قبل ما يزيد على الشهر قليلاً، أنجزت فرنسا سحب قوة «برخان» من مالي، بعد توتر علاقاتها مع المجلس العسكري في باماكو الذي وصل إلى السلطة بعد انقلابين عسكريين حصلا في عامي 2020 و2021. واعتبر الخروج العسكري الفرنسي من مستعمرتها السابقة بمثابة فشل ذريع لباريس، إذ إنه حصل بعد ثماني سنوات من العمل إلى جانب القوات المالية في محاربة التنظيمات الإرهابية.
إلا أن السلطات الفرنسية لم تجد حلاً آخر، وعلّلت انسحاب «برخان»، ولكن أيضاً قوة «تاكوبا» التي تشكلت من مجموعات كوماندوس أوروبية بصعوبة «التعايش» بينها وبين ميليشيا «فاغنر» الروسية، التي استعانت بها السطات الجديدة في باماكو.
والمحصّلة أن باريس أصبحت، اليوم، خارج مالي، وأن النفوذ الفرنسي انكمش إن لم يكن قد اضمحلّ تماماً.
وكانت فرنسا تتخوف من أن تشكل الصفعة التي تلقّتها في باماكو «سابقة» تستنسخ في دول الساحل الأخرى، حيث الشعور المعادي لها يتنامى، وخصوصاً في النيجر وبوركينا فاسو. ومؤخراً، وبمناسبة المؤتمر السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم، اتهم الرئيس إيمانويل ماكرون روسيا بأنها تقوم بـ«حرب هجينة» ضد المصالح الفرنسية في أفريقيا، وأنها تتعمد التضليل الإعلامي وتزييف الواقع واستثارة شبكات التواصل الاجتماعي وبعض الوسائل الإعلامية لتلطيخ صورة فرنسا وتحميلها، بوصفها القوة المستعمرة السابقة، مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وما كانت تتخوف منه باريس آخذ بالتحقق في بوركينا فاسو، ونقاط التشابه بين ما عرفته مالي خلال العامين الماضيين، وما يحصل في واغادوغو، منذ يوم الجمعة الماضي، يأتي بالدليل القاطع على تراجع النفوذ الفرنسي أيضاً في بوركينا فاسو التي كانت بدورها مستعمرة فرنسية، ولم تحصل على استقلالها إلا في عام 1960. وترابط في بوركينا فاسو، وتحديداً في مدينة كامبوينسين الواقعة على مسافة ثلاثة كيلومترات من العاصمة، قوة من الوحدات الفرنسية الخاصة البالغ عددها حوالي 400 رجل، في إطار ما يسمى عملية «سابر» (أي السيف)، ومهمتها تدريب القوات الخاصة المحلية والمشاركة في الحرب على التنظيمات الإرهابية التي ضاعفت أنشطتها في بوركينا فاسو، خصوصاً في شمال وشمال شرق البلاد وفيما يسمى «الحدود المثلثة» مع النيجر ومالي.
وقبل ساعات قليلة من حصول المحاولة الانقلابية، نزل عدة مئات من المتظاهرين للمطالبة برحيل الكولونيل بول هنري داميبا الذي وصل الى السلطة بعد انقلاب عسكري بداية العام الحالي، لما اعتبروه فشلاً ذريعاً في الوقوف بوجه التنظيمات الإرهابية.
إلا أن المتظاهرين طالبوا كذلك بوضع حد للوجود العسكري الفرنسي في واغادوغو، وفي كل منطقة الساحل، وإقامة تعاون عسكري مع روسيا التي رفع بعض المتظاهرين عَلَمها.
وجاء، في بيان لاحق أدلى به الكابتن إبراهيم تراوري، أن الانقلابيين «عازمون على التوجه إلى شركاء آخرين على استعداد للمساعدة في مكافحة الإرهاب»، ما يعني ضمناً أن القوة الفرنسية المرابطة في واغادوغو؛ إما أنها لا تقدم الدعم بعكس ما تدّعي باريس، وإما أنها عاجزة عن ذلك.
تجدر الإشارة إلى أن استعانة باماكو بميليشيا «فاغنر» استند إلى التبريرات نفسها، بل إن وزير خارجية مالي اتهم باريس بـ«مساعدة الإرهابيين» والتخلي عن بلاده.
بيد أن ما حصل، يومي السبت والأحد، من استهداف للسفارة الفرنسية وللمعهدين الفرنسيين في العاصمة وفي مدينة بوبو ديولاسو (غرب البلاد) وإضرام الحرائق واضطرار القوة الفرنسية التي تحمي السفارة لإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين- يبين كم أن وضع فرنسا وصورتها قد تدهورا في بلد «الرجال العصاميين»، وهو ما يعنيه اسم بوركينا فاسو باللغة المحلية.
وكانت وزارة الخارجية الفرنسية قد سارعت إلى إصدار بيان تنفي فيه نفياً قاطعاً أن يكون الكولونيل داميبا قد لجأ إلى قاعدتها العسكرية.
وكذبت الناطقة باسم الخارجية، آن كلير لو جوندر، الشائعات التي تدّعي أن فرنسا قدمت المساعدة له، أو أنها لعبت أي دور في مجريات الأحداث.
ويبدو أن الانقلابيين الجدد تراجعوا عن اتهاماتهم السابقة لباريس، وقال الكابتن إبراهيم تراوريه، لقناة «فرانس 24» الإخبارية، إنه «لا يعتقد أن فرنسا ستساعد الكولونيل داميبا في تدبير هجوم معاكس» لاستعادة السلطة. وأضاف تراوريه أنه «يعلم أن فرنسا لا تتدخل مباشرة في شؤون بوكينا فاسو، وأن لا شرعية لها في ذلك». وفي رأيه، فإن لواغادوغو القدرة على أن يكون لها شركاء آخرون، ذاكراً منهم الولايات المتحدة، وأيضاً روسيا.
وأكد الرغبة في «تعزيز العلاقة» مع روسيا والاستعداد للتعامل «مع كل من يرغب في مساعدتنا» في محاربة الإرهاب.
وكان لافتاً أنه، حتى عصر الأحد، بقي رد الفعل الفرنسي محصوراً بالناطقة باسم الخارجية، وأن باريس لم تعلق على ما يحصل في واغادوغو، وأن أول تصريح صدر عنها جاء عقب استهداف السفارة والمعهدين الثقافيين التابعين لها.
وقال دبلوماسي سابق إن باريس لم تعلق على تطورات الوضع في واغادوغو؛ لسببين: الأول، حرصها على ألا تظهر بمظهر من يتدخل في الشؤون الداخلية لبوركينا فاسو، ومن ثم استثارة المشاعر المعادية لها. والثاني أنها تنتظر اتضاح الصورة، وحتى لا تتكرر معها تجربتها المُرة في مالي.
وبالفعل، بينما تكاثرت البيانات المندِّدة بالمحاولة الانقلابية، فإن باريس بقيت صامتة وحمَت نفسها بالوقوف وراء مجموعة غرب أفريقيا الاقتصادية التي أصدرت بيانين متشابهين يتضمنان «إدانة شديدة» لمحاولة السيطرة على السلطة بقوة السلاح، و«تمسكها الراسخ» بما توصلت إليه قمتها بداية شهر يوليو (تموز) الماضي مع السلطة العسكرية في واغادوغو من أجل العودة إلى النظام الدستوري في الشهر نفسه من العام المقبل.
وفي المقابل، فإنها أكدت حرص باريس على سلامة المواطنين الفرنسيين في بوركينا فاسو، البالغ عددهم خمسة آلاف، وعلى المحافظة على أمن المقارّ الدبلوماسية الفرنسية.
يبدو واضحاً، اليوم، بالنسبة لكثيرين، وبغض النظر عن نجاح الانقلاب في بوركينا فاسو الأخير أو فشله، أن وضع فرنسا في منطقة الساحل وغرب أفريقيا لم يعد مريحاً وأنها بصدد خسارة موقعها السابق كدولة شبه مهيمنة على مستعمراتها السابقة.
وكان الرد الفرنسي، كما برز إبان الجولة الثلاثية التي قام بها ماكرون، نهاية يوليو الماضي، إلى الكاميرون وبينين وغينيا بيساو، أن باريس تريد إحداث تغيير جذري في مقاربتها للحضور في أفريقيا، لكن مع التمسك باستمرار دورها في محاربة الإرهاب.
وفي أكثر من مناسبة، قال ماكرون إن بلاده تريد أن تساعد بلدان خليج غينيا على المحافظة على استقرارها ومواجهة التنظيمات الإرهابية التي تتجه نزولاً إليها، انطلاقاً من مالي وبوركينا فاسو وغيرهما، ولكن وفقاً لما تطلبه سلطات الدول المعنية بحيث لا تكون القوات الفرنسية في المقدمة. وما يهم باريس هو المحافظة على الاستقرار الذي ترى أنها يجب أن يتم بالتوازي مع إطلاق مشروعات التنمية المختلفة وتعزيز حضور الدولة وخدماتها المختلفة. ومشكلة فرنسا أنها لا تواجه فحسب المنافسة الروسية في مالي وجمهورية وسط أفريقيا، واليوم في بوركينا فاسو، بل هناك منافسات أخرى صينية وتركية وأميركية وإسرائيلية، وكل منها في مجال معين.
لكن الأخطر، بالنسبة إليها، تبقى المنافسة الروسية. ومؤخراً قام وزير الخارجية لافروف بجولة أفريقية أظهرت رغبة موسكو في تعزيز حضورها بالقارة السمراء.
يعرف الجميع أن لباريس مصالح استراتيجية في أفريقيا التي تشكل الدائرة الرئيسية لنفوذها. وقال الباحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية أيلي تينينبوم إن «باريس وصلت إلى نهاية دورة، وإذا استمرت على هذا المنوال (في تعاطيها مع البلدان الأفريقية)، فإن هناك تخوفاً جدياً من إزاحتها استراتيجياً من مناطق (أفريقية) مهمة وخسارتها مصالح حيوية». لذا فإن السؤال المطروح بقوة في باريس: هل يكون تغيير مقاربة التعاطي مع أفريقيا كافياً لدرء خطر تراجع موقعها في هذه المنطقة الحيوية.
بعد مالي... باريس على وشك خسارة موقعها المتميز في بوركينا فاسو
تعاني من منافسة استراتيجية في مناطق نفوذها الأفريقية
بعد مالي... باريس على وشك خسارة موقعها المتميز في بوركينا فاسو
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة