تمثل «المسألة الدينية» في المجتمعات المعاصرة أحد أهم فواعل التحديث السياسي المرتبط بتطور المجتمع والدولة. إذ ارتبطت قضية الإصلاح تاريخيا بمكانة الدين ودور النخب الدينية وعلاقة الحقل الديني عامة بالحقل السياسي، وحدود كل منهما وسلطاته؛ ويتجدد بروز الاهتمام بالمسألة الدينية عموما وعلاقتها بواقع المجتمع والدولة بظروف داخلية تارة، وبظروف خارجية كما هو الشأن اليوم مع تنامي تأثير المنظمات الإرهابية على الساحة العربية، تارة أخرى. وسأحاول هنا فتح النقاش حول ماهية الحقل الديني وطبيعته بشكل يحاول تفسير تعقد الظاهرة الدينية في المجتمعات المعاصرة المفتوحة، من منظور سوسيولوجي.
يعود الفضل في صناعة مصطلح الحقل الديني، في المجال السوسيولوجي، إلى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو. ويعرفه بورديو باعتباره «سوق تنافسية تسود فيها العلاقات التفاعلية والمصالح والفرص المادية والاجتماعية والرمزية، وتخضع لصراع أطراف متعددة عن مصالحها وشرعيتها». ويستند هذا التعريف إلى دراسة الباحث للديانتين المسيحية واليهودية، كما أن هذا التعريف يستدعي النظرة الاقتصادية والصراعية المادية لتحديد ماهية الحقل الديني. وهذا يعتبر عاملا كافيا للتساؤل حول محدودية هذا المصطلح لتفسير تفاعلات الإسلام الداخلية، أي علاقة الإسلام بالمتدينين المسلمين، وكذلك علاقته بالأديان السماوية الأخرى. فبورديو يتحدث عن فاعلين متعددين في الحقل الديني المسيحي واليهودي، وفي مقدمتهم النبي ورجال الدين الممثلون للبيروقراطية الدينية، و«اللائكون» والسحرة. وينتهي إلى القول بوجود صراع حول امتلاك واحتكار «الإنتاج الرمزي»، مما ينتج لا مركزية في هذا الأخير. كما أنه يرى أن فعالية الدين تستمد شرعيتها من البناء الاجتماعي، ومن وظيفة الدين عند جماعة أو طبقة معينة، داخل الجماعات والطبقات المشتغلة في المجال الديني. من جهة أخرى يعتبر بورديو أن دينامية الحقل الديني تنتج عن تلك الصفقات بين «المتخصصين» الدينيين و«اللائكين»، والعلاقات التلاحمية القائمة بين «المتخصصين الدينيين» داخل الحقل الديني.
وهذه السمات الخاصة تمنح للحقل الديني قدرة ذاتية للاستقلال عن السلطة السياسية، ومنازعتها سوسيولوجيا عن النفوذ المادي والمعنوي، وهو ما يحاول عالم الاجتماع الفرنسي تجاهله. غير أنه من المفيد الإشارة إلى أن ما يقدمه بورديو من تحديد للحقل الديني يحجم من رؤية علم الاجتماع للحقل الديني، خاصة إذا استحضرنا كون مسألة احتكار الإنتاج الرمزي تغيب في بعض المجتمعات الزراعية، وغير المركبة، بسبب ظهور المهن المتخصّصة في العمل الرمزي.
يلاحظ كذلك أن بورديو اقتصر على الأديان التاريخية الغربية المتمثلة في اليهودية والكاثوليكية، في دراسته للحقل الديني، ولم يستعمل المفاهيم الدينية المرتبطة بالدين والحقائق الدينية، مما أضعف من القدرة التفسيرية للسوسيولوجية الدينية عند الباحث. ويمكن القول إن هذا المنهج أوقعه في خطأ تعميم منطق التجزئة التي يقوم بها الدين للمجتمعات، وهو شيء لم يقع مع «الأنبياء في أوروبا والشرق الأوسط». بل على العكس من ذلك تماما صنع الإسلام من العرب أمة جامعة، ونقلها من الطور القبلي الاقتتالي، للطور المجتمعي التضامني، الدولتي.
ثم، إن تمكن الدين من الناحية الاجتماعية من فرض نفسه لا يعني تمتعه بالاستقلال التام عن السلطة السياسية الزمنية. فالاستقلال النسبي للمجال الديني يجد تفسيره في البنية الاجتماعية وطرق اشتغالها وتوظيفها للقيم الدينية ومرجعتها. والحقل الديني لا يختلف عن باقي الحقول، باعتباره يتأسس على قاعدة اجتماعية تمنحه قوة مهيكلة ومكانة وحيزا يخلق لكل لحقل «استقلاليته» وتميزه عن غيره، دون أن يعني ذلك غياب التمايز والتراتبية بين الحقول؛ خاصة مع نظام الدولة الحديثة، الذي يعتمد على الإكراه الناعم، ويسخر القانون لتنظيم السيطرة على المجتمع باسم الإرادة العامة.
وإذا رجعنا لأطروحة بورديو فإننا نستنتج أن «سير» المنافسة الداخلية القائمة داخل الحقل الديني وبين هيئاته؛ أي الكنيسة والأنبياء، راجع بالأساس إلى قوة البنية الاجتماعية الدينية. كما أن النظر للمؤسسات الدينية المحتكرة للحقل الديني، في المجتمعات المتباينة دينيا، يطرح قضية فقدان الكنيسة الكاثوليكية للقوة السياسية والاقتصادية، مما أثر على الممارسات الدينية نفسها ومكانتها داخل نسق الدولة والمجتمع. فهل هذا الضعف أدى إلى اختفاء الممارسة الدينية في المجتمعات الحديثة؟
إن النظرة السوسيولوجية الصحيحة تدعونا إلى القول بضرورة التركيز على الدين خارج المؤسسة المحتكرة له، وكذلك دراسة معتقدات «المرتبطين بالحداثة»، خاصة أنه يمكن ممارسة الدين واستيعاب حقائقه خارج أي مؤسسة بيروقراطية كالكنيسة. فإذا كانت السوسيولوجية التقليدية تزعم أن الدين تتحكم فيه الأطر البيروقراطية المنظمة له ولنشاطه المجتمعي؛ فإن هذا لم يعد يتماشى وتطور مفهوم الدين زمن الحداثة، ويساير تكاثر الممثلين الدينيين، والتعددية الدينية في عالم اكتسحته العلمنة، ويعرف اليوم صحوة دينية عالمية متنوعة.
هذا التحول الجوهري دفع بعالم اجتماع كبير مثل خوسيه كازانوفا للتأكيد على دور الأديان في المجتمعات المعاصرة، إذ يقول في كتابه القيم «الأديان العامة في العالم الحديث» (2005 ص319): «كان لا بد من إعادة التفكير بشكل منهجي في العلاقة بين الدين والحداثة، وفي الأدوار المحتملة التي يمكن للأديان أن تضطلع بها في النطاق العام للمجتمعات الحديثة».
لقد أصبحت للأديان في بعض المجتمعات المعاصرة مكانة الفاعل الأساسي، رغم موجة العولمة السائدة، والتأميم المصاحب لها، وارتفاع المشاركة العلمانية، في الدولة المعاصرة، وسحب الاعتراف الإرادي. كل هذا دفع بأستاذ علم الاجتماع بجامعة شيكاغو (خوسيه كازانوفا، ص 319)، لتأكيد أن هذا الوضع الجديد أدى إلى «تبدّل في التوجيه من الدولة إلى المجتمع، وسمح للكنيسة بالاضطلاع بدور أساسي في سيرورات التحول الديمقراطي. وكفّت الكنائس الوطنية عن النظر إلى ذواتها كعبادات جماعية تكاملية ضمن الدولة الوطنية وتبنّت هُويّة عالمية متعدية الجنسية، الأمر الذي سمح لها بأن تواجه كلا من الدولة الوطنية والنظام الاجتماعي المعطى تنبُّؤيًا».
وفي إطار هذه التحولات، ينبهنا أنتوني غيدينز، أحد أبرز علماء الاجتماع المعاصر، إلى أن «الأصولية ليست نزعة خاصة بالمجتمعات التقليدية، بل هي ظاهرة شائعة في المجتمعات والدولة الغربية المعاصرة بدرجات وتأثيرات متباينة». ولذلك أصبحت المنظمات الدينية الأصولية المسيحية واحدا من أكثر التيارات التي استأثرت باهتمام الباحثين في علم الاجتماع المعاصر؛ ولا يأتي ذلك فقط لكونها تنتظم ضمن «اليمين المسيحي الجديد»، ولكن لكونها كذلك غيرت من تموقعها وطريقة بناء النفوذ من الحقل الديني لتتموقع بشكل جد مؤثر في الحقل السياسي، ومراكز صناعة السياسات العمومية، مستفيدة من وسائل الاتصال المعاصرة، بحيث خلقت جسورا «تسويقية» للممارسة الدينية، وطقوسها، متجاوزة بذلك الانحسار والمشاركة الفعلية المكانية للتعبد عند المؤمنين.
غير أن مثل هذا التطور يخفي من الناحية السوسيولوجية ظاهرة دينية معقدة، يمكن أن نطلق عليها «الاغتراب في الدين». ذلك أن قيادة الحقل الديني في تعاطيها مع المنافسين - أي غير الدينين - تحاصر المتدين وتحدد سلوكياته وأنماط المعرفة الدينية، مما يحول النخبة الدينية إلى المفسر الوحيد للمبادئ الدينية، مع نزوع واضح لتفسير الواقع الاجتماعي لتجاوز تحدياته. ومن هنا يجب فهم صراعات الحقل الديني مع منافسيه، لا باعتبارها دينامية «سوقية فقط»، خاضعة للمعطى الاقتصادي، وإنما هي حركية وفعالة متوالية داخل سياقها الاجتماعي، يظهر فيها الدين والمتدين مدافعا عن موقعه داخل البنية العامة للنظام الاقتصادي، والسياسي، والتكيف مع تعقيدات وتداخلات هذه الأنظمة وما يسود فيها من تفاعلات بينة واتصالات عضوية، تنتج المساومات والمتوافقات بعيدا عن مثالية النص الديني المجرد.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس