحدود بين فرنسا وألمانيا - إذ وجد نفسه يتبعثر في المشهد الألماني الذي خلفه وراءه، ومع ذلك لا يزال يحبه، فضلاً عن المشهد الفرنسي الذي وجد فيه حرية العمل. هذه مشاعر قديمة. فعندما كان طفلاً، كان نهر الراين المجاور يغمر قبو بيته، وقد أحب فكرة أنه الآن في فرنسا لأن حدود النهر قد تغيرت.
قال كييفر كاتباً: «كل حد هو وهم، يُبنى لأجل راحتنا كما يقولون، حتى يمنحنا انطباع المكان المؤكد الواضح، مع أنه ليس هناك ما يُسمى الأماكن المؤكدة».
حتى في أعماله قد تغيرت الأشياء. إذ قال: «اللوحة في أعمالي لا تنتهي أبداً - أبداً. بل إنها تستمر على الدوام. إنني أداوم العمل على لوحات منذ أواخر الستينات لا تزال قابعة في الحاويات». وجاءه سؤال: حتى الموجودة في لاريبوت؟، فأجاب: «حسناً، إنها تعد منتهية فقط لأنني لا أستطيع تغييرها بعد الآن؛ إنها الآن في متحف أو شيء من هذا القبيل».

عمل بعنوان «الشهيدات» يعرضه كييفر في ضيعته بفرنسا (نيويورك تايمز)

إن لوحة ألوان كييفر ليست لينة أو مريحة. إن كل ما في الأمر أنها نجمية التأثير، في تذكير بأن هذه الأرض الصغيرة والحياة القائمة عليها تواصل الدوران في فضاءات لامتناهية مفعمة بالغموض. يقول كييفر واصفاً إياها: «عادة ما تبدأ لوحاتي بكثير من الألوان، ثم تُختزل وتتلاشى. أعتقد بأهمية اللون؛ إنه شيء علميّ: فهو يعتمد على أي جزء من المشكال (رسم متعدد الألوان أو منظار متغير النماذج) ينشأ في ذهنك»، ثم توقف برهة ليتابع: «أتظاهر بأن الرمادي عندي هو أكثر ثراء مما لدى مونيه. الرمادي لون مُتخم، أتعرفون ذلك؟ إنه أكثر ثراء، ففيه من الألوان ما ليس في اللون الأحمر الفقير».
الرصاص مادته المفضلة. أخبرني كييفر أن لديه منزلاً قديماً في ألمانيا توجد فيه أنابيب الرصاص، بعضها قديم للغاية، وقد استقدم سباكاً لاستبدالها. ففتنه لون الرصاص، واستفسر من السباك عن كيفيه إسالة الرصاص ولحامه. ثم أوضح قائلاً: «كان لدي مجرد حدس، ثم صار اهتمامي أكثر عقلانية. الرصاص مهم بالنسبة إلى الخيميائي، الذي أراد تحويل الرصاص إلى ذهب».
كان أستاذ الفنون في مدرسة كييفر عضواً سابقاً في قوات «إس إس» النخبوية النازية. وعندما درس كييفر القانون بالجامعة، كان أساتذته من النازيين السابقين. ثم خيّم الصمت المطبق على كل ذلك في ألمانيا لما بعد الحرب الثانية. كانت الحقيقة مخفية. وبعد ذلك، لم يعد باستطاعته الوثوق في ظواهر الأمور، وإنما تعين عليه سبر غور الأشياء.
منذ ذلك الحين، على ما يبدو، كان كييفر يُرغم نفسه إرغاماً، مُستكشفاً حدود الأمور، أو الأشياء التي قد تصرف البشرية أعينها عنها. وقال: «عندما أشرع في رسم لوحة، أدرك في الوقت ذاته أنها عمل فاشل». ثم أضاف: «رغم ذلك، فأنا أرسمها. وأتابع العمل عليها. فقط أتابع».
ثم نظر نحوي وقال: «لا أعتقد أنه يمكنني الخروج برائعة فنية أو تحفة خالدة. فقط لا أستطيع. وإنما أحاول. أدرك أنه لن يحدث».
حقيقة أن كثيراً من الناس قد يختلفون في ذلك لا تهُم كييفر كثيراً. فلقد عاش وفقاً للبوصلة الخاصة بذاته، فحسب.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

يوميات الشرق رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً. فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه.

يوميات الشرق ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

يعتمد الموسيقار المصري هشام خرما طريقة موحّدة لتأليف موسيقاه، تقتضي البحث في تفاصيل الموضوعات للخروج بـ«ثيمات» موسيقية مميزة. وهو يعتزّ بكونه أول موسيقار عربي يضع موسيقى خاصة لبطولة العالم للجمباز، حيث عُزفت مقطوعاته في حفل الافتتاح في القاهرة أخيراً.

محمود الرفاعي (القاهرة)
يوميات الشرق معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

زائرون يشاهدون عرضاً في معرض «أحلام الطبيعة - المناظر الطبيعية التوليدية»، بمتحف «كونستبلاست للفنون»، في دوسلدورف، بألمانيا. وكان الفنان التركي رفيق أنادول قد استخدم إطار التعلم الآلي للسماح للذكاء الصناعي باستخدام 1.3 مليون صورة للحدائق والعجائب الطبيعية لإنشاء مناظر طبيعية جديدة. (أ ب)

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

«نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

ستُطرح رواية غير منشورة للكاتب غابرييل غارسيا ماركيز في الأسواق عام 2024 لمناسبة الذكرى العاشرة لوفاة الروائي الكولومبي الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1982، على ما أعلنت دار النشر «راندوم هاوس» أمس (الجمعة). وأشارت الدار في بيان، إلى أنّ الكتاب الجديد لمؤلف «مائة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا» سيكون مُتاحاً «عام 2024 في أسواق مختلف البلدان الناطقة بالإسبانية باستثناء المكسيك» و«سيشكل نشره بالتأكيد الحدث الأدبي الأهم لسنة 2024».

«الشرق الأوسط» (بوغوتا)

«كويبُوكا»… يذكّر بحروب الإبادة في رواندا

نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
TT

«كويبُوكا»… يذكّر بحروب الإبادة في رواندا

نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)

في فيلمه «كويبُوكا، تذكَّر»، الذي شارك في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، يعود المخرج البلجيكي–الرواندي جوناس داديِسكي إلى موطنه رواندا لا بوصفها مسرحاً لمأساة تاريخية فحسب، بل إنه فضاء حيّ يعيد طرح أسئلة الذاكرة، والهوية، والانتماء من منظور جيلٍ عاش الإبادة الجماعية من بعيد، لكنه ظل يحمل آثارها في داخله.

تدور أحداث الفيلم حول «ليا»، لاعبة كرة سلّة بلجيكية–رواندية، تواجه نهاية مسيرتها الاحترافية في أوروبا، قبل أن تتلقى دعوة غير متوقعة للانضمام إلى منتخب رواندا الوطني، والمشاركة في بطولة تُقام في كيغالي. الرحلة التي تبدو في ظاهرها رياضية بحتة، تتحول تدريجياً إلى مواجهة داخلية مع الذاكرة، والمنفى، وصمت العائلة، وهوية ممزقة بين مكانين وزمنين.

يقول داديِسكي لـ«الشرق الأوسط» إن «الدافع الأساسي لصناعة الفيلم كان رغبتي الشخصية في إعادة الاتصال برواندا، البلد الذي أنتمي إليه عبر والدي، رغم أنه وُلد ونشأ في بلجيكا»، مشيراً إلى أنه لم يُرِد العودة بصفة أنه سائح، بل من خلال مشروع يتيح له خوض تجربة إنسانية حقيقية مع الناس هناك، وهو ما تحقق عبر الفيلم، الذي أعاده مراراً إلى رواندا، وفتح أمامه علاقات، واكتشافات غيّرت نظرته إلى البلد، وإلى نفسه.

صور الفيلم بالعديد من المواقع الحقيقية داخل رواندا (الشركة المنتجة)

ويوضح أن شخصية «ليا»، بطلة الفيلم، جاءت انعكاساً جزئياً لتجربته الذاتية، فهي تنتمي إلى الجيل نفسه، وتحمل الهوية المختلطة ذاتها، وتعود إلى رواندا ليس بدافع الحنين، بل عبر مهمة محددة، وهي الانضمام إلى منتخب كرة السلة الوطني. ومع ذلك، فإن هذه العودة تفتح أسئلة مؤجلة حول العائلة، والماضي، والإبادة الجماعية.

وأكد أن الفيلم انطلق من الشخصية أولاً، لكن استحالة فصل العودة إلى رواندا عن تاريخها جعلت ذاكرة ما بعد الإبادة حاضرة بوصفها سياقاً لا يمكن تجاهله، مشيراً إلى أنه تعامل مع كرة السلة باعتبارها فقاعة تحتمي داخلها «ليا»، فالحياة الاحترافية القاسية سمحت لها بالتركيز على الحاضر، وتجنب مواجهة ماضيها. غير أن دعوة المنتخب الرواندي شكّلت أول شرخ في هذه الفقاعة، إذ سمحت لها بالعودة إلى البلد من دون أن تكون مطالبة فوراً بمواجهة أسئلتها العائلية.

ولفت إلى أن الفيلم يتعمد كسر صورة «الفيلم الرياضي الكلاسيكي»، إذ تبدأ «ليا» باعتبارها نجمة منتظرة، وقائدة للفريق، لكنها تنتهي بالتنازل عن موقعها، وإقناع المدرب بأن الفريق قادر على الفوز من دونها، في موازاة رمزية مع رواندا التي أعادت بناء نفسها بعد الإبادة.

عاد المخرج إلى رواندا عدة مرات للتحضير للفيلم (الشركة المنتجة)

وعن تجنب الميلودراما يقول داديِسكي إن «قوة الشخصية المهنية كانت عنصراً أساسياً في موازنة هشاشتها الداخلية. فالفيلم يقدّمها أولاً كلاعبة ناجحة، قبل أن يكشف تدريجياً تعقيدات ماضيها»، مؤكداً أن وعي البطلة بأنها لم تعش الإبادة بنفسها منح الشخصية تواضعاً أخلاقياً، منعها من إصدار الأحكام، وهو ما انعكس على نبرة الفيلم العامة، القائمة على الصمت، والكلمات القليلة، والانفعالات المكبوتة.

وفي تناوله للإبادة الجماعية، يوضح المخرج أنه اختار الابتعاد عن الصور المباشرة، أو الأرشيف، مفضّلاً تثبيت الفيلم في الحاضر، مشيراً إلى أن «الصمت والغياب كانا عنصرين أساسيين في السرد، قبل أن تأتي فكرة استخدام الرسوم المتحركة بوصفها وسيلة عضوية لاستعادة الذاكرة، فالبطلة لا تملك صوراً واضحة عن الماضي، بينما يحمل والدها ذكريات مؤلمة عبّر عنها عبر رسومات، وعندما تكتشف الابنة هذه الرسومات، تبدأ في إسقاط ذاكرتها المتخيلة عليها، في عملية إعادة بناء غير مكتملة، تعكس هشاشة الذاكرة، وتشوهها»، على حد تعبيره.

ويؤكد داديِسكي أن الرسوم المتحركة كانت خياراً أخلاقياً، وجمالياً، لأنها تبتعد عن إعادة تمثيل العنف، وتسمح بتجسيد الإحساس بدل الحدث، كما أنها شكّلت جسراً عاطفياً بين الأب، والابنة، وهي العلاقة التي يراها جوهر الفيلم.

وحول فكرة «العودة» إلى الوطن، يشدد على أن الفيلم لا يتعامل معها بوصفها حنيناً، لأن «ليا» لا تمتلك ذاكرة واضحة عن رواندا، فهي لا تتقن اللغة، والبلد تغيّر جذرياً، حتى ملاعب كرة السلة أصبحت أكثر تطوراً مما عرفته في أوروبا، لافتاً إلى أن وجودها في رواندا لاعبة، لا سائحة، منح السرد ديناميكية، وحوّل العودة إلى رحلة اكتشاف وبحث، لا استرجاع للماضي.

قدم الفيلم صورة عن واقع رواندا اليوم بنظرة جيل عاش خارجها (الشركة المنتجة)

ويرى المخرج أن البطلة تمثل جيلاً كاملاً من أبناء الشتات الرواندي، الذين غادروا البلاد خلال الإبادة، ونظروا إلى وطنهم لسنوات طويلة من خلال مأساة واحدة، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن الشخصية تتجاوز خصوصيتها، لتعبّر عن تجربة إنسانية أوسع، تشمل كل من عاش انكسار الهوية بسبب الحرب، أو المنفى، أو التبني القسري.

وعن التناقض بين ماضي رواندا الجريح وحاضرها النابض، يقول داديِسكي إن هذه المفارقة كانت من أقوى الصدمات التي عاشها شخصياً عند زيارته الأولى للبلد، بعدما اكتشف عاصمة حديثة، وطبيعة خلابة، وحياة يومية مليئة بالطاقة، لافتاً إلى أنه أراد نقل هذه الصورة إلى الفيلم، من دون إنكار الماضي، عبر لغة بصرية ملوّنة، وحيوية، تقابلها معالجة متقشفة وصامتة لأماكن الذاكرة، وقال إن «الفيلم يعكس قناعتي بأن الجيل الذي كان طفلاً وقت الإبادة يمتلك اليوم مسافة كافية تسمح له بمساعدة جيل الآباء على تفكيك صدماتهم».

وفي ختام حديثه، يشير داديِسكي إلى أن اسم الفيلم لا يعني التذكّر بوصفه عودة جامدة إلى الماضي، بل باعتبار أنه تفاعل حيّ بين الماضي والحاضر، معرباً عن أمله في أن يخرج المشاهد من الفيلم برغبة في مواجهة عقده الخاصة قبل فوات الأوان، وبإيمان حقيقي بإمكانية إعادة البناء، سواء على المستوى الفردي، أو الجماعي، حتى بعد أكثر التجارب الإنسانية قسوة.


«متحف قرّاء القرآن الكريم» يوثق لتاريخ التلاوة في مصر

جانب من افتتاح المتحف في العاصمة الجديدة (وزارة الثقافة المصرية)
جانب من افتتاح المتحف في العاصمة الجديدة (وزارة الثقافة المصرية)
TT

«متحف قرّاء القرآن الكريم» يوثق لتاريخ التلاوة في مصر

جانب من افتتاح المتحف في العاصمة الجديدة (وزارة الثقافة المصرية)
جانب من افتتاح المتحف في العاصمة الجديدة (وزارة الثقافة المصرية)

يُوثق «متحف قرّاء القرآن الكريم» لتاريخ التلاوة والمقرئين في مصر، بوصفه مشروعاً ثقافياً يسعى إلى توثيق تراث صوتي يشكّل جزءاً مهماً من الذاكرة المصرية.

فالمتحف، الذي افتتح أخيراً، يوثّق تسجيلات كبار المقرئين في مصر إلى جوار مقتنياتهم الشخصية، ضمن سياق متحفي يعزّز قيمة التراث غير المادي المرتبط بتاريخ الاستماع للتلاوة القرآنية، وبذاكرة متجذّرة في الوجدان الجمعي، وبذلك، يصبح المتحف أقرب إلى توثيق حي لتاريخ التلاوة، لا مجرد أرشيف.

المقتنيات الشخصية للشيخ أبو العينين شعيشع في المتحف (وزارة الثقافة المصرية)

ويضم المتحف، الذي افتتح رسمياً، الثلاثاء، مقتنيات خاصة لأحد عشر من رموز مدرسة التلاوة المصرية، هم: محمد رفعت، وعبد الفتاح الشعشاعي، وطه الفشني، ومصطفى إسماعيل، ومحمود خليل الحصري، ومحمد صديق المنشاوي، وأبو العينين شعيشع، ومحمود علي البنا، وعبد الباسط عبد الصمد، ومحمد محمود الطبلاوي، وأحمد الرزيقي.

ركن القارئ مصطفى إسماعيل (وزارة الثقافة المصرية)

وتتوزع معروضات المتحف، المُلحق بدار القرآن الكريم بمركز مصر الثقافي الإسلامي بالعاصمة الجديدة (شرق القاهرة) على أربع قاعات رئيسية، ويضم مجموعة من المخطوطات والمقتنيات النادرة، من بينها إجازات الأزهر الشريف لعدد من المقرئين، إلى جانب نسخ من المصحف، من بينها نسخة من المصحف العثماني.

ويعتمد العرض المتحفي على الجمع بين المادة البصرية والتسجيلات الصوتية، بحيث لا تُعرض المقتنيات بوصفها أشياء منفصلة عن أصحابها، بل كجزء من مسار حياتهم ومسيرتهم في التلاوة.

ويعدّ الكاتب والناقد المصري الدكتور أحمد إبراهيم الشريف أن «المتحف يمثل إضافة مهمة في أكثر من اتجاه»، أبرزها أنه «لا يقدم مكاناً للعرض بقدر ما يقدّم معنى ثقافياً يعمل على تكريس هوية مصرية وذاكرة شعبية وروحانية إنسانية».

ويضيف لـ«الشرق الأوسط» أن «المدرسة المصرية في قراءة القرآن الكريم ليست أداءً فقط، بل تقليد عريق تشكّل عبر أجيال، وترك بصمته على الذائقة الدينية والجمالية في العالم الإسلامي كله، ولأن القراءة هنا ارتبطت بمقامات الصوت وتقاليد الأداء والانضباط اللغوي، فقد تحولت إلى علامة ثقافية قائمة بذاتها، يلتقطها المستمع من طريقة النطق، ومن الإيقاع، ومن العلاقة المتوازنة بين الخشوع والجمال».

مقتنيات القارئ طه الفشني (وزارة الثقافة المصرية)

وتتنوع المقتنيات المعروضة داخل المتحف، من عمامات وملابس وعباءات وقفاطين وجلاليب وسبح، إلى أجهزة تسجيل صوتية قديمة، ودروع تكريم ونياشين وأوشحة ارتداها القراء في مناسبات مختلفة، كما تضم القاعات صوراً شخصية للمقرئين مع أسرهم، وصوراً لتكريماتهم، وشهادات تقدير، إلى جانب قصاصات صحافية وثّقت محطات مهمة في حياتهم، فضلاً عن وسائل حديثة تتيح للزائر الاستماع إلى تلاواتهم.

ركن الشيخ محمود خليل الحصري (وزارة الثقافة المصرية)

وكان المتحف قد افتتحه الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، والدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، في إطار تعاون يهدف إلى حفظ أحد أبرز أوجه التراث الديني والثقافي المصري.

ووفق الدكتور أسامة رسلان، المتحدث باسم وزارة الأوقاف، فإن افتتاح متحف قرّاء القرآن الكريم يمثل «إضافة نوعية وفريدة للمشهدين الديني والثقافي في مصر». وأوضح رسلان، خلال مداخلة تلفزيونية، أن «مدرسة التلاوة المصرية تعد علامة فارقة في تاريخ العالم الإسلامي، حيث وصلت أصوات قرائها إلى العالمية، مستشهداً بتلاوة القرآن الكريم لأول مرة داخل الكونغرس الأميركي بصوت الشيخ محمود خليل الحصري».

مقتنيات الشيخ عبد الباسط عبد الصمد (وزارة الثقافة المصرية)

ويشير الشريف إلى أن «الطابع المتحفي النوعي لهذا المشروع، يتيح حالة من التواصل الوجداني مع تلاوة القرآن الكريم، كما أن هذا النوع من المتاحف يملك قدرة خاصة على جذب جمهور واسع، بداية من محبي التلاوة، وعشاق المدرسة المصرية في القراءة، والمهتمين بتاريخ الأداء الصوتي، وحتى الزائر العادي الذي يبحث عن مساحة عرض متحفي جديدة».


جدة تُغيّر قواعد الترفيه من زرقة البحر إلى بياض الثلج وتكتب موسماً جديداً

منطقة «ونتر وندرلاند» بموسم جدة تستقبل زوارها الجمعة بطاقة استيعابية تصل إلى 15 ألف زائر يومياً (موسم جدة)
منطقة «ونتر وندرلاند» بموسم جدة تستقبل زوارها الجمعة بطاقة استيعابية تصل إلى 15 ألف زائر يومياً (موسم جدة)
TT

جدة تُغيّر قواعد الترفيه من زرقة البحر إلى بياض الثلج وتكتب موسماً جديداً

منطقة «ونتر وندرلاند» بموسم جدة تستقبل زوارها الجمعة بطاقة استيعابية تصل إلى 15 ألف زائر يومياً (موسم جدة)
منطقة «ونتر وندرلاند» بموسم جدة تستقبل زوارها الجمعة بطاقة استيعابية تصل إلى 15 ألف زائر يومياً (موسم جدة)

لم يكن الثلج يوماً ضيفاً مألوفاً على جدة، هذه المدينة التي اعتادت أن تصحو على زرقة البحر، وحكايات التاريخ في كل زواياها، ولكنها تفاجئ زائريها هذا العام ببياض ناعم يهبط من الخيال لا من السماء، مكوناً ثلوجاً تتكون ببرودة مصنوعة بعناية، لتكون تجربة فريدة ومتكاملة لزوار موسم شتاء جدة.

وتفتح المدينة العتيقة أبوابها يوم الجمعة لأضخم تجربة شتوية تشهدها على الإطلاق، ضمن فعاليات «موسم جدة 2025» في فعاليتها الجديدة «ونتر وندرلاند جدة» لتفتح الفرصة لقاطني المدينة وزوّارها لمحاكاة الشتاء من خلال استحضار طقوسه بالكامل «الجليد، الضوء، الموسيقى» لتُسجل الدهشة الأولى حين يرى الزائر الثلج في مدينة اعتادت الشمس.

ولن يكون الثلج مجرد خلفية في «ونتر وندرلاند جدة» بل بطل المشهد، إذ ينساب على الممرات، ضمن 4 مناطق رئيسية ترسم خريطة هذا الشتاء غير المتوقع متمثلة في القطب الشمالي؛ حيث الجليد المتلألئ وحلبات التزلج، إلى «توي تاون» التي تُعيد الطفولة إلى ألوانها الأولى، مروراً بـ«وايلد ونتر» المليئة بالتحدي والحركة، وصولاً إلى «فروست فير»؛ حيث يهدأ الإيقاع، وتصبح الفوانيس والموسيقى جزءاً من ذاكرة المكان.

واجهة جدة البحرية (واس)

ويتوقع أن تشهد هذه الفعاليات تدفقاً كبيراً من الزوار؛ خصوصاً أن الطاقة الاستيعابية تصل إلى 15 ألف زائر يومياً لكل المواقع التي تشمل منظومة متكاملة تضم 32 لعبة ترفيهية، و9 تجارب تفاعلية، و10 ألعاب مهارة، إلى جانب أكثر من 60 مطعماً ومتجراً، في مشهد تتداخل فيه النكهات العالمية مع دفء الاحتفال.

توفر واجهة جدة البحرية التي يقصدها السكان والزوار أجواء مميزة خاصة خلال أوقات الغروب (واس)

وتعيش مدينة جدة طفرة نوعية وبإيقاع مختلف، إذ فتحت مساحاتها للضوء والموسيقى، من خلال «موسم جدة 2025» بوصفه إطاراً جامعاً، ضم تحت مظلته طيفاً واسعاً من الفعاليات الترفيهية والثقافية والفنية، وفتح المدينة على إيقاعات متعددة، من الحفلات الغنائية الكبرى، إلى العروض المسرحية، والفعاليات العائلية التي توزعت على مواقع مختلفة من جدة، في حين تحوّلت الواجهة البحرية إلى مسرح مفتوح، احتضن مهرجانات موسيقية، وفعاليات فنية في الهواء الطلق.

كما برزت المعارض والمناسبات الكبرى، ومنها معرض الكتب، والملتقيات الثقافية، وفعاليات ريادة الأعمال، التي جعلت من جدة منصة للحوار، والفكر، والتبادل المعرفي، إلى جانب كونها وجهة للترفيه، فيما حضرت الرياضة في مساراتها المختلفة بقوة من السباقات البحرية إلى سباقات السيارات والبطولات الكروية.

وفي قلب الذاكرة، عادت جدة التاريخية (البلد) لتكون من أبرز عناوين العام، عبر موسم جدة التاريخية، وما رافقه من فعاليات ثقافية وتراثية، شملت عروض الفنون الشعبية، والأسواق التراثية، والمعارض الفنية التي أعادت الحياة إلى الأزقة والبيوت القديمة، وقدّمت التراث بوصفه تجربة معيشة.

فعاليات ثقافية وتراثية أعادت الحياة إلى الأزقة والبيوت القديمة في المنطقة التاريخية بجدة (واس)

هذا الحراك السياحي والترفيهي لا ينفصل عن حركة الوصول إلى المدينة، فقد أعلن مطار الملك عبد العزيز الدولي أن إجمالي عدد المسافرين عبر المطار بلغ منذ بداية العام حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 48 مليون مسافر، بنسبة نمو 8.9 في المائة، فيما وصل عدد الرحلات إلى 273.7 ألف رحلة، بنمو 8.2 في المائة، في مؤشرات تعكس توسعاً متسارعاً في خدمات المطار، وترسيخ مكانته بوصفه من أبرز المراكز الجوية في المنطقة والجاذبة للمدينة، فيما سجّل شهر نوفمبر وحده عدد مسافرين بلغ 4.86 مليون، محققاً نمواً بنسبة 8.6 على ما كان مسجلاً للفترة نفسها في العام الماضي.

هذه الأرقام لا تُقرأ بمعزل عن المشهد العام، فهي تعكس جاذبية المدينة التي تتحرك بثقة، وتستعد لاستقبال العالم، وتُعيد بناء علاقتها بالزائر من لحظة الوصول حتى تفاصيل التجربة، متكئة على تاريخها العتيق، فلم تكن منذ اكتشافها قبل 3 آلاف عام منعزلة عن الطرق الكبرى والمسارات الإقليمية والدولية في التجارة والفن والأدب.

جدة التاريخية... قلب الذاكرة (واس)

هكذا تبدو جدة اليوم كما كانت، مدينة تجمع بين تاريخ عميق وحاضر سياحي متجدد، ومستقبل ترفيهي يصنع مواسمه بجرأة، تعتمد فيه على الحداثة والتطوير وأفكار تناسب الشارع المحلي بكل شرائحه وفئاته، خصوصاً أن قطاع السياحة متشعب، وله أبعاد ثقافية واقتصادية على البلاد.

جدة التاريخية «البلد» محطة رئيسية لعشاق التراث (واس)

وكشف التقرير أن إجمالي عدد السياح المحليين والوافدين في 2024 وصل إلى 116 مليون سائح، بنسبة نمو بلغت 6 في المائة مقارنة بعام 2023، وبلغ إجمالي الإنفاق السياحي 284 مليار ريال، بنسبة نمو 11 في المائة مقارنة بعام 2023، فيما بلغ إنفاق السياح الوافدين من الخارج إلى (168.5) مليار ريال، وهذه الأرقام لا تقتصر على مدينة بذاتها، بل شملت كل المدن السعودية بما في ذلك المدينة العتيقة «جدة».