حقوق الإنسان... على أساس فلسفي

إن حقوق الإنسان - بحسب سارتر - تتجسد في الحرية لا في غيرها (أ.ف.ب)
إن حقوق الإنسان - بحسب سارتر - تتجسد في الحرية لا في غيرها (أ.ف.ب)
TT

حقوق الإنسان... على أساس فلسفي

إن حقوق الإنسان - بحسب سارتر - تتجسد في الحرية لا في غيرها (أ.ف.ب)
إن حقوق الإنسان - بحسب سارتر - تتجسد في الحرية لا في غيرها (أ.ف.ب)

إذا ألقينا نظرة إلى تاريخ الفلسفة فسوف نلاحظ بوضوح أن اهتمام الفلاسفة كان موجهاً نحو الميتافيزيقا بحثاً عن تفسير الكون ومصدره. وكان السؤال المحفز لتأملات الفلاسفة الأوائل مطروحاً على الشكل التالي: «لماذا هناك شيء ما بدلاً من لا شيء؟». ومن هنا بدأت الميتافيزيقا واستمرت طالما هناك تمييز بين الكائن الموجود وبين الكينونة. هذا المسار الميتافيزيقي حكم تاريخ الفلسفة، بحيث سيطر الهم الميتافيزيقي بحثاً عن المبدأ أو الأصل الكامن وراء الطبيعة الفيزيقية، وصولاً إلى عصر النهضة ثم إلى عصر التنوير، حيث برز الاهتمام بالإنسان كذات فاعلة في التاريخ وكقيمة أساسية في الكون. هنا، برزت النزعة الإنسانية وأصبح للإنسان الفرد دور مهم في صناعة التاريخ وفي بناء المجتمع القائم على القيم الأخلاقية. وهنا، لا بد من الإشارة إلى قاعدة أساسية من قواعد الأخلاق الكانطية التي تقول بضرورة التعامل مع الإنسان كغاية وليس كوسيلة. ولكن هذا المسار الإنساني تعرض لانتكاسات قوية بسبب الحروب العالمية من جهة، وبسبب ظهور الأنظمة الفاشية والنازية والتوتاليتارية الشمولية من جهة أخرى. أضف إلى ذلك بروز التيارات الفلسفية والاجتماعية التي أعطت الأهمية لدور الأنساق والبنى الخفية على حساب الإنسان كذات فاعلة، مما أدى إلى جدال عميق بين الوجودية من جهة، والتيارات البنيوية من جهة أخرى. وفي ظل هذا الواقع، برزت مسألة حقوق الإنسان حيث أطلق الفيلسوف الفرنسي الشهير جان - بول سارتر خطابه المعروف تحت عنوان «الوجودية هي نزعة إنسانية»، معلناً أنه يراهن على الإنسان. ولكن سارتر أراد أن يقيم حقوق الإنسان على أساس فلسفي.
في هذا المقال المكثف، سوف نحاول البحث عن الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان بحسب سارتر، وذلك من أجل تبرير التزامه المستبسل في الدفاع عن هذه الحقوق وتبيان كم هي صلبة القاعدة التي يتأسس عليها هذا الالتزام.
وأخيراً سنستخلص من الالتزام السارتري درساً قد يستطيع مساعدتنا على فهم الإنسان وعلى تأسيس أخلاقنا انطلاقاً منه وفي سبيله، لأنه هو نفسه مستقبله وقدره.
كيف يؤسس سارتر فلسفياً فكرة حقوق الإنسان؟ بالنسبة إليه، إن الحق هو سلب الواقع القائم. وهذا يعني أنه حافز التجاوز الدائم من حالة قائمة في الواقع إلى حالة قائمة على الحق، أو، من الكينونة إلى وجوب - الكينونة. هكذا، فإن الحق هو في آن واحد نفي (سلب) وإثبات للكينونة: سلب أو نفي لواقع قائم، من جهة، وإثبات لوجود كينونة المستقبل الذي سيكون بدوره مسلوباً أو منفياً من قبل حالة حق أخرى، من جهة أخرى. وحول هذه القضية كتب سارتر: «الحق: إثبات في كل حالة خاصة لعدم قيمة مملكة الكينونة. تدمير معمم لكل ما هو كائن** عندما أثبت حقي فإني أقوم برد فعل ضد حالة قائمة تهدد ما لدي كملكية أو ما يجب علي امتلاكه لأنه يجب أن يكون لي. ومن خلال رد فعلي ضد الواقع أدمر الكينونة التي تصبح عائقاً أمام قيمي التي من أجلها ألتزم في الكفاح ضد حالة قائمة من دون قيمة. إذن، إن حقي سيكون إثباتاً لقيمي الخاصة بوجوب - الكينونة، وتدميراً للكينونة من خلال الشروع في اللاكينونة (العدم). هكذا، أنا أفضل أن أموت على أن أتنازل عن حقي في الوجود على نمط وجوب كينونة ما يجب علي أن أكونه بصفتي مشروعاً أن أكون كل كينونتي الماضية والحاضرة والمستقبلية.
هكذا فإن سارتر يربط فكرة الحق بالنضال، خصوصاً عندما يتصور الحق بمثابة إشارة التباعد بين الكينونة وبين وجوب - الكينونة. وذلك يولّد شعوراً بالظلم لدى الناس الذين يقيمون أنفسهم كما لو أنهم يملكون الحق في أن يكونوا شيئاً آخر غير ما هم يكونون عليه في حالة قائمة ومحددة، كما تحت الاستعمار أو العبودية أو قمع الدولة. إذن، إن الحق يكون منشوداً منذ أن يشعر الناس أنهم مكسورون ضمن إطار رتابة وضع قائم ومحرومون من حقهم في الوجود كأناس حقيقيين لديهم المستقبل بمثابة مشروع حرية وتحرير دائم. بهذا المعنى كتب سارتر في «دفاتر من أجل أخلاق»: «إن الحق يختفي إذا جرى كل شيء طبقاً له. حينئذٍ يصبح عادة (أو تقليداً). فهو لا يبرز إلا عندما يكون منفياً وكنفي لما ينفيه... ففي هذه المجتمعات تحديداً (المستعمرة والمقموعة) يمكن للحق أن يوجد بسبب التباعد القائم بين الكينونة ووجوب الكينونة»***.
إذن، إن فكرة الحق هي فكرة ثورية لأنها، من جهة، رفض للعادة وللتقليد ونفي للواقع القائم باعتباره متمتعاً بحق نسبي غير أبدي، ومن جهة أخرى، تأخذ قيمتها من كونها محررة للإنسان من خلال المساهمة في تحقيق مشروعه في أن يكون مستقبل ذاته في إطار دولة حق تستطيع أن تنبعث من جديد عند كل عملية تحرير. فبحسب سارتر: «إن العيش من دون حق يعني فقدان كل أمل بتبرير الذات أي العيش من دون مبرر».****
إذن، الإنسان الحقيقي هو ذلك الذي يعتبر مستقبله بمثابة حق، ذلك لأن الإنسان، بحسب سارتر، هو مشروع. هذا يعني أن الموجود بصفته تجاوزاً دائماً لوضعه يمثل الحق في الشروع بحرية في المستقبل من خلال نفي الوضع القائم الذي يصبح ماضياً بالنسبة له.
على أي حال فإن حقوق الإنسان تجد أسسها في التصور السارتري للإنسان. وبالفعل، إن سارتر يعتبر أن الإنسان هو كوني مفرداً، إذ إنه بمقدار ما يشارك في الشرط الإنساني هو كوني أو كلي وبمقدار ما يكون حالة خاصة في العالم الملموس هو مفرد.
إذن، بحسب سارتر، إن الإنسان في شرطه الإنساني يكون حراً بما أنه يتمتع بذاتية فردية ولا يخضع لسيطرة «طبيعة إنسانية»، يمكن أن تمحو فرادته ووضعه الملموس. ولكن الشرط الإنساني، بكل بساطة، يحل، بحسب سارتر، محل الطبيعة الإنسانية، وذلك لأن كل الناس يمكن أن يكونوا محدّدين تبعاً لهذا الشرط، إذ إن الإنسان، حيثما يكون، يتمتع كما كل الناس الآخرين بميزة كونية وبميزة الذاتية الفردية، فهو يعيش ويموت ويأكل ويفكر كما كل البشر، ولكنه كفرد يتمتع بخصوصياته التي لا يمكن لأي شخص آخر تقاسمها معه، فهو لديه طريقة في العيش وفي الموت وفي الأكل وفي التفكير وباختصار هو مشروع ذاته. ويستنتج سارتر حول هذا الموضوع بالقول:
«إذا كان مستحيلاً العثور في كل إنسان على جوهر (أو ماهية) كوني والذي يمكن أن يكون الطبيعة الإنسانية، فمع ذلك يوجد هناك شرط ذات طابع إنساني كوني».***** هكذا إذن فإن النزعة الإنسانية عند سارتر تستند إلى الإنسان الكوني - المفرد وتعتبر أن كل إنسان يتمتع بالحقوق الكونية في أن يكون إنساناً متساوياً مع الآخرين وفي أن يتمتع بفروقاته التي تطبع شخصيته وحريته الفردية.
وبما أن الإنسان، عند سارتر، هو بالتعريف حرية، فإن هذه الحرية تصبح حقاً مقدساً لكل فرد يريد أن يكون إنساناً بالمعنى الخالص للكلمة، وليس كائناً دون - الإنسان. هكذا إن النزعة الإنسانية السارترية تريد إنساناً حراً ومسؤولاً يصنع نفسه من خلال الكفاح ضد القمع والاستلاب مهما كان مصدرهما، وبما أن كل ما يحدث للإنسان لا يأتي إلا من الإنسان فإن تحرير البشرية يصبح ممكناً بمقدار ما ستخاض معركتها من أجل الحرية ومن أجل كل حقوق الإنسان، في مجتمع بشري حيث لا قوة فوق - بشرية تستطيع أن تحمي إنساناً ضد إنسان آخر. وطالما أن القمع والاستلاب يوجدان في بُنى المجتمع البشري فإن المعركة في سبيل حقوق الإنسان في الحرية وفي الكرامة ستكون دائماً مفتوحة.
وانطلاقاً من هذه الروحية راح سارتر يخوض معركة من دون هوادة في سبيل حقوق الإنسان، مستخدماً كل الأسلحة التي يمتلكها لإنجاحها. لقد كان مثقفاً قادراً على ترجمة أفكاره الفلسفية في معاركه في الشارع من أجل انتصار قضية الإنسان التي كان قد كرس كل حياته في سبيلها. لذلك يمكننا القول إن حياة سارتر لم تكن سوى معركة من أجل حرية الإنسان تبدأ بالكفاح ضد الاحتلال الألماني وتصل إلى الكفاح ضد كل نظام شمولي وكل نظام إمبريالي مروراً بالكفاح ضد الاستعمار (حرب الجزائر).
سارتر كان يريدنا أن نفهم بأنه يجب أن يكون المرء أخلاقياً كي ينقذ الإنسان. وذلك يبرهن أيضاً أن سارتر كان صاحب مذهب أخلاقي أكثر من كونه رجلاً سياسياً، وذلك لأنه كان يمقت الواقعية السياسية التي يمكن لها أن تشعل الحروب وتدمر البشرية. في حين أن الأخلاق تتدخل دائماً لتخفيف أو محو قدر الإمكان التوتر الناتج عن الواقعية السياسية. قد يمكننا القول، إذن، أن سارتر، من أجل إنقاذ الإنسان، كان مثالياً في السياسة. وذلك لأنه لم يتنازل أبداً عن حقوق الإنسان في الحرية الكاملة في مجتمع حر وعادل.
هكذا فإن حقوق الإنسان، بحسب سارتر، تتجسد في الحرية لا في غيرها، وذلك لأن كل شيء سيكون ثانوياً بالنسبة للإنسان منذ أن يصبح حراً.
*باحث وأستاذ جامعي لبناني
** - Sartre، Cahiers pour une morale، (posthume)، Gallimard 1983 p.145.
*** - م. ن.، ص145.
**** - م. ن.، ص22.
***** - Sartre، L’existentialisme est un humanisme، Genève، Nagel 1970. p.67.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.