لا يملك من يتأمل شجاعة وعزة أم المؤمنين السيدة جويرية بنت الحارث إلا أن يقف أمامها باحترام وإجلال كبيرين.
وقعت «أسيرة» في أيدي المسلمين بعد هزيمة قومها «بني المصطلق»، ولكنها لم تستسلم لما آل إليه حالها، كما استسلم غيرها.
بذلت جهودها لتفتدي نفسها من الأسر، وتعود حرة كما كانت.. كاتبت ثابت بن قيس بن شماس الذي وقعت في سهمه.
لم تكتفِ بذلك، بل ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستغيثة به طالبة مساعدته في فكاكها، فاستجاب لها، وأكرمها، وعرض عليها الزواج، فسارعت بالإجابة.
وعندما ذهب أبوها إلى المدينة عارضا افتداءها كان جوابها: «اخترت الله ورسوله».
يقول الكاتب محمد حسين سلامة في كتابه «نساء فضليات»: «ظل بني المصطلق يغطون في ظلام الجاهلية بزعامة رئيسهم الحارث بن أبي ضرار، وكانت أنباء انتصارات الرسول، صلى الله عليه وسلم، تقرع آذانهم، وتقض مضاجعهم، وبدأت الوساوس تدور في أذهانهم، وتلعب برؤوسهم، ويزين لهم الشيطان أنهم أقوياء، وأنهم قادرون على محمد صلى الله عليه وسلم».
وفي كتابها «نساء النبي» تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ): «في السنة السادسة للهجرة بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، أن بني المصطلق - وهم حي من خزاعة - يجمعون الجموع لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، بقيادة زعيمهم الحارث بن أبي ضرار.
وخرج إليهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومعه من نسائه عائشة، حتى لقيهم على ماء لهم، يقال له المريسيع، فكان قتال مرير، انتهى بهزيمة بني المصطلق، وسيقت نساؤهم سبايا، وفيهن جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار، سيد القوم وقائدهم».
يقول ابن إسحاق فيما يرويه عن عائشة، رضي الله عنها، إنها قالت: «لما قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يرها أحد إلا أخذت بنفسه».
بعد المكاتبة رأت جويرية أن تلجأ إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليعينها على الفكاك. ويسجل الكاتب محمد علي قطب، في كتابه «نساء حول الرسول»، الحوار الذي دار بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، حين ذهبت إليه في بيت عائشة، حيث بادرت بقولها: «يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من الأمر ما قد علمت، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبني على تسع أواقٍ، فأعني في فكاكي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوخير من ذلك؟
فقالت: ما هو؟
فقال صلى الله عليه وسلم: أؤدي عنك كتابتك، وأتزوجك.
فقالت: نعم، يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد فعلت».
ويضيف الكاتب أن جويرية أسلمت وهي بنت سيد القوم، ولجأت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعين به، فلا بد من وضعها في إطارها السليم الصحيح.
لقد جاءت رضي الله عنها، تطلب خيرًا، فوجدت ما هو أبلغ وأعظم.
وما من شك في أن هذا التصرف من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد ترك آثاره وأبعاده في قلبها، وعند أهلها، وفي محيط عشيرتها.
كان اسمها «برة»، فسماها الرسول صلى الله عليه وسلم «جويرية». ومما قالته السيدة عائشة رضي الله عنها، عقب هذا الزواج: خرج الخبر إلى الناس، فقالوا: أصهار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يُسترقّون؟ فأعتقوا ما كان في أيديهم، من سبي «بني المصطلق»، فبلغ عتقهم مائة أهل بيت.
وتضيف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها».
يقول الكاتب محمد حسين سلامة في كتابه «نساء فضليات»: عاشت جويرية بنت الحارث، في رحاب بيت الحبيب، صلى الله عليه وسلم، من القانتات العابدات، الصائمات القائمات، وكانت لا تفتر عن ذكر الله، عز وجل.
وكان صلوات الله وسلامه عليه، يعلمها من القرآن والسنة، حتى تزداد علما وإيمانا وثباتا على الحق الذي تحياه.
وتحكي السيدة جويرية موقفا قبل إسلامها، فتقول: رأيت قبل قدوم النبي بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر به أحدًا من الناس، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سبينا رجوت الرؤيا.
قالت: فأعتقني رسول الله وتزوجني، والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم، وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر، فحمدت الله.
ونعود إلى الكاتب محمد علي قطب حيث يسجل لفتة مهمة تجلت فيها عظمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد علم والد جويرية، رضي الله عنها، أن ابنته انتقلت من ملك ثابت بن قيس إلى بيت محمد، صلى الله عليه وسلم، وأصبحت زوجة له، فعزم على القدوم إلى المدينة، مفتديا ابنته بمائة من الإبل.
فلما قارب المدينة ونظر إلى إبله يتفحصها، أعجب ببعيرين منها، وحدثته نفسه أن ينحيهما جانبا ضنا بهما أن يكونا في عداد الفدية، ففعل ذلك، وعقلهما في مكان أمين.
ثم دخل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المسجد راجيا أن يقبل منه الفدية، التي حملها إليه، ويرد عليه ابنته جويرية، فرحب به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسأله مبتسما: «فما بال البعيرين اللذين نحيتهما، وعقلتهما في مكان كذا؟».
عندئذ وجم الرجل، وبدت الدهشة على وجهه، وانعقد لسانه عن الكذب، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك يا محمد رسول الله، والله ما علم بهذا الأمر غير الله تعالى.
وأسلم بإسلام الحارث بنو المصطلق جميعا، بعد أن عاد من المدينة إلى دياره وأخبر قومه، ودعاهم إلى الإسلام، وكان ذلك من بركة رسول الله على جويرية، وقومها، وعشيرتها.
زوجات الأنبياء الحلقة (17) : «جويرية» تحرر الأسرى
نجت من السبي وأعتقت أهلها
زوجات الأنبياء الحلقة (17) : «جويرية» تحرر الأسرى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة