السرعة والنجاح الاستثنائيان اللذان يحققهما الهجوم الأوكراني المضاد على القوات الروسية في شمال أوكرانيا يثيران احتمالات لم يكن يتصورها سوى قلة قليلة في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا أواخر فبراير (شباط) الماضي؛ وهي هزيمة الجيش الروسي أو حتى انهياره. لكن الكاتب الأميركي المتخصص في الشؤون الدولية مارك شامبيون يقول في تحليل نشرته وكالة «بلومبرغ» للأنباء إن الانهيار السريع للقوات الروسية في أوكرانيا ما زال أمراً غير محتمل، رغم الغموض الذي يحيط بالتطورات اليومية للمعارك بين الجانبين، ناهيك بالغموض الذي يحيط بالخطط والظروف الدقيقة لكل من القوات الروسية ونظيرتها الأوكرانية. فما زالت روسيا تسيطر على نحو 20 في المائة من أراضي أوكرانيا، وهو ما يجعل المساحة التي تقول أوكرانيا إنها استعادتها خلال الشهر الحالي وقدرها 3000 كيلومتر مربع مساحة ضئيلة.
رغم ذلك لا شك أن الهجوم الأوكراني الأخير يمثل من وجهة نظر المراقبين العسكريين الروس والغربيين على السواء، نقطة تحول في أطول صراع مسلح في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، على الأقل لأنه أدى إلى تعطيل تحقيق الهدف المعلن من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو الاستيلاء الكامل على إقليم دونباس في شرق أوكرانيا. من ناحيته قال ليون بانيتا، مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ووزير الدفاع سابقاً، إن التطورات الأخيرة في القتال بأوكرانيا «محورية وخطيرة». مضيفاً في مقابلة مع «تلفزيون بلومبرغ» إن هذه المكاسب الأوكرانية قد تدفع روسيا إلى تصعيد الصراع بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، إذا ما شعرت بخطر الهزيمة. «الأمر خطير لأن بوتين إذا شعر بأنه محاصر فقد يلجأ إلى الهجوم» النووي.
أما لورانس فريدمان، المؤرخ العسكري والأستاذ الفخري لدراسات الحرب في كلية «كينغز كوليدج لندن»، فكتب في مدونة عبر الإنترنت أن الهجوم الأوكراني «قلب كل ما كان مفترضاً بثقة حول مسار الحرب». وأضاف أن الافتراض الذي توافق عليه الكثيرون بشأن تعثر الحرب خلال فصل الشتاء ينهار، حتى إن فكرة الانهيار الروسي المفاجئ لم تعد مستبعدة. وقال: «كما هو الحال في الإفلاس (للشركات) يمكن أن يحدث في الهزيمة العسكرية، وهو أن ما كان يبدو عملية طويلة ومؤلمة يمكن أن يتحول إلى انهيار سريع».
وأظهرت تقارير مصورة نُشرت (الاثنين) صوراً لقوات روسية تنسحب في حالة من الفوضى وتترك وراءها كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات، وهو ما أثار دهشة الكثيرين. ويرى الكثيرون أن تخلي القوات الروسية عن منطقة إزيوم الحيوية بالنسبة لقواتها وأسلحتها تطور حرج. يقول معهد دراسات الحرب في واشنطن في تقريره اليومي عن الحرب في أوكرانيا إن «استعادة أوكرانيا لمنطقة إزيوم يٌنهي فكرة أن روسيا تستطيع تحقيق أهدافها المعلنة في إقليم دونباس».
لكن مدى تأثير نجاح أوكرانيا مؤخراً على سير الحرب سيتوقف بدرجة كبيرة على رد روسيا، التي تخلت عن هدفها المعلن في البداية وهو الاستيلاء على العاصمة الأوكرانية كييف، ثم تعثر تحقيق هدفها الاحتياطي وهو الاستيلاء على إقليم دونباس بالكامل. وحتى الآن ما زال بوتين متردداً في إعلان الحرب رسمياً، وبالتالي إعلان التعبئة العامة وتوجيه ضربات إلى حلفاء أوكرانيا أو المضي في تنفيذ تلميحاته باللجوء إلى السلاح النووي. وحتى أمس تبدو المؤشرات على امتلاك روسيا احتياطيات جاهزة لشن هجوم مضاد على القوات الروسية ضئيلة للغاية. وبدلاً من ذلك استخدمت الصواريخ طويلة المدى لضرب محطات الكهرباء في خاركيف ودينبرو وغيرهما من المدن الأوكرانية، مما أدى إلى انقطاع الكهرباء فيها، وهو ما يمكن أن يضغط بشدة على المدنيين الأوكرانيين في فصل الشتاء البارد الطويل. وظهر المعلقون على شاشات التلفزيون الروسي يرحبون بهذه الضربات ويدعون للمزيد منها.
وقال ديميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، إن «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا ستستمر حتى تحقق أهدافها الأصلية، في حين لا يُبدي بوتين أي علامات قلق، وقال خلال اجتماع يوم الاثنين إنه أمضى الصباح في إعداد ميزانية العام الجديد. ويقول جاك وتلينغ، كبير الباحثين في الحرب البرية بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن: «ما زلنا نبحث تطورات الموقف في العام المقبل إذا لم يتخذ الروس قراراً سياسياً بالانسحاب... لأن الأوكرانيين لا يمتلكون الاحتياطيات الكافية لاستغلال التراجع الروسي والمضي قدماً».
في المقابل يقول مايكل كوفمان، المتخصص في الشؤون العسكرية الروسية في مركز أبحاث التحليلات البحرية (CNA)، في واشنطن إن السرعة التي نفّذت بها القوات الأوكرانية الهجوم المضاد في خاركيف تكشف عن امتلاك الأوكرانيين تفوقاً واضحاً في عدد القوات، مع القدرة على تدوير القوات ونشر قوات جديدة على عدة جبهات في وقت واحد بطريقة أربكت الروس فيما يبدو. ويضيف كوفمان أن «كل هذا يقودهم إلى نتيجة واحدة من أي وجهة نظر... وهي أن الحرب لا يمكن أن تستمر بالنسبة للقوات الروسية سواء بسبب مشكلات في العنصر البشري أو بسبب مشكلات في كفاءة القوات أو مشكلات في التخصص».
وحسب مصادر روسية مطلعة فإن الكرملين، ونتيجة للتطورات غير المواتية على الجبهة، قرر إرجاء خطط تنظيم استفتاءات شعبية بين سكان مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك اللتين تشكلان إقليم دونباس في الشرق وإقليمي خيرسون وزابوريجيا في الجنوب على الانفصال عن أوكرانيا خلال الشهور المقبلة. في الوقت نفسه كبح المسؤولون الأوكرانيون بما في ذلك وزير الدفاع أوليكسي ريتسنكوف، احتفالاتهم بالانتصارات الأخيرة ودعوا إلى الحذر والتركيز، حتى لا يتم إنهاك القوات ونشرها على مساحة واسعة تجعلها هدفاً سهلاً لأي هجوم مضاد روسي.
وقال أليكسي أريستوفيتش، مستشار مكتب الرئيس الأوكراني، إنه بدلاً من مرحلة تحقيق الاختراق والتقدم السريع، نتبنى الآن مرحلة تعزيز النتائج والقتال من أجل احتلال الخطوط التي تمنح القوات الأوكرانية ميزة مهمة ثم التقدم للمرحلة التالية. ومهما كانت الأوضاع على الأرض، فإن مشاعر الاستياء من الحرب تزداد بين المعلقين العسكريين عبر الإنترنت، بل على شاشة التلفزيون الوطني الروسي، حيث ظهر عضو البرلمان السابق بوريس نادزدين، ليقول إن الرئيس بوتين ضلل الشعب عندما شن حرباً «استعمارية من المستحيل كسبها»، في حين تدعو أصوات روسية أخرى إلى إطلاق العنان لاستخدام كل القدرات العسكرية في الحرب ضد أوكرانيا.
مكاسب كييف قد تدفع موسكو إلى تصعيد خطير للصراع
مكاسب كييف قد تدفع موسكو إلى تصعيد خطير للصراع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة