مائة عام من أزمة الهوية في تركيا

إردوغان يكافح من أجل استمرار حياته السياسية.. و«حلم الدولة العثمانية الجديدة» أصبح وهما

مائة عام من أزمة الهوية في تركيا
TT

مائة عام من أزمة الهوية في تركيا

مائة عام من أزمة الهوية في تركيا

في يوم بارد من شهر سبتمبر (أيلول)، في سيكتوار جنوب المجر، خطب السلطان العثماني سليمان، الذي يعرفه رعاياه بـ«القانوني»، وهو يحتضر، على حاشيته، ما اشتهر بـ«خطبة فراش الموت». كان السلطان في سبيله إلى مغادرة عالم الأحياء تاركا إمبراطورية، هي أكبر دولة إسلامية، في قمة قوتها ومجدها. اعترف أعداؤه المسيحيون بعظمته حتى أنهم وصفوه بـ«العظيم». ورغم انتصاراته العسكرية الكثيرة ونجاحاته العظيمة في إقامة إدارة ذات كفاءة، فإن سليمان كان على دراية تامة، بأن تحقيق إمبراطورية عظيمة شيء والحفاظ على وجودها بين القوى العظمى شيء آخر. أثبتت القرون التالية لوفاته، صحة مخاوفه، حيث تحولت الإمبراطورية العثمانية إلى «رجل أوروبا المريض». ووضعت الحرب العالمية الأولى نهاية لهذه القصة البائسة، مع تفكك الدولة العثمانية تحت وطأة ضغوط الهزيمة الخارجية والتمرد الداخلي. أدى انهيار الدولة العثمانية، إلى ظهور 30 دولة قومية ذات أشكال وأحجام مختلفة في ثلاث قارات. بطريقة ما تَشكَل تاريخ الشرق الأوسط، وربما حتى تاريخ العالم، خلال الأعوام المائة الماضية، جراء الاهتزازات التالية لسقوط الدولة العثمانية. ما تبقى كان الظهير الأناضولي، بالإضافة إلى موطئ قدم في أوروبا في صورة إسطنبول وضواحيها. وفي العشرينات، أسس الجنرال مصطفى كمال (أتاتورك) دولة تركية من بقايا الإمبراطورية العثمانية.

جرى التسويق لتركيا الجديدة كدولة أوروبية آسيوية قديمة، يميزها الدم واللغة والثقافة بدلا من العقيدة الإسلامية كما كانت في عهد العثمانيين. استند عهد أتاتورك الجديد إلى إقامة نظام سياسي علماني يستقدم فيه مظاهر الديمقراطية الغربية مثل نظام الحكم البرلماني. على مدار الأعوام الثلاثين الماضية، لم يحقق هذا المشروع نجاحا بنسبة مائة في المائة، ولكنه استطاع بث شعور قوي بالتلاحم بين غالبية المواطنين.

* النموذج التركي
بعيدا عن فرض الدولة قيودا صارمة على الإسلام، فإن النموذج التركي، يتمتع بعدد من السمات الأخرى الخاصة. تتضمن هذه الخصائص دورا خاصا للقوات المسلحة كضامن رئيس للنظام القائم. وفي محاولة لمحاكاة النظام الديمقراطي الغربي، أقام أتاتورك حزبين سياسيين، أحدهما يتبنى نبرة يمين الوسط، في حين يميل الآخر إلى يسار الوسط. ولكنه اختار جنرالين، هما عصمت إينونو وفوزي جاكماق، لرئاسة الحزبين، بينما حصل ضباط جيش متقاعدون، على نصيب الأسد في مناصب الحكومة.
من سمات «النموذج التركي» الأخرى، كانت النزوع إلى المركزية. وقبل أن يستحدث رئيس الوزراء، تورغوت أوزال، مجموعة من الإصلاحات، في نهاية ثمانينات القرن الماضي، كانت حتى الشؤون الروتينية في القرى النائية، خاضعة لسيطرة الحكومة المركزية في أنقرة. دافع الكماليون عن صورة متطرفة من القومية، تضمنت ملكية الدولة وسيطرتها على أهم الموارد الطبيعية. ومن جديد استمر ذلك حتى نهاية الثمانينات عندما سُمح للاستثمارات، بما فيها الأجنبية، بتطوير هذه الموارد وتسويقها. نتيجة لذلك، أصبح سوء الأداء الاقتصادي ملمحا أساسيا في النظام التركي. وأجبر الانفجار السكاني بين فترتي الأربعينات والسبعينات من القرن الماضي، ملايين من الأتراك على الهجرة إلى غرب أوروبا، خاصة ألمانيا الغربية والشرق الأوسط بحثا عن عمل.
نتج عن الفكر القومي للنظام الكمالي تبعات أخرى، إذ أجبر الجمهورية الجديدة على فتح أبوابها أمام ملايين من البشر الذين يتحدثون بصور متنوعة من اللغات التركية بعد أن طردوا من أوطانهم. وفي مبالغة في تنفيذ تقليد بدأته روسيا القيصرية، طرد الاتحاد السوفياتي ما يُقدر بأربعة ملايين تركي من الأراضي الخاضعة له؛ ذهب أغلبهم إلى تركيا. كما أُخرجت مجموعات تركية من اليونان وما كان يسمى بيوغوسلافيا في ذلك الوقت. وفي السبعينات، طرد الديكتاتور صدام حسين آلافا من التركمان من شمال العراق إلى تركيا. ووقع آخر ترحيل جماعي للأتراك في بلغاريا في عام 1989. عندما طرد الرئيس تيودور جيفكوف، أكثر من نصف مليون من ذوي الأصول التركية عبر الحدود. وفي التسعينات، فتحت تركيا أبوابها أمام ما يقرب من 400 ألف أذري لاجئ، يتحدثون لغة قريبة من التركية، قادمين من مرتفعات قرة باغ. وباتت تركيا تضم، أيضا، ما يقرب من 1.2 مليون شخص من أصول أذرية قادمين من إيران. ولم يقتصر استغلال اللاجئين في السياسة على الدول المجاورة لتركيا. استخدمت حكومات تركية متعاقبة اللاجئين من أجل تغيير التكوين الديموغرافي لمناطق متنوعة في الجمهورية. وعلى مدار عقود، أعيد إسكان قطاع عريض من اللاجئين المتحدثين بالتركية من البلقان، وبدرجة أقل من روسيا، في مناطق تركية كانت غالبية سكانها المحليين من المجتمعات الكردية أو المتحدثة بالعربية.
وفي حين اعتمد أتاتورك أساسا، على دعاية وتعليم جماعي ينفيان أهمية الإسلام في الثقافة التركية، لم يتورع عن استخدام القوة لسحق المعارضين إذا لزم الأمر. على سبيل المثال، أرسل عام 1925. جيشه لوأد تمرد قروي في مهده، قاده الشيخ سعيد، الذي وصف ذاته بالخليفة الجديد المرسل من الله لإعادة سلطة الإسلام على الأرض. وفي عام 1930. أثار قرار حظر ارتداء النساء الحجاب وتربية الرجال اللحى، سلسلة من الانتفاضات في المناطق الحضرية، من بينها إسطنبول وأنقرة. ومرة أخرى، استدعت الحاجة تدخل الجيش لتهدئة الأوضاع. وحتى في ذلك الوقت، ربما كانت سياسة أتاتورك بالتخلص من مظاهر الإسلام، ستواجه صعوبات أكبر لو لم يحظ بدعم بعض الأقليات الدينية ومن بينها المسيحيون. ولكن كانت أهم المجموعات الدينية التي تدعم حركة أتاتورك العلمانية، هي الطائفة العلوية، المقتصرة على فئة خاصة متأثرة بالشيعة الاثني عشرية ولكنها مختلفة عنها. ففي مطلع عام 1923، تولى العلويون دورا بارزا في حركة (المستنيرين) وأنشأوا نوادي علمانية في المدن الكبرى.

* عودة الإسلام
علم خليفة أتاتورك، عصمت إينونو، وهو الآخر جنرال وأحد أبطال حرب الاستقلال، أن هذا النوع من العلمانية الذي تنشره الجمهورية الجديدة، لا يلقى قبولا كبيرا بين الجماهير من القرويين الأتراك في جميع أنحاء بلاد الأناضول. فقد ظلت المساجد مزدحمة، واستمرت النساء في ارتداء الحجاب في الكثير من المناطق. ووجد الكثير من الأتراك طرقا لافتة إلى مكة لأداء فريضة الحج. في عام 1949. حاول إينونو مد غصن الزيتون إلى الأتراك المتدينين، بتعيين الإسلامي البارز، محمد شمس الدين كُنالطاي، رئيسا للوزراء، في خطوة أثارت قلق الجيش. واتضح، بعد ذلك، أنها أولى الأزمات التي تسببت بها محاولات السماح بعودة بعض من الرؤى الإسلامية إلى السياسة التركية. وبعد عام، رفع رئيس وزراء آخر هو عدنان مندريس، قائد الحزب الديمقراطي، الحظر الذي فرضه أتاتورك على الأذان، وأمر الشرطة بعدم اعتقال من يمسك بهم في المساجد وهم يصلون باللغة العربية. وظل السؤال إذا ما كان مندريس يمتلك أجندة خفية لتقويض النظام العلماني محلا للنقاش الساخن على مدار عقود. ولكن حتى لو امتلك مثل تلك الأجندة، فمن المرجح أن دافع الحسابات الانتخابية أكبر من ارتباطه الآيديولوجي بالإسلام. في الخمسينات، في أول انتخابات عامة تشهد منافسة حرة في التاريخ التركي، رجع الفضل في التأييد الحاشد الذي حظي به حزب مندريس إلى المناطق شديدة التدين في تركيا، بينما اجتذب منافسه حزب الشعب الجمهوري، تأييد المناطق الحضرية الأكثر تَغربا. أزعجت سياسات مندريس الجيش والأوساط العلمانية الراديكالية. وفي عام 1960، قام الجيش بقيادة رئيس الأركان جمال جورسيل، بأول انقلاب عسكري في تاريخ الجمهورية للإطاحة بالحكومة، وجرى شنق مندريس ذاته بينما ظل الرئيس المطاح به، محمد جلال بايار، مسجونا لأعوام.
في الستينات، كان الاعتقاد العام بين الخبراء، هو أن الإسلام أصبح منتهيا في الحياة السياسية التركية. وفي عام 1969. رفض رئيس الوزراء، سليمان ديميرل، حضور أول مؤتمر قمة إسلامي يعقد في الرباط في المغرب. ولكن بعد أقل من عامين، بدأ ديميرل في بث أفكار إسلامية في خطابه، من أجل الفوز بالانتخابات والبقاء رئيسا للوزراء حتى انقلاب عام 1971 الذي قاده الجنرال ممدوح تاجماك. وفي حين ادعى الجيش أنه تدخل لسحق إرهابيي العصابات اليسارية، فإن كبار الضباط أعربوا أيضا عن استيائهم من مغازلة ديميرل للجماعات الإسلامية، ومن بينها حزب النظام الوطني (الذي ظهر في البداية في عام 1969 تحت قيادة نجم الدين أربكان ولكن جرى حله باتهامات معاداة العلمانية). وكانت من أقدار ديميرل، أن تجري الإطاحة به مرة أخرى، من منصب رئيس الوزراء في عام 1980، عندما وجه الجيش، بقيادة الجنرال كنعان أفرين، انتقادات قاسية للسياسي القديم لتشكيله ائتلافا ضم حزب السلامة الوطني بقيادة أربكان.
بعد ستين عاما من بداية الحركة الكمالية، اتضح أمر واحد: محو الإسلام من السياق السياسي والثقافي التركي ليس ممكنا. وفي الوقت ذاته، اتفق الكثير من الأتراك، ربما أغلبيتهم، بعد انزعاجهم من تجربة إيران المأساوية في ظل النظام الإسلامي، على أن تولي الإسلام القيادة السياسية يمثل خطورة كبيرة على الجمهورية التي ما زالت هشة. كان الحل هو التوسع في تنوع الأطياف السياسية، بعيدا عن الآيديولوجيات التقليدية المطروحة منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية. كذلك لم يحظ المفهوم الضيق للقومية التركية، الذي دافعت عنه جماعات يمينية متطرفة مثل الذئاب الرمادية، بشعبية كبيرة، نظرا لأنه لم يتمكن من تلبية الاحتياجات المتنامية إلى رفع مستويات المعيشة.
منذ الثمانينات، تطلعت بعض دوائر النخبة السياسية، وخاصة أمثال أوزال الذي امتلك رؤية استراتيجية، إلى تكوين رؤية بديلة للإسلام السياسي والقومية التركية. لم يخش أوزال من الاستشهاد بآيات القرآن في حملته الانتخابية، واختار أيضا أن يُذكِر جمهوره بأن له أصلا كرديا يرجع إلى جدته. ومن خلال معرفته العميقة بالأدب والتاريخ التركيين أثار إعجاب دوائر الناخبين المهتمين بالقومية التركية. ولكن كان أهم إسهام له في النقاش السياسي هو إثارة الحماس الوطني، وليس التعطش لتحقيق النمو الاقتصادي ورفع مستويات المعيشة. بعد إخفاق أربكان، وجدت وصفة أوزال مردودا بين جيل جديد من السياسيين الإسلاميين من بينهم رجب طيب إردوغان. فتبنوا استراتيجية تعتمد على بناء قاعدة تأييد واسعة حول البلاد على المستوى المحلي من خلال برنامج لمكافحة الفساد وتحسين الخدمات وتوفير فرص العمل. كان نجاح إردوغان في منصب عمدة إسطنبول أكبر مدن البلاد التي يسكنها 20 في المائة من إجمالي السكان، انقلابا رئيسا، فقد حولت إدارته الفعّالة لشؤون المدينة وتطهيره للإدارات ونجاحه في جذب استثمارات جديدة، إسطنبول من مدينة تعاني من الانهيار إلى مدينة حديثة كبرى مزدهرة. في ظل هذا الإنجاز، لم يجد إردوغان صعوبة كبيرة في إطلاق حركة إسلامية جديدة، متمثلة في حزب العدالة والتنمية. تعني الحروف الأولى من اسم الحزب باللغة التركية «الأبيض» في إشارة إلى نية إردوغان إلى التأكيد على برنامجه في مكافحة الفساد. في الانتخابات العامة التي أجريت في عام 2002. فاز حزب العدالة والتنمية بنسبة 34 في المائة من الأصوات، ولكن بفضل نظام محاصصة يعطي أفضلية للفائز، حصل الحزب على أغلبية مقاعد الجمعية الوطنية الكبرى (البرلمان). في ذلك الوقت، استبعد كثيرون أن يكون حزب العدالة والتنمية ديناصورا باقيا من العصر الجوراسي للآيديولوجيات الإسلامية. في ظل رئاسة وزراء غُل ثم إردوغان ذاته، أثبتت الحكومة الجديدة أن هؤلاء كانوا على خطأ. توقف حزب العدالة والتنمية عن التأكيد على الآيديولوجيا التي تركز على الإصلاحات الضرورية من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وتكرر الفوز الانتخابي الذي تحقق في عام 2002 مرة أخرى في عام 2007. عندما ارتفعت نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية إلى 41 في المائة، ثم في عام 2012 عندما فاز الحزب في ثالث انتخابات له بنسبة تقترب من 49 في المائة من الأصوات.
من جميع الجوانب، يثير سجل حزب العدالة والتنمية في الحكومة الإعجاب. في خلال عشرة أعوام، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي في تركيا ثلاث مرات. في مطلع القرن الجديد، كان متوسط الدخل في تركيا يبلغ أقل من 20 في المائة من متوسط الدخل في الاتحاد الأوروبي. وفي عام 2014، اقترب هذا الرقم من 70 في المائة. وفي الفترة ذاتها، ارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الاقتصاد التركي من 3.2 مليار دولار إلى أكثر من 120 مليار دولار. وبرزت الخطوط الجوية التركية، شركة الطيران الوطنية، كواحدة من أكبر الشركات في أوروبا حيث تربط بين أكثر من 200 موقع في أربع قارات. في عام 2014، وصل عدد الشركات التركية التي تدير أنشطتها في السوق العالمية إلى 15 ألف شركة. وبسرعة أكبر، نجحت تركيا في التخلص من التضخم المزمن، وحققت استقرارا في عملتها، وخفضت بحدة نسبة الدين العام. لم يتوقف نجاح حزب العدالة والتنمية عند الاقتصاد. بعد أن تبنت تركيا منهج تصفير المشاكل فيما يتعلق بعلاقاتها مع دول الجوار، استطاعت الحد من التوترات التي أفسدت سياستها الخارجية على مدار عشرة أعوام. بل واستطاعت الحد من توترات قضية قبرص، بعد أن كانت تستنزف الموارد التركية وكانت سببا لتشتيت الانتباه عما هو أهم منذ السبعينات. كما حقق حزب العدالة والتنمية إنجازات جيدة من خلال إدخال إصلاحات سياسية واجتماعية. ولكنه لم ينجح في إيجاد حل طويل الأجل لمشكلة الأكراد في تركيا.
في عام 2010، عندما بدأت أحداث الربيع العربي، ظهر ما عده البعض «النموذج التركي» الذي يقدم حلا لمستقبل الدول الإسلامية التي تجاهد من أجل التحول إلى الحداثة والديمقراطية. قال الرئيس غُل فيما يشبه المزحة إن تركيا لا ترغب في أن تكون «آخر ذئب في قطيع الذئاب»، بل أن تكون «قائدا لقطيع الحملان». وأكد غُل على أن تركيا لديها واجب تاريخي بتولي القيادة في الإسلام. وكأنه يردد ما قاله شوكت كازان، أحد مستشاري حزب العدالة والتنمية السياسيين الرئيسين؛ في خطاب ألقاه كازان في إسطنبول عام 1991. قال: «لقد قدنا العالم الإسلامي لمدة ألف عام. فهل نجحنا في اختبار القيادة؟».
في نهاية عام 2013. بدا وكأن تركيا على وشك دخول نادي القوى العالمية، لأول مرة منذ أربعة قرون، وكأنها تُكمل من حيث توقف سليمان العظيم. لم يكن إردوغان أول سياسي تركي تراوده أحلام الإمبراطورية العثمانية. في الثمانينات، تحدث جميل تشيتشيك، الذي كان، حينها، عضوا بارزا في حزب الوطن الأم برئاسة أوزال، عن «واجب تركيا التاريخي» بتولي قيادة «دخول الإسلام إلى العالم الحديث». ولم يتوقف ادعاء تشيتشيك بأحقية تركيا في هذا الدور عند الإشارة إلى الإمبراطورية العثمانية.

* إعادة تعريف تركيا
من أجل إعادة مكانة الإسلام في محور هذه العلاقة الجديدة، كان على إردوغان البدء بإعادة تعريف تركيا ذاتها. كانت الرابطة الكمالية على أفضل حال، ستسمح لتركيا بادعاء حقها في قيادة الشعوب الناطقة بواحدة من 18 لغة من اللغات «التركية» المتفرعة من اللغات الألطية. وبدا أن إردوغان مصمم على فعل ذلك بطريقتين:
أولا، شجعت أجندته الكثير من الأتراك على إعادة تعريف هوياتهم كأقليات. على سبيل المثال، اكتشف أقلية الليزجينيون، ووعد بالسماح لأفرادها بتعليم أولادهم بـ«لغتهم الأصلية». قد يمثل ذوو أصول الليزيجينية وغيرهم من أصحاب الأصول القوقازية (ومن بينهم ذوو أصول شركسية وقراتشية وأودمورتية وداغستانية)، نحو 20 في المائة من السكان. ولكن نسي هؤلاء جميعا، تقريبا، أصولهم وانصهروا في البوتقة الكبرى الممثلة في الهوية التركية. فما الهدف من التشجيع على إعادة ظهور هويات الأقليات؟ في الوقت ذاته، كان إردوغان يقدم القليل للأقليات التي استطاعت الحفاظ على هويتها على مدار العقود التسعة الماضية. وتشكل أهم هذه الأقليات، الأكراد، الذين يمثلون نحو 15 في المائة من السكان. وكما أشير من قبل، يدين حزب العدالة والتنمية بالفضل في انتصاراته الانتخابية المتتالية، بقدر ما، إلى الأكراد. من دون تصويت الأكراد، لم يكن باستطاعة حزب العدالة والتنمية حصد أكثر من 40 في المائة من الأصوات. لكن برنامجه قدم للأكراد القليل جدا. ربما يسمح لهم باستخدام لغتهم، ولكن غير مسموح لهم الكتابة بحروف أبجديتهم. وكذلك لا يستطيعون استخدام حروف غير موجودة في الأبجدية اللاتينية التركية ولكنها موجودة في الأبجدية الكردية. توجد أقلية حقيقية أخرى تحظى بالقليل هي الأقلية العلوية، التي قامت بدور الداعم الرئيس للعلمانية في تركيا. في حين يستخدم إردوغان موارد الدولة من أجل دعم الإسلام السني، لا يستطيع العلويون حتى الحصول على تصاريح بناء لإقامة دور عبادة خاصة بهم. أما الأرمن، فلا يحصلون على شيء، ولا حتى على وعد بإجراء تحقيقات نزيهة في مزاعم تعرضهم لإبادة جماعية في عام 1915. بل ومن المخطط هدم الكثير من المواقع التاريخية الأرمنية باسم «التجديد العمراني»، وبخاصة في إسطنبول، حيث دشن إردوغان مشروعا بقيمة مائة مليار دولار لإقامة «عاصمة عالمية»، تضم أكبر مطار وأطول برج تجاري في العالم.
العمود الثاني لاستراتيجية إردوغان، يقوم على إعادة تنشيط قاعدته الإسلامية. وفي هذا الإطار، تستحوذ مئات الجمعيات، التي يسيطر عليها الإخوان المسلمون، على المساجد والمواقع الدينية والممتلكات الوقفية المملوكة للدولة – مما يمنح لحزب العدالة والتنمية قاعدة نفوذ هائلة في جميع أنحاء تركيا. قد يتضمن برنامج الخصخصة المخطط، مئات من المليارات من الدولارات، حيث تتحول مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والمصانع والعقارات، في أكثر من 200 بلدة ومدينة، وبنوك، وشركات تأمين، وشركات نقل، وغيرها من الشركات المخصصة لأغراض دينية على مدار مائة عام مضت، من ملكية الدولة إلى ملكية خاصة.
يتخذ إردوغان من «ملاذكرد» شعارا للترويج لأجندته. تشير هذه إلى معركة وقعت بين سلطان السلاجقة ألب أرسلان والإمبراطور البيزنطي رومانوس في عام 1071، التي شهدت أول انتصار عظيم تحققه جيوش المسلمين ضد المسيحيين في آسيا الصغرى. وقعت هذه المعركة قبل قرون من وصول الأتراك العثمانيين إلى المنطقة قادمين من آسيا الوسطى. قبل كشف إردوغان عن «حزمة إصلاحاته» لإعادة تعريف تركيا باثني عشر شهرا، بدا وكأنه يتربع على قمة العالم، عالمه على الأقل. ولكن مع بداية عام 2014. يبدو وكأن إردوغان يكافح من أجل استمرار حياته السياسية، وأن «حلم الدولة العثمانية الجديدة» أصبح وهما. فما سبب هذا التحول المفاجئ؟ الإجابة قصيرة: الغطرسة. بعد أن أسكرته النجاحات التي حققتها تركيا في عشرة أعوام تحت قيادته، بدأ إردوغان يتصرف بطريقة مختلفة عن شخصيته المعهودة.
كان إردوغان يدين بالفضل في نجاحه الانتخابي، إلى قدرته على تعلم الدروس الأساسية من السياسة التركية الحديثة. عندما قابلته لأول مرة في إسطنبول في التسعينات، استغرق وقتا يدافع فيه بأن السبب الجذري لتأخر التنمية النسبي في تركيا وأزمتها السياسية الدائمة تقريبا، هو تصادم الآيديولوجيات. حَوّل الكماليون مؤيدو أتاتورك تراثه من دولة علمانية إلى آيديولوجيا جامدة تتجاهل التنوع الحتمي في مجتمع معقد مثل تركيا الحديثة. وعلى الجانب الآخر من الأطياف الآيديولوجية، عد المسلمون المتدينون أن الفصل بين المسجد والدولة اعتداء مباشر على دينهم.
نجحت طريقة إردوغان في التخلص من الأدلجة في تحقيق الاستقرار السياسي في تركيا (وعلى وجه التحديد منحتها حصانة من الانقلابات)، مما مهد الطريق أمام النمو الاقتصادي. وكما أشير من قبل، على مدار الأعوام العشرة الماضية، أعادت تركيا إحياء عملتها المنهارة، ووفرت أكثر من ثمانية ملايين فرصة عمل، وتراوحت معدلات النمو الاقتصادي ما بين 6 و7 في المائة، كما انضمت إلى مصاف الدول الصناعية الناشئة. الأهم من ذلك من وجهة نظر الكثير من الأتراك، استطاع إردوغان الحد من الفساد بدرجة كبيرة، بعد أن كان متفشيا في السياسة التركية.
ولكن في بداية عام 2011، بدأ إردوغان يتصرف بأسلوب مختلف. في حملة آيديولوجية واضحة، بدأ في عملية تطهير للجيش والشرطة الوطنية من الضباط غير المهتمين بالدين إن لم يكونوا معادين له، ليُعين محلهم ضباطا على صلات بحزب العدالة والتنمية. ثم شن حملة تطهير للقضاء بترقية قضاة إسلاميين محل العلمانيين. وكان هدفه التالي هو نخبة الأعمال الكبيرة التي تشكلت بدعم من الجيش على مدار عقود. وبدأ في منح تعاقدات حكومية مربحة إلى أشخاص على صلات بحزب العدالة والتنمية، وكما أظهرت الاكتشافات الأخيرة، إلى أفراد في عائلته وحزبه وحاشيته من الوزراء. وكان هدف إردوغان التالي هو الطائفة العلوية، التي تشكل 12 في المائة من السكان، وكانت دائما تدعم الجمهورية العلمانية. وبعد ذلك أفسد العلاقات الجيدة نسبيا التي أقامها مع الأكراد، أيضا، بمعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية.
وبداية من شهر سبتمبر عام 2013، أشارت استطلاعات الرأي إلى انخفاض بطيء، ولكنه مستمر، في التأييد الشعبي الذي يحظى به إردوغان وحزبه. وفي يناير (كانون الثاني) عام 2014، حصل إردوغان وحزب العدالة والتنمية على 39 في المائة فقط من أصوات الناخبين المحتملين، بعد أن كانت النسبة 48 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) 2013. ولعل الأمر الأكثر أهمية، هو أن غالبية كاسحة، 61 في المائة في يناير 2014، وافقت على رفع دعاوى قضائية ضد مئات من رجال الأعمال ومسؤولي الحكومة والوسطاء المتهمين في الكثير من قضايا الفساد، مع مزاعم بتورط أربعة أعضاء، على الأقل، في حكومة إردوغان وبعض من أفراد أسرته. كان رد إردوغان هو اتهام معارضين، لم يحددهم بالاسم، بالتآمر ضد حكومته، إلى درجة التخطيط لانقلاب عسكري. وفي يناير 2014، شن حملة تطهير واسعة للشرطة. كانت إحدى النتائج السلبية لفضيحة الفساد، هي تدهور العلاقات بين إردوغان وأحد أهم مؤيديه الإسلاميين فتح الله غولن. أنفق غولن، الذي يجمع بين زعامة جماعته على طريقة المافيا وكونه رجل أعمال، أموالا طائلة في تمويل حزب العدالة والتنمية، من خلال علاقاته في مجال الأعمال. لذلك يحمل قطع العلاقات مع غولن مخاطر دينية وتجارية بالنسبة لإردوغان. قرر إردوغان الجديد أو - كما يطلق عليه منتقدوه هنا - «إردوغان الحقيقي» الظهور.
بعد أن نجح في الترويج لذاته، بصفته قائدا يرفض التمسك بالانتماءات الآيديولوجية، أصبح أكثر قائد متشبث بآيديولوجيته تشهده تركيا الحديثة.
واليوم أصبح حلمه بحكم تركيا لمدة عشرين عاما أخرى يمثل كابوسا لمعظم الأتراك. ولكن قد يقرر الأسلوب الذي مهد به الساحة مسار السياسة التركية لجيل مقبل.

* انتخابات عالية المخاطر
تستعد تركيا، في الوقت الحالي لإجراء انتخابات المجالس البلدية والاستفتاء على الدستور، وربما تكون حتى أول انتخابات رئاسية مباشرة، أكبر المكاسب التي تحققت في العقد الماضي، معرضة للخطر. في الداخل، يتسع الشقاق داخل معسكر العدالة والتنمية، حيث تحرم فضائح الفساد الحكومة من أهم ما تتزين به. ويبدو أن إردوغان يعتمد بازدياد على جهاز الاستخبارات ورئيسه الغامض، هاكان فيدان، الذي يعزز مكانته كصاحب نفوذ من وراء الكواليس.
كما تُظهر تركيا مؤشرات على التراجع الاقتصادي. في يناير، أُجبرت الحكومة على مضاعفة سعر الفائدة لوقف التدافع على العملة الوطنية الليرة. وفي الوقت ذاته، انخفضت توقعات النمو الاقتصادي من متوسط 10 في المائة في العقد الماضي إلى ما يزيد على 6 في المائة فقط لعام 2014. وأشارت إحصائيات غير رسمية إلى صافي زيادة خروج رأس المال لأول مرة منذ عام 2004. يرجع قدر كبير من النمو الاقتصادي الملحوظ الذي حققته تركيا إلى الاستثمارات الأجنبية التي شجع عليها الاستقرار السياسي في البلاد. وقد يجف هذا المصدر الحيوي جراء مخاوف من احتمالية دخول تركيا في مرحلة صعبة في الحياة السياسية.
إن الأسباب الجذرية لمشاكل تركيا الحالية سياسية. ويرجع توقف محاولة تطوير هوية قومية جديدة تشمل الإسلام مع التفوق عليه، إلى قرار إردوغان بالعودة إلى دائرة ناخبيه الإسلاميين الضيقة. سواء شاء إردوغان أم أبى، أصبح الشعب التركي مُغربا إلى حد كبير، ولا يملك أي رغبة في إعادة تنظيم مظاهر حياته الأساسية وفقا للإسلام. ولكن في الوقت ذاته، لا تلقى محاولات محو الإسلام من الحياة التركية تماما سوى الفشل.
سيكون من الأفضل لحلفاء تركيا وجيرانها، ترك الخيارات مفتوحة أمامهم، مع الحفاظ على حوار مع جميع القوى الرئيسة المشتركة فيما يدور حاليا من خلاف سياسي، وصراع على السلطة. تقتضي الحكمة عدم استبعاد إردوغان وعلى الأقل حزب العدالة والتنمية.



«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.


الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
TT

الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)

تشكلت في الأسابيع الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا قناعة بأن تركيا لعبت الدور الأكبر في الوصول «السلس» لفصائل المعارضة إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتعزز ذلك مع دعم أنقرة السريع للإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتقديم نفسها بوصفها أحد «الرعاة الأساسيين» في مرحلة ما بعد الأسد.

كانت تركيا أول دولة ترسل مسؤولاً رفيع المستوى إلى سوريا للقاء الشرع في «قصر الشعب»، إذ زار رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، دمشق يوم 12 ديسمبر 2024، وتوجه للصلاة في الجامع الأموي، ليبدو أنه حقق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، عندما قال سينهار نظام الأسد بأسرع وقت و«سندخل دمشق ونصلي في الجامع الأموي».

وأوحت تصريحات لوزير الخارجية هاكان فيدان بأن تركيا هي من لعبت الدور الرئيسي في سقوط الأسد وفتح الطريق أمام الشرع إلى دمشق، عندما قال، بعد أيام قليلة، إن أنقرة أقنعت روسيا وإيران، خلال الاجتماع بصيغة «آستانة»، على هامش «منتدى الدوحة» في 7 و8 ديسمبر 2024 بعدم التدخل.

من وجهة نظر فيدان، كان «نظام بشار الأسد ضعيفاً للغاية خلال العامَين أو الأعوام الـ3 الماضية، مع مقاومة نسبية في بعض الأماكن، لكن المعارضة دخلت حلب دون إطلاق نار تقريباً. مع ذلك، لو كرر الروس والإيرانيون رد فعلهم في عام 2016، لكان الشعب السوري قد واجه خطر المزيد من إراقة الدماء والنزوح».

وعندما سُئل فيدان: «كيف أقنعتم روسيا بعدم الوقوف إلى جانب الأسد؟». أجاب بكلمة واحدة: «تحدثنا».

إسرائيل قصفت مطار حماة العسكري في مارس الماضي على خلفية تقارير عن استخدامه من جانب تركيا في نقل مواد لوجيستية ومعدات لإقامة قاعدة جوية في حمص (أ.ف.ب)

تقييم الحصاد

في 16 أغسطس (آب) 2025 عقدت مجموعة التنسيق بين المؤسسات التركية اجتماعاً برئاسة نائب وزير الخارجية نوح يلماظ، الذي أصبح الآن سفيراً لتركيا في دمشق، أُجريت خلاله مراجعة شاملة للعلاقات مع سوريا والخطوات التي ستُتخذ خلال الفترة المقبلة لتعزيزها وتنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في مختلف المجالات.

خلال الأشهر الـ8 الأولى بعد سقوط الأسد، وعبر تحركات مكثفة، كانت تركيا أول دولة تعيد فتح سفارتها في دمشق، إضافة إلى قنصليتها في حلب، كما وقعت في 12 أغسطس مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والتدريب والاستشارات.

وتحركت تركيا على المستوى الثنائي والإقليمي لدعم حكومة الشرع في مكافحة تنظيم «داعش»، وإقناع الولايات المتحدة بمنظور جديد يجعلها تتخلى عن دعمها لـ«قسد» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» (الكردية) عمودها الفقري، في السيطرة على شمال شرقي سوريا، بعد التحالف معها في الحرب على «داعش».

في هذا الإطار سعت تركيا إلى تشكيل تحالف يقوم على مبدأ «الملكية الإقليمية»، الذي يعني أن تقوم دول المنطقة بنفسها على حل مشاكلها دون تدخلات خارجية، وبدأت بالفعل جهوداً لتشكيل منصة خماسية تضمها مع كل من الأردن والعراق ولبنان إلى جانب سوريا، وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في عمان في 9 مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يسفر عن تأسيس آلية سعت إليها أنقرة.

نتيجة لذلك شكّلت تركيا آلية تنسيق مع سوريا عبر مركز عمليات مشترك في دمشق، لتأكيد دعمها للحكومة السورية في الحرب على «داعش».

وعقدت خلال الأشهر الـ10 المنقضية 3 اجتماعات لوزراء الخارجية والدفاع ورئيسي المخابرات في البلدين فضلاً عن الزيارات الثنائية المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وزيارات رئيس المخابرات التركية لدمشق، كما زار الشرع تركيا 3 مرات في الفترة بين فبراير (شباط) وأغسطس.

على الصعيد الاقتصادي، أعادت تركيا تشغيل جميع البوابات الحدودية مع سوريا، وتم توقيع بروتوكول في أنقرة يوم 5 أغسطس الماضي، لإنشاء لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، وبدء دراسة إنشاء مناطق صناعية، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر من جراء الحرب وتعزيز التجارة بينهما. كما أعاد البلدان الجاران تأسيس مجلس الأعمال المشترك، الذي توقف عن العمل في 2011.

وتقول تركيا إنها تهدف إلى تجاوز عتبة ملياري دولار في صادراتها إلى سوريا بنهاية العام الحالي، مستغلة الزخم في العلاقات التجارية بينهما. واتخذت خطوات جديدة لتسهيل وتسريع التجارة مع سوريا، وتم الاتفاق على أن تصبح حلب مركزاً لوجيستياً قوياً في الفترة المقبلة.

جانب من لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو 2025 (أ.ف.ب)

تنافس مع إسرائيل

في المقابل، تغيرت أهداف تركيا في سوريا عما كانت عليه خلال حكم بشار الأسد، فبعدما كانت تركز على تأمين حدودها مما تصفه بـ«تهديد (قسد)»، وإنشاء منطقة آمنة على حدودها الجنوبية بعمق يتراوح ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسعى اليوم إلى إزالة هذه المجموعة الكردية من المعادلة السورية، عبر ترك أسلحتها والاندماج في مؤسسات الدولة، وإقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لها عبر عرض قيام إدارة سورية جديدة بحراسة سجون «داعش»، ودعمها في هذا الأمر. وزادت على ذلك بالسعي لدى الولايات المتحدة لملء الفراغ، حال انسحاب القوات الأميركية.

لقد أظهرت تحركات تركيا في الواقع السوري الجديد سعيها لملء الفراغ العسكري من خلال العمل على إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية في وسط سوريا وعلى سواحلها عبر نموذج يشبه تدخلها في ليبيا بعد القذافي، كما تردد من خلال وسائل إعلام، والانفراد بأكبر دور في الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار والتدخل في جميع المجالات من الصحة إلى التعليم وغيرها، استكمالاً لما بدأته بالفعل منذ سنوات في شمال سوريا.

أثارت هذه التحركات قلق إسرائيل التي تخشى استبدال الوجود التركي بالوجود الإيراني في سوريا، وفرض أمر واقع جديد تكون فيه تركيا هي الضامن سياسياً وأمنياً، اعتماداً على علاقاتها القوية مع الإدارة الجديدة ومع فصائل معادية لها.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا في الرياض مايو الماضي (واس)

«نعم أخذتها»

وبدا أن تركيا نجحت في سباقها لإظهار دورها بوصفها «راعياً» تتشاور معه الإدارة السورية حول مستقبل البلاد، وبرزت بوصفها واحدة من أبرز القوى المهيمنة، وهو ما أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو (تموز) 2025.

قال ترمب إنه هنّأ إردوغان، في اتصال هاتفي بينهما، على «أخذه سوريا (...) وإنه كان يحاول النفي، ويقول إنه لم يأخذها، وإنه قال له إنك فعلت شيئاً عجز الآخرون عن فعله طوال ألفي عام، مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، وإنه (إردوغان) قال في النهاية نعم أخذتها».

وجاء موقف ترمب بعد متابعة حالة التنافس بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمخاوف المتبادلة بينهما التي دفعت إسرائيل إلى تدمير قواعد جوية ومطارات رئيسية، بينها مطار حماة العسكري، والقضاء على مقدرات الجيش السوري، مع تردد أنباء، بعد 3 أشهر من سقوط حكم الأسد، عن سعي تركيا إلى إقامة قواعد جوية في حمص، ما دفع تركيا وإسرائيل إلى إرساء قواعد اشتباك تمنع الصدام بينهما في سوريا خلال اجتماعات فنية في باكو توسطت فيها أذربيجان.

عرض ترمب على نتنياهو حل مشاكله مع تركيا إذا كان منطقياً في طلباته، لافتاً إلى علاقته الجيدة مع إردوغان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال، قبل مغادرة واشنطن، إن تركيا تريد إنشاء قواعد عسكرية في سوريا، وإنه يرفض إقامتها لأنها تُشكل خطراً على إسرائيل.

بدورها، تؤكد تركيا أن المسألة الرئيسية بالنسبة إليها وللولايات المتحدة هي ضمان ألا تشكل إسرائيل تهديداً لسوريا، وألا تكون سوريا مصدراً لتهديد أي طرف في المنطقة، وأن يحترم الجميع سلامة أراضي وسيادة بعضهم، بحسب ما قال وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي شارك في جانب من اجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بالبيت الأبيض في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.

وعبرت تركيا، أكثر من مرة، عن عدم انزعاجها للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب، مشددة على أن هدفها الأول هو وحدة أراضي سوريا وسيادتها.

ورد إردوغان، الذي التقى ترمب في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) الماضي، على تصريح أخير لنتنياهو، منذ أسابيع قليلة، قال فيه إن إسرائيل «أوقفت تركيا في سوريا»، مطالباً بالتركيز على ما تفعله تركيا بدلاً من التركيز على ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، مضيفاً: «نحن نفعل ما يلزم في إطار أولوياتنا الاستراتيجية، وسنواصل ذلك».

جانب من الاجتماع بصيغة «آستانة» لوزراء خارجية تركيا هاكان فيدان وروسيا سيرغي لافروف وإيران عباس عراقجي على هامش منتدى الدوحة في ديسمبر 2024 (الخارجية التركية)

شبح العقوبات

تحرص تركيا أيضاً على عدم البقاء بعيداً عن أي ملف يتعلق بسوريا، بما في ذلك رفع العقوبات، الذي بدأ بإعلان مفاجئ من ترمب، قال إنه بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، الذي شارك، عبر الهاتف في اجتماع بالرياض، في مايو (أيار) تمت فيه مناقشة رفع العقوبات.

وأكد إردوغان مواصلة تركيا دعمها لدمشق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «داعش»، واستعدادها لتقديم الدعم فيما يتعلق بإدارة وتأمين مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها عناصر «داعش»، لافتاً إلى أن قرار ترمب رفع العقوبات عن سوريا يحظى بأهمية تاريخية، وأن هذا القرار سيكون مثالاً للدول الأخرى التي فرضت عقوبات على دمشق، وأن فرص الاستثمار ستشمل مختلف المجالات في سوريا، بعد رفع العقوبات.

وسبق إعلان ترمب رفع العقوبات اجتماع ثلاثي لوزراء الخارجية التركي، هاكان فيدان، والولايات المتحدة، ماركو روبيو، وسوريا، أسعد الشيباني، على هامش «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في جنوب تركيا، في أبريل (نيسان) الماضي، لمناقشة تفاصيل تعهد ترمب بإسقاط العقوبات عن سوريا.

وتلقى فيدان دعوة لزيارة أميركا بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك في جانب من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 10 نوفمبر الماضي.

وعقد فيدان لقاءات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والسفير الأميركي في أنقرة المبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك، والعديد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاء مع الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ولقاء ثلاثي جمعه بالشيباني وروبيو.

وقال فيدان إنه تم خلال الاجتماعات تبادل وجهات النظر حول كيفية إدارة المناطق الإشكالية في شمال وجنوب سوريا، وفي أماكن أخرى، بشكل أفضل وكيف يمكن تنفيذ العمل على إلغاء «قانون قيصر»، وإن التركيز منصبّ حالياً على ما يمكن فعله لرفع العقوبات في إطار «قانون قيصر» بشكل كامل، لمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي.

وأشار إلى أن الشرع التقى أعضاءً في الكونغرس، وشدد على أهمية التصويت على إلغاء «قانون قيصر»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يتبنى نهجاً إيجابياً تجاه التعامل مع القضايا السورية.

الشرع وعبدي خلال توقيع اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية في دمشق 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

هاجس «قسد»

تعمل تركيا على استغلال حالة التشاور المستمر بشأن سوريا، في ضمان موقف أميركي داعم لتنفيذ الاتفاق الموقع بين الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، في دمشق 10 مارس الماضي، بشأن اندماجها في الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، الذي يفترض أن ينتهي تنفيذه قبل حلول نهاية العام الحالي.

وبعد 47 عاماً من الصراع المسلح، أطلقت تركيا مبادرة العام الماضي، لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، أسفرت عن دعوة زعيمه، السجين لديها، عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، إلى حله والتخلي عن الكفاح المسلح، والتحول إلى العمل الديمقراطي في إطار قانوني.

وتتمسك أنقرة بأن دعوة أوجلان تشمل جميع امتدادات حزب «العمال الكردستاني»، وأن «البنية الحالية لـ(قسد) تقوّض وحدة سوريا وتهدّد الأمن القومي لتركيا وتعرّضه للخطر»، وأنه لا يمكن حصر مسألة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا وحدها.

وتطالب «قسد» تركيا بعدم عدّ مؤسساتها العسكرية والإدارية والأمنية، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، تهديداً لها، لأنها «مؤسسات للسلام والأمن».

وعدّ قائد «قسد»، مظلوم عبدي، أن اتفاق 10 مارس مع الشرع شكل منعطفاً مهماً بإغلاق الطريق أمام محاولات تقسيم سوريا ومنع انزلاقها إلى حرب أهلية، وضمن الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد، لكنه أكد أنه «يجب أن تكون هناك سوريا لا مركزية، بحيث يتمكّن كل إقليم من إدارة نفسه».

وذهب الكاتب في صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، فاتح تشيكرجه، إلى أن أميركا تسعى لتأسيس «نموذج بارزاني» الذي أرسته في شمال العراق ضد إيران، في شمال سوريا، وأن الممر الذي يجري إعداده من العراق إلى سوريا يهدف إلى ذلك، وهو مطلب إسرائيلي أيضاً لمنع نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان والمنطقة المحيطة.

ولفت إلى أن تركيا لم تقبل في البداية بنموذج مشابه لـ«بيشمركة بارزاني»، وهي الآن تعد «قسد» الحليفة لأميركا، تنظيماً إرهابياً، لكنها يمكن أن تقبل الأمر بعد ذلك في شمال سوريا كما حدث في إقليم كردستان العراق.

الحال، أن تركيا ستواصل خلال المرحلة المقبلة السعي لترسيخ موقعها بوصفها أبرز قوة مؤثرة في إعادة تشكيل سوريا، مستفيدة من علاقتها الوثيقة بالإدارة الجديدة ودعم واشنطن المتزايد لدورها. ومن المتوقع أن تضغط أنقرة باتجاه استكمال دمج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية وتقليص أي حضور عسكري غير مرغوب فيه قرب حدودها. لكن التنافس مع إسرائيل والحضور الأميركي قد يحدان من قدرة تركيا على فرض رؤيتها بالكامل.