كشف مقرب من الحوزة الدينية في النجف أن القرار المفاجئ الذي اتخذه مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، بالانسحاب من العملية السياسية «لم يكن بسبب الموافقة بـ(نعم)، أو (لا) على قانون التقاعد الموحد، وإنما هناك ما هو أهم بكثير من ذلك».
وكان الصدر قد أعلن في ساعة متأخرة من مساء أول من أمس، وبصورة مفاجئة، انسحابه من العملية السياسية وحل تياره وغلق جميع مكاتبه والتبرؤ من وزرائه في الحكومة ونوابه في البرلمان. وقال الصدر، في بيان: «أعلن إغلاق جميع المكاتب وملحقاتها وعلى الأصعدة كافة، الدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها، ولا يحق لأحد تمثيلهم والتكلم باسمهم والدخول تحت عنوانهم مهما كان سواء كان داخله أم خارجه». وأضاف الصدر: «أعلن عدم تدخلي بالأمور السياسية عامة، وأن لا كتلة تمثلنا بعد الآن ولا أي منصب في داخل الحكومة وخارجها ولا البرلمان»، محذرا من «يتكلم خلافا لذلك بأنه قد يعرض نفسه للمساءلة الشرعية والقانونية».
وأوضح زعيم التيار الصدري أن قراره جاء من «المنطلق الشرعي وحفاظا على سمعة آل الصدر الكرام (...) ومن منطلق إنهاء كل المفاسد التي وقعت أو التي من المحتمل أن تقع تحت عنواننا وعنوان مكتب السيد الشهيد في داخل العراق وخارجه، ومن باب إنهاء معاناة الشعب كافة، والخروج من إشكال السياسة والسياسيين». وتابع الصدر أن «المؤسسات الآتية ستبقى على حالها، تحت إدارتي المباشرة أو من خلال لجنة أعينها شخصيا من دون غيرها من المؤسسات».
وفي الوقت الذي أعلن فيه عدد من نواب التيار الصدري تأييدهم لقرار الصدر بإعلان استقالاتهم من البرلمان، أكد الأستاذ في الحوزة الدينية بالنجف، حيدر الغرابي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «السيد مقتدى الصدر لم يكن يريد أول الأمر دخول العملية السياسية، لكن ضغوطا مورست عليه من عدد كبير من رجال الدين في النجف وقم، وقبِل ذلك ولكن بشروط؛ من أهمها خدمة الصالح العام وخدمة المجتمع العراقي بكافة أطيافه»، مشيرا إلى أن «ذلك تجسد من خلال استيعاب التيار الصدري لفئات مختلفة من الشعب العراقي بمن فيهم السنة، وقد اعتبره كثير من علماء السنة ورجالاتهم الكبار صمام أمان على صعيد العلاقة بين الشيعة والسنة وهو ما جاء حتى على لسان حارث الضاري». وأضاف الغرابي: «لكن مسيرة السنوات الماضية بدأت تفرز تداعيات ليست في صالح المجتمع لأسباب كثيرة؛ في المقدمة منها فشل العملية السياسية على كل الأصعدة وصولا إلى الانتخابات المقبلة التي بدأت تتضح بعض المؤشرات التي بات السيد الصدر يراها غير صحيحة». وأكد أن «موضوع قانون التقاعد والامتيازات ليست أكثر من ذريعة كان الصدر يحتاج إليها لكي ينسحب، لأن الحقيقة التي لا يعرفها أحد هي أن هناك جهات حوزوية في قم والنجف بدأت تدعم الولاية الثالثة للمالكي وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا من قبل الصدر». وتابع الغرابي قائلا إن «الصدر يرى أن هذا ليس ما وعد به العراقيين، لأن حكم (رئيس الوزراء نوري) المالكي طوال السنوات الثماني الماضية كان حكم أزمات، وبالتالي، فإنه لا يريد أن يكون شاهد زور على المستقبل».
وعلى صعيد تداعيات قرار الصدر باعتزاله العمل السياسي، دعا مكتبه الخاص إلى تصفية الأمور المالية والإدارية الخاصة بمكاتبه. وقال بيان للمكتب إنه «على المؤسسات والمكاتب والمراكز التابعة لمكتب السيد الشهيد الصدر كافة المشمولة بمضمون بيان مقتدى الصدر، الاستعداد لتصفية جميع أمورها الإدارية والمالية وذلك من قبل لجنة خاصة سيعلن عنها لاحقا».
وكان عدد من نواب التيار الصدري قد أعلنوا تضامنهم مع زعيمهم، معلنين في بيانات رسمية استقالاتهم من البرلمان وعدم ترشحهم للانتخابات البرلمانية المقبلة؛ وهم كل من: مها الدوري، ومشرق ناجي، وحسين هميم، وإيمان الموسوي، وزينب الطائي، وحسين الشريفي. ويتمثل التيار الصدري في البرلمان بـ40 نائبا، من أصل 325، وفي الحكومة بستة وزراء، أبرزهم وزير التخطيط علي شكري، إضافة إلى منصب النائب الأول لرئيس مجلس النواب الذي يتولاه قصي السهيل.
* مقتدى الصدر.. قرارات بالاعتزال وعودة تحت «ضغط جماهيري» دخل منذ 2011 في صراع مع المالكي
* حتى عند اغتيال والده المرجع الشيعي البارز، محمد محمد صادق الصدر، عام 1999 من قبل الاستخبارات العراقية على عهد صدام حسين لم يكن قد بزغ نجم الشاب مقتدى الصدر الذي أصبح الوريث الوحيد لتراث والده وعمه محمد باقر الصدر.
برز اسم مقتدى الصدر، المعروف عنه بحسب مقربين منه أنه سريع الغضب وقليل الابتسام، في عام 2003 بعدما أسس وحدات مسلحة تضم عشرات الآلاف من الشبان الشيعة تحت اسم «جيش المهدي». وسرعان ما خاضت هذه الميليشيا تمردا ضد القوات الأميركية في النجف في أغسطس (آب) 2004، قتل فيه ما لا يقل عن ألف من أنصار الصدر، الذي اعتبرته وزارة الدفاع الأميركية في عام 2006 من أكبر التهديدات التي تعيق استقرار العراق. وحسب وكالة الصحافة الفرنسية، أشرف مقتدى الصدر على المعارك مع الأميركيين بنفسه، وقد أصيب بجروح في يده في قصف أميركي على مقبرة وادي السلام في النجف.
في أواخر عام 2006، توارى الصدر عن الأنظار ولم يعرف مكان إقامته حتى عودته إلى حي الحنانة في النجف، حيث مقر إقامته، في بداية عام 2011، ليتبين لاحقا أنه أمضى أكثر من أربعة أعوام في مدينة قم الإيرانية لمتابعة دروس في الحوزة العلمية.
وظهر الصدر، الذي يكثر من استخدام كلمة «حبيبي» التي ورثها عن أبيه، وجملة «إذا صح التعبير»، للمرة الأولى بعد ذلك خلال زيارته إلى تركيا عام 2009 التي تلتها زيارتان لسوريا وأخرى للبنان.
ورغم ذلك، خاض جيش المهدي الذي كان يعتبر الجناح العسكري لتيار الصدر معارك قاسية مجددا مع القوات الأميركية والحكومية العراقية ربيع عام 2008 في البصرة ومدينة الصدر، قبل أن يأمر مقتدى الصدر في أغسطس (آب) 2008 بحل «جيش المهدي».
وبعد عودته إلى العراق، وانسحاب القوات الأميركية من البلاد نهاية 2011، دخل مقتدى الصدر في نزاع سياسي طويل مع رئيس الوزراء نوري المالكي الذي يحكم البلاد منذ عام 2006، حيث نعته بـ«الكذاب»، و«الديكتاتور».
وكان مقتدى الصدر في منتصف 2012 أحد أبرز السياسيين العراقيين الذين عملوا معا على الإطاحة برئيس الوزراء، المدعوم من طهران وواشنطن، عبر سحب الثقة منه في البرلمان، من دون ان ينجحوا في ذلك. وبعد فشل هذا المسعى، ابتعد الصدر صاحب العمامة السوداء، واللحية الكثة، والذي دائما ما يوبخ مساعديه بشكل علني، شيئا فشيئا عن العمل السياسي، وقلل من ظهوره الإعلامي، وصب تركيزه على متابعة دروسه الدينية في العراق وإيران.
وقد وصل مقتدى الصدر الذي يسعى لبلوغ مرحلة الاجتهاد التي تمهد له الطريق ليصبح مرجعا، إلى مرتبة البحث الخارجي، التي تعرف أيضا بمرحلة الدراسات العليا، وهي آخر مراحل الدراسات في الحوزة العلمية لدى الشيعة.
أعلن الصدر أكثر مرة انسحابه ومن ثم عودته ثانية. وليس بوسع أحد التكهن اليوم بما إذا كان قراره الأخير نهائيا أم أنه سيخضع مجددا للضغوط الجماهيرية والدينية في الأيام المقبلة، علما بأنه يتمتع بشعبية هائلة في أوساط فقراء الشيعة وخصوصا في مدينة الصدر ذات الكثافة السكانية العالية في بغداد، وقد ورث هذه الشعبية عن والده.