لغات كثيرة أفضل من لغة واحدة

ليست مجرد أدوات تواصل بل تساهم في إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم

نعوم تشومسكي
نعوم تشومسكي
TT

لغات كثيرة أفضل من لغة واحدة

نعوم تشومسكي
نعوم تشومسكي

ظلّ العالمُ الذي نعيشُ فيه، وأحسبه سيظلُّ ميدان تعدّدية لغوية، هي أقربُ إلى «برج بابل» تصطرعُ فيه الألسن (بمعنى اللغات) أحياناً، وقد تتفاعل تفاعلاً حيوياً في أحايين أخرى؛ لكن ليس من بين تلك اللغات من يودُّ الناطقون بها رؤية الساحة العالمية ميداناً لسيادة لغة واحدة بعينها إلا إذا كانت هي اللغة المخصوصة بالهيمنة العالمية.


لودفيغ زامينهوف

لا كينونة بشرية من غير لغة. «أنا أتكلّم إذن أنا موجود» هكذا يمكن تحوير المقايسة الديكارتية لتصف الكائن البشري وصفاً دقيقاً من حيثُ كونه كائناً لغوياً. يجري الحديث في أحيان كثيرة عن لغة عالمية، وفي الغالب تكون اللغة الإنجليزية هي الفائزة في سباق اللغات لأسباب كثيرة. ما نشهدهُ اليوم هو قفز اللغة الإنجليزية من مرتبة اللغة المرشّحة لتكون لغة عالمية إلى لغة عالمية بالفعل في ميادين العلم والتقنية والاقتصاد؛ لكن علينا ألا نتغافل عن حقيقة أنّ عالمية اللغة، أي لغة، لا تعني وحدانيتها في العالم. العربية والألمانية والفرنسية والصينية هي لغات عالمية أيضاً من حيث عدد الناطقين بها، وربما المعيار الإجرائي للاحتكام إليه في كون لغة ما عالمية هو اعتماد تلك اللغة بصورة رسمية في نقاشات الأمم المتحدة.

غلاف كتاب {جسر الكلمات}

نشهدُ اليوم شيوع نحو 6000 لغة في العالم، وهي في تناقص مضطرد. هل ثمّة داروينية لغوية تقضي بموت اللغات التي يخفت تأثيرها ويقلّ عدد الناطقين بها، في حين يتعاظم تأثير لغات أخرى؟ والسؤال الأهم؛ هل ستفضي هذه الداروينية اللغوية إلى سيادة لغة عالمية واحدة في المستقبل؟ وربما الأهم من كل هذا؛ هل سيحصلُ هذا الأمر على نحو طبيعي حتى لو اتخذ مساراً زمنياً طويلاً، أم في المستطاع حثّه بفعاليات مقصودة تسعى لها جهة مؤسساتية ما، بغرض فرض سيادة لغوية عالمية؟
قد يجد المنافحون عن رؤية «اللغة العالمية الواحدة» تسويغاً لرؤيتهم في كتابات تشومسكي الذي يرى أنّ هناك قواعد عالمية وخصائص تشترك بها جميع اللغات، وأنّ هذه القواعد والخصائص موجودة في دماغنا مسبقاً؛ الأمر الذي يفسّرُ سرعة تعلّم الطفل للغة.
واحدةٌ من تلك التجارب الفكرية التي لطالما داعبت خيالي، وأظنّ خيال كثيرين سواي، هي التالية؛ كيف سيكون شكل العالم لو تحدّث ساكنوه لغة واحدة (أو موحّدة) في شتى أصقاعه؟ اللغة الموحّدة هنا كناية عن محاولات حثيثة بذلها بحّاثة رائدون لتخليق لغة اصطناعية (أي ليست طبيعية) عالمية مثل لغة «الأسبرانتو» التي لم يكتب لها النجاح. اللغة منتجٌ طبيعي يتمّ تمريره للوافد الجديد إلى العالم بفعل مشترك من الوراثة والتدريب؛ لكن هل اللغة شيء يُكتشفُ أم يخترعُ (حالها في هذا كالرياضيات مثلاً)؟ هذا ميدان مباحث كبرى مشتبكة، وليست ميدان موضوعنا هذا.
تخبرُنا الوقائع التاريخية أنّ الفيلسوف الفرنسي ديكارت هو أولُ من نادى بتبنّي فكرة لغة عالمية؛ لكنه لم يسعَ لوضع فكرته موضع أي تنفيذ حقيقي. أعقب ديكارت لاهوتي ألماني كاثوليكي يدعى شلاير، نادى بفكرة تعميم لغة عالمية عام 1879. ونجح بالفعل في تخليق لغة عالمية طبيعية بعد بحث ودراسة في اللغات السائدة. تخبرُنا الوقائع التاريخية أيضاً أنّ طبيب العيون البولندي لودفيغ زامينهوف سعى لتخليق لغة مُحايدة، لا للقضاءِ على الحروبِ والاختلافاتِ بين البشر، إذ شهدنا حروباً بين أناسٍ تجمعهم اللغة ذاتها؛ بل إن المسعى النبيل الذي أراده زامينهوف هو أن تُصبحَ المعرفة العلمية معولمة؛ فلا يتحتّم عليكَ تعلم الصينية لتستطيع التوصّل إلى آخر ما بلغته علوم الصينيين. أراد زامينهوف باختصار ألا يُصبحَ العلم سلعةً، وألا تحتكرَه دولةٌ بعينِها. تحوّلت يوتوبيا اللغة العالمية الواحدة التي استوطنت عقل زامينهوف إلى حقيقة مجسّدة على الأرض؛ فبعد أبحاثٍ دامت أكثر من 10 سنين، استطاعَ زامينهوف خلالها أن يُتقِـنَ 12 لغة، تمكّن من ابتداع لغة جديدة، أسماها إسبيرانتو (ومعناها الرجل الذي يحلم). لم تزل لغة الإسبيرانتو هي أفضل لغة عالمية ابتدعها البشر. يمكنُ للقارئ الشغوف مراجعة كتاب المؤلفة إستر شور Esther Schor، المنشور عام 2016، بعنوان «برج الكلمات: الإسبيرانتو وحلمُ لغة عالمية Bridge of Words: Esperanto and the Dream of a Universal Language».
لنفترض، في تجربة فكرية منعشة للعقل، أنّ لغة ما (طبيعية أو اصطناعية مثل الإسبيرانتو) جرى تخليقها ورفعها لمرتبة اللغة العالمية الموحّدة، فهل سيكون النجاح حليف هذا المسعى؟ أظنّ أنّ الكسالى الذين لطالما أعسرتهم اللغة سيتراقصون طرباً بعد أن يطرحوا عنهم عبء التعلّم ومشاقه. دعونا من هؤلاء الكسالى. حتى المجتهدون أنقياء السريرة سيظنّون في اللغة العالمية الموحّدة وسيلة لتعزيز التفاهم العالمي وكبح جموح الصراعات العنفية الناجمة عن سوء فهم الآخر، وسيقتربُ العالم من صورة يوتوبية تبعث على الأمل والثقة.
لا يبدو النجاح احتمالاً متوقعاً، لأسباب كثيرة، منها:
- اللغة والهوية: لا يمكن للبلدان أن تتغافل ببساطة عن حقيقة أنّ لغاتها واجهات مميزة لكبريائها الوطني وجغرافيتها السياسية الدالة على تأثيرها المتفرّد في العالم. يطمح الناس في كلّ العالم إلى امتلاك هويات متفرّدة وإنشاء مجموعات بشرية بخصائص مختلفة عن الجماعات البشرية الأخرى. الجماعات البشرية في هذا السعي لا تختلف عن الأفراد؛ فكلّ منّا يسعى لخلق كينونته الذاتية وفردانيته الشخصية ولا يتمنى أن يكون نسخة من سواه.
- اللغة عنصر حيوي في منظومة السياسات الناعمة: لو أردنا مثالاً شاخصاً لمعرفة مدى ارتباط اللغة بالهوية الوطنية (أو القومية، لا فرق) يمكن التدقيق في حجم الاهتمام الفائق الذي توليه كلّ دولة لتعلّم لغتها خارج حدودها في إطار معاهدها الثقافية (المعاهد الثقافية البريطانية، معاهد غوته الألمانية، المعاهد الثقافية الفرنسية... إلخ). لا دولة ستقبلُ بالتضحية بإرثها اللغوي لصالح لغة عالمية موحّدة. تلك أخدوعة ساذجة. اللغة بهذا المعنى ليست خصيصة قومية فحسب، وإنما هي معبر إلى الاقتصاد والمال والنفوذ الاستراتيجي والسطوة السياسية.
- ضرورة محاربة الكسل البشري الطبيعي: نميلُ، باعتبارنا كائنات بشرية، إلى قانون فيزيائي حاكم، يسمّى قانون الفعل الأقلّ The Law of Least Action، وجوهره أداء الفعل بأقلّ جهد متاح؛ لكنْ من جانب آخر يجبُ أن نعرف حقيقة أخرى؛ أن الخبرات الحقيقية والمنافع العملية الطيبة التي تقود للتطوّر البشري لا تنقاد لهذا القانون. لن يتطوّر الدماغ البشري والخبرات العملية في أناسٍ اعتادوا التعامل اليومي السهل وأدواته المتاحة من غير جهد مبذول بطريقة قصدية وهادفة. لا يستطيع المرء تنمية عضلاته وهو مستلقٍ طول اليوم خدِراً متبلّداً في سريره، وكذا الأمر مع عقولنا. لا بدّ من فعاليات قسرية نمارسها تخالفُ الفعاليات التي صرنا نؤديها وكأننا مسرنمون (سائرون نياماً). الفعاليات التلقائية لا تطوّرُ العقل البشري، وتعلّمُ لغةٍ جديدةٍ واحدةٌ من أعظم الفعاليات التي تطوّر عقولنا. معروف في الإحصائيات الطبية العالمية أن من يتقن أكثر من لغة ستقل إصابته بمرض الزهايمر (الخرف العقلي) بنسبة كبيرة.
- اللغة أكبر من وظيفتها التواصلية: حقيقة أخرى علينا ألا ننساها أو نتغافل عنها. اللغة لم تكن أبداً أداة تواصل بين البشر فحسب؛ لكنْ فضلاً عن وظيفتها التواصلية فإنّ اللغة تجعل كلاً منا يُدرك الأشياء ذاتها، ولكن بطريقته الخاصة الممهورة ببصمته الشخصية. اللغة هيكل إطاري يشكّل قاعدة لرؤيتنا المميزة للعالم، العربي مثلاً يرى العالم بطريقة تتمايز عن رؤية الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الياباني أو الصين. اللغة بهذا المفهوم حاملٌ لهذه الرؤية، وكلّ لغة جديدة نتعلّمها هي إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم. هل ثمة من يريدُ خسران هذا التنوّع الخلّاق في رؤية العالم؟!


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.