جان إيف لودريان وزير دفاع سعيد

لا يحب الأضواء وتغلب عليه نزعة التكتم والتواضع.. وحقق ما لم يحققه سابقوه في هذا المنصب

جان إيف لودريان  وزير دفاع سعيد
TT

جان إيف لودريان وزير دفاع سعيد

جان إيف لودريان  وزير دفاع سعيد

قد يكون من الصعب العثور على مسؤول حكومي رفيع المستوى في فرنسا ينعم بالسعادة بدءا برئيس الجمهورية فرنسوا هولاند ورئيس الحكومة مانويل فالس إذ إن الأول حطم الأرقام القياسية في انعدام الشعبية بينما الثاني ما زال يجرجر وراءه تبعات «الغلطة» السياسية التي ارتكبها مؤخرا.

فقد استخدم فالس طائرة حكومية من طراز فالكون للانتقال ذهابا وإيابا في التاسع من يونيو (حزيران) من مدينة بواتيه (وسط) إلى مدينة برلين وبالعكس لحضور مباراة كرة القدم لنادي برشلونة، المدينة التي ولد وترعرع فيها رئيس الحكومة الفرنسية. وما فاقم من صدى الغلطة أن فالس اصطحب ابنيه لرؤية المباراة، وبالنظر إلى الضجة التي أثارتها هذه الرحلة في زمن التقشف العمومي، فإن فالس اضطر ليدفع من جيبه قيمة بطاقتي السفر لابنيه ما لم يحل دون تدهور شعبيته إلى مستويات لم يعرفها سابقا.
ووضع الوزراء ليس أفضل حالا. فما بين وزير داخلية يتخبط في تبرير العجز عن وضع حد للاعتداءات الإرهابية المتكررة على الأراضي الفرنسية ووزيري الاقتصاد والعمل اللذين استنفذا كل التبريرات «المقنعة» لتفسير استمرار ارتفاع وتيرة البطالة وتأخر تحقيق الوعود الانتخابية التي أغدقت على الفرنسيين، ناهيك بوزير للمالية غارق في الأزمة اليونانية، كل ذلك يرسم صورة سريعة لمعنويات الوزراء الأساسيين في الحكومة الفرنسية. لكن وسط هذا المشهد السوداوي، تبرز صورة وزير لا يحب الأضواء وتغلب عليه نزعة التكتم والتواضع. ومع ذلك، هو وزير سعيد. ومبرر سعادته أنه حقق ما لم يحققه سابقوه في هذا المنصب ولأنه يعتبر أن إنجازاته لا تساعد فقط على تعزيز صورة بلاده وحضورها في الخارج بل تساهم كذلك في دعم الاقتصاد الوطني والتجارة الخارجية وخلق فرص عمل وتمكين الصناعات الدفاعية في بلاده من التنافس في الأسواق الخارجية. إنه وزير الدفاع جان إيف لودريان الذي بان الارتياح عليه وهو يتنقل بين أجنحة معرض باريس للطيران ويتوقف طويلا في الجناح المخصص لشركة داسو للصناعات الجوية.

وزير الدفاع الفرنسي رجل سعيد

خلال السنوات الثلاث التي أمضاها لودريان في وزارة الدفاع أتيحت الفرصة لـ«الشرق الأوسط»، أن تعايشه عن قرب خصوصا في بعض الرحلات التي يقوم بها بشكل شبه دوري إلى منطقة الخليج. والكثير من هذه الزيارات كان سريعا ويتم بعيدا عن الأضواء الإعلامية. ذلك أن الرجل ذا الأصول الاجتماعية المتواضعة للغاية يحب العمل بصمت ويكره التصريحات الرنانة التي تتردد أصداؤها في الفراغ. وأثبت ذلك بأنه نجح في إعادة فرنسا إلى مصاف اللاعبين الأساسيين في المبيعات الدفاعية. ولعل أبرز نجاحات لودريان هو تحقيق أولى الإنجازات الخارجية لطائرة رافال الفرنسية المقاتلة التي لم تجد بعد ما يزيد على عشرين عاما على إطلاق برنامجها زبونا خارجيا. والحال، أن عام 2015 حمل للشركة المصنعة «شركة داسو للصناعات الجوية» المن والسلوى مع توقيع ثلاثة عقود في زمن قياسي؛ حيث كانت الفاتحة مع مصر ثم جاء دور الهند وأخيرا قطر. ويبدو أن المفاوضات مع الإمارات العربية المتحدة تسير في الاتجاه السليم ولا تستبعد الأوساط الدفاعية الفرنسية أن يتم الإعلان عن عقد جديد «في الأسابيع المقبلة».
كثيرون يتساءلون عن «سر» نجاح لودريان حيث فشل الآخرون. وكثيرون يرون أنه مهيأ لوظائف أخرى مع نهاية العام الحالي؛ إذ إن اسمه مطروح في دوائر القرار وزيرا للخارجية خلفا للوزير الحالي لوران فابيوس الذي يبدو أنه سيترك الخارجية للالتحاق بالمجلس الدستوري رئيسا. لكن آخرين يرون العكس ويؤكدون أن لودريان يرنو إلى العودة إلى ما كان يقوم بع في السابق أي العمل المحلي في مقاطعة بروتاني (غرب فرنسا) التي يتحدر منها. لكن الأكيد أن لودريان سيستجيب لما يطلبه منه الرئيس هولاند وهو الوزير الأقرب إليه من بين كافة وزرائه. وفيما المناخ السياسي العام في فرنسا يدفع إلى الاعتقاد بأن حظوظ هولاند للترشح لولاية جديدة والفوز بها ستكون ضعيفة للغاية بالنظر لشعبيته المتدنية وصعوبة الأوضاع الاقتصادية وغياب النتائج الملموسة للعمل الحكومي على جبهة البطالة، فإن لودريان يرى العكس ويؤكد أن الرئيس الحالي سيكون أفضل مرشح لليسار في الانتخابات الرئاسية القادمة التي ستجرى ربيع عام 2017.
يعود أول لقاء بين لودريان وهولاند لعام 1979. ومنذ 36 عاما، لم يبتعد الأول قيد أنملة عن الثاني. وعندما أعلن هولاند عن عزمه خوض الانتخابات الداخلية للحزب الاشتراكي لتعيين مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية ومواجهة الرئيس ساركوزي الراغب في ولاية جديدة، كان لودريان من أوائل المسؤولين الاشتراكيين الذين أعلنوا تأييدهم لهولاند. وقبل ذلك بخمس سنوات، وقف لودريان إلى جانب سيغولين رويال، رفيقة درب هولاند ووزيرة البيئة في الحكومة الحالية ودعمها في مواجهة مسؤولين من «الوزن الثقيل» في الحزب الاشتراكي وهما وزير الخارجية الحالي فابيوس ومدير صندوق النقد الدولي والوزير السابق دومينيك شتروس خان الذي أخرجته فضائحه الجنسية من ميدان السباق السياسي. ويبين كل ذلك ولاء سياسيا مطلقا لهولاند الذي كلفه بالشق الدفاعي والعسكري خلال حملته الرئاسية. ولهذا الغرض، عمد لودريان الذي كان عضوا في لجنة الدفاع في مجلس النواب الفرنسي ومهتما منذ زمن بعيد بالشؤون العسكرية والتسليح إلى تشكيل «مجموعة عمل» حضرت الجانب الدفاعي في برنامج المرشح الاشتراكي الأمر الذي أهله بطبيعة الحال ليكون وزيرا للدفاع منذ حكومة هولاند الأولى. وبقي في منصبه في الحكومات المتتالية. وبما أن الرئيس الفرنسي بحسب دستور الجمهورية الخامسة هو القائد الأعلى للجيوش الفرنسية وهو حامل حقيبة السلاح النووي، فإنه بحاجة إلى وزير دفاع مقرب منه ويستطيع الاعتماد على ولائه المطلق. وبالطبع، هذه الصفات تنطبق كلها على لودريان.
عندما يقال في فرنسا إن «مدرسة الجمهورية» هي بمثابة «المصعد» الذي يوفر لجميع المتمتعين بالكفاءة وسائل النجاح والتحليق، فإن هذا الحكم ينطبق بشكل كامل على جان إيف لودريان المولود في عائلة متواضعة (والده كان تاجر قطع سيارات وأمه عاملة في مصنع للخياطة) في الثلاثين من يونيو عام 1947 في مدينة لوريان، الواقعة على المحيط الأطلسي غرب فرنسا والتي يبلغ تعداد سكانها نحو ستين ألف نسمة تزداد أعداهم كثيرا في موسم الصيف. ولوريان معروفة بأحواضها لصناعة البوارج الحربية بما فيها الغواصات والسفن التجارية. وقد عرفت هذه الصناعات أزمات متلاحقة بسبب تراجع دفتر الطلبيات الخارجية وتناقص الميزاينة الدفاعية في الداخل. وبما أن لودريان شغل منصب رئيس بلدية لوريان بلا انقطاع من عام 1981 إلى عام 1998، فإنه يعرف تماما أهمية أن تكون للصناعات الحربية الفرنسية على أنواعها أبواب للأسواق الخارجية الأمر الذي أفاده، بلا أدني شك، في مهمته وزيرا للدفاع في حكومة اشتراكية لا تجد غضاضة في التسويق للأسلحة الفرنسية في الشرق الأوسط والهند وباكستان وأفريقيا وأماكن أخرى في العالم. ومن الواضح أن «النظرية الاشتراكية» لحقها الكثير من التغير منذ وصول أول رئيس اشتراكي إلى قصر الإليزيه (فرنسوا ميتران) في عام 1981. ويروى أن ميتران طلب من معاونيه، لدى أول زيارة قام بها لمعرض الطيران في لوبورجيه ألا تعرض أسلحة خلال زيارته للمعرض.
قبل أن «يصعد» لودريان إلى باريس ويحتل أول مركز وزاري في عام 1991، كان اسمه قد برز في لوريان ومقاطعة بروتاني على صعيد الحزب الاشتراكي واليسار بشكل عام. لودريان انضم إلى هذا الحزب في عام 1974 بعد أن استمع لخطاب ناري لأمينه العام فرنسوا ميتران. وفي سن الثلاثين انتخب نائبا عن مدينة لوريان التي أصبح رئيسا لبلديتها في عام 1981. ونجح في الاحتفاظ بمنصبه النيابي 13 سنة متواصلة. وبعد ذلك رأس مجلس مقاطعة بروتاني وكان أول سياسي اشتراكي يحتل هذا الموقع الاستراتيجي على الصعيدين السياسي والانتخابي.
يروي لودريان أن الرئيس ساركوزي اتصل به عقب انتخابه في عام 2007 وعرض عليه، في إطار سياسة الانفتاح على اليسار التي اتبعها، أن يعينه وزيرا للدفاع في أولى حكوماته. لكن الوزير الحالي رفض العرض. وبعد خمس سنوات، تسلم هذه الحقيبة من «صديقه» فرنسوا هولاند ليجد الكثير من الملفات بانتظاره.
تكمن مشكلة أي وزير دفاع في فرنسا في قدرته على أن يكون مسموع الصوت لدى رئيس الجمهورية ووزير المالية، خصوصا في زمن ضغط النفقات وخفض الميزانيات الدفاعية. ومنذ احتلاله مكتبه القائم فيما يسمى «هوتيل دو بريين» الواقع في شارع سان دومينيك في الدائرة السابعة من باريس، وجد لودريان أمامه ملفات ساخنة أولها تحقيق انسحاب القوات الفرنسية من أفغانستان قبل نهاية عام 2012 مستبقا بذلك مواعيد انسحاب قوات الحلف الأطلسي والقوات الحليفة الأخرى. وعلى المستوى الداخلي، كان عليه أن يتنكب لإصدار «الكتاب الأبيض» الجديد الخاص بالنظرية الدفاعية الفرنسية وأهداف العمل العسكري ثم قانون البرمجة العسكرية للفترة الممتدة من عام 2014 إلى عام 2019. ومما كان عليه أن يتولى إدارته التدخل العسكري الفرنسي في مالي بداية عام 2013 ثم التدخل العسكري الفرنسي في أفريقيا الوسطى نهاية العام نفسه. وما بين التاريخين، طلب من لو دريان أن يحضر القوات الجوية الفرنسية للقيام بعمليات عسكرية ضد قوات النظام السوري عقب استخدامها الأسلحة الكيماوية في شهر أغسطس (آب) في الغوطتين الشرقية والغربية الأمر الذي أسفر عن مقتل 1400 شخص. لكن تراجع الولايات المتحدة الأميركية والرئيس أوباما في اللحظات الأخيرة ألغى التحضيرات الفرنسية. كذلك كان لودريان مهندس عملية إعادة انتشار القوات الفرنسية وتموضعها في أفريقيا وتوجيهها لمحاربة المنظمات الإرهابية فيما يسمى بلدان الساحل ثم إرسال الطائرات الفرنسية للمشاركة في التحالف الدولي الذي ظهر في شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي لضرب تنظيم داعش. لكن عمل الطائرات الفرنسية بقي محصورا في الأهداف العراقية.
في هذه المهمات الصعبة، أصاب لودريان النجاح كما تمكن من إقناع الرئيس هولاند بالمحافظة على ميزانية القوات المسلحة الفرنسية التي تكاثرت مهامها بما فيها نشر نحو عشرة آلاف جندي في إطار عمليات مكافحة الإرهاب داخل الأراضي الفرنسية. بموازاة ذلك، عمد لودريان لدفع المبيعات الدفاعية الفرنسية إلى الأمام. وبحسب الأرقام التي تم الكشف عنها، فإن قيمة الطلبات المؤكدة التي حصلت عليها فرنسا لعام 2014 بلغت 8.2 مليار يورو ما يمثل ارتفاعا نسبته 16 في المائة قياسا بعام 2013 الذي كان بدوره قد شهد ارتفاعا بنسبة 43 في المائة. أما بالنسبة للعام الحالي، فإن دفتر الطلبات يسجل أرقاما نادرا ما عرفتها الصناعات الدفاعية الفرنسية بفضل ثلاثة عقود رئيسية لتصدير طائرات رافال المقاتلة: 24 طائرة وفرقاطة حديثة لمصر، 36 طائرة رافال للهند و24 طائرة لقطر فضلا عن مبيعات دفاعية للبنان بقيمة 3 مليارات دولار هي قيمة الهبة السعودية للبنان ليشتري بها أسلحة فرنسية.
لماذا نجح هولاند ولودريان حيث أخفق الآخرون؟ الأسباب كثيرة، منها على علاقة بـ«المنهج» الذي اختطه الرجلان البعيد كل البعد عن الإعلانات المتسرعة والقائم على توفير أرضية سياسية للبناء عليها في مجال المبيعات الدفاعية. وفي هذا السياق، لا شك أن سياسة باريس إزاء الملفات الإيرانية والسورية واليمنية والحرب على الإرهاب كان لها دور في «تسهيل» حصولها على عقود دفاعية لا تنحصر فقط بالرافال. وبذلك تكون باريس قد استفادت من «تراجع» الدور الأميركي وسعي دول الخليج لتوفير شركاء آخرين. ومن الأسباب أيضا أن هولاند ولودريان وزعا المهمات حيث الجانب السياسي تتولاه الحكومة (وزارة الدفاع) فيما الجانب الإجرائي والفني يعود التفاوض بشأنه للشركات المعنية. وبعد أن كان ساركوزي قد أنشأ في قصر الإليزيه خلية مسماة «war room» مهمتها الاهتمام بالمبيعات الدفاعية، أرجع هولاند الصلاحيات إلى المستوى الحكومي ولكن من غير تخليه عن متابعتها. ثم إن لودريان اعتمد طريقة بناء الثقة مع نظرائه والطريق إلى ذلك القيام بزيارات متلاحقة والعودة إلى الملف عينه كلما حانت الفرص.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.