ميخائيل غورباتشوف... بين التقديس والشيطنة

ضحية تاريخ خرج عن السيطرة

صعود يلتسين ... وافول غورباتشوف (أ.ف.ب)
صعود يلتسين ... وافول غورباتشوف (أ.ف.ب)
TT

ميخائيل غورباتشوف... بين التقديس والشيطنة

صعود يلتسين ... وافول غورباتشوف (أ.ف.ب)
صعود يلتسين ... وافول غورباتشوف (أ.ف.ب)

«لا نستطيع متابعة العيش على هذا النحو». هذه العبارة التي همس بها ميخائيل غورباتشوف لوزير الخارجية الجديد إدوارد شيفارنادزه، قد تُلخص الفلسفة التي أملت على الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي والرئيس الأول والأخير للاتحاد الشاسع المساحة المتعدد القوميات واللغات والمعضلات. لم يكن غورباتشوف ساذجاً، كما اتهمه الرئيس فلاديمير بوتين، ولا غافلاً عن حقائق العالم على ما ذهبت تحليلات صحافية... بل كان مدركاً أن إصلاح الاتحاد السوفياتي قد ينتهي بخروج الحزب الشيوعي الذي يتزعمه من السلطة ومجيء قوى جديدة إلى الكرملين. تردده وإحجامه عن اللجوء إلى القوة في تسوية الخلافات مع رفاقه (على الرغم من أنه لم يكن على ذات السوية من السلمية في مواجهة التحركات الاحتجاجية في الجمهوريات المضطربة في جورجيا وأذربيجان وأوزبكستان وحوض البلطيق)، وتمسكه بالخطاب الرسمي للسلطة الذي يُنكر ما يحصل وراء الأبواب الموصدة لمصلحة رسم صورة وردية ومتفائلة للأحداث، أعطى كل ذلك انطباعاً عنه بأنه أطلق عملية تتجاوز قدراته على السيطرة على مسار الأمور.
يمكن الجزم بتفهم ميخائيل غورباتشوف صعوبة ما تواجهه بلاده - الاتحاد السوفياتي، يومذاك - وقصورها عن أداء الدور الذي أناطته بنفسها ابتداءً من الخمسينات، من خلال إبلاغه جميع الحلفاء والأصدقاء بضرورة الاعتماد على أنفسهم وعدم انتظار المساعدة السوفياتية.
قال هذا الكلام لزعيمي تشيكوسلوفاكيا غوستاف هوساك وألمانيا الشرقية أريك هونيكر، وقاله أيضاً لفيديل كاسترو ولحافظ الأسد.
كل واحد من هؤلاء أبدى رد فعل مختلفاً. زعماء أوروبا الشرقية المشاركة في حلف وارسو لم يصدقوا أن الاتحاد السوفياتي قد يتخلى عنهم في حال اضطرب حبل الأمن عندهم. موقعهم الاستراتيجي في مواجهة دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) وانتشار قوات سوفياتية ضخمة في بلادهم، شكلا مبرراً للاعتقاد أن «الرفاق السوفيات» سيتدخلون، بلا شك، إذا برز خطر على الحكومات الشيوعية الأوروبية الشرقية. وكانت هذه تدين بالكثير للاتحاد السوفياتي الذي صنعها عملياً ووفر لها الحماية وأشرف على توليها السلطة في الأعوام التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
بولندا وحدها كانت تعلم أن الموجة أعلى من قدرات الأحزاب الشيوعية الحاكمة على تجاوزها. فالشيوعيون البولنديون الذين كانوا يواجهون تحركات تتراوح بين المطالب النقابية والرفض الجذري للحكم الشيوعي منذ إضرابات حركة «تضامن» في 1980 وفرض الحكم العسكري لتجنب اجتياح سوفياتي شبيه بما جرى في المجر وتشيكوسلوفاكيا في عامي 1956 و1968، كانوا أول من سلّم السلطة إلى حكومة منتخبة ديمقراطياً في 1989.
- الاستثناء الكوبي
أما الزعيم الكوبي كاسترو، فلم يشعر أنه مدين بمنصبه للسوفيات. ذلك أن الثورة التي قادها أواخر الخمسينات، انتصرت بجهود مناضلين كوبيين (وبعض الأمميين مثل ارنستو «تشي» غيفارا). وبالتالي، فالسلطة في هافانا نتاج وطني محض وإن كانت تلتقي مع السوفيات في العداء للإمبريالية وفي الصراع ضد الولايات المتحدة. كذلك، الكوبيون اختاروا الاشتراكية بإرادتهم الحرة وليس لممالأة السوفيات ولا غيرهم.

شيفاردنادزه (غيتي)  -  ياكوفليف

هكذا عبّر كاسترو في خطاب طويل وغاضب ألقاه في مناسبة عودة القوات الكوبية من الحرب في أنغولا. «مع الدرع أو عليه» قال كاسترو مستعيداً كلمات الأمهات الأسبرطيات أثناء توديعهن أولادهن المتوجهين إلى الحرب. ومثلما عاد الجنود الكوبيون من أنغولا «مع الدرع أو عليه»، أي حاملين دروعهم أو منقولين كجثث عليها بعد موتهم في قتال الأعداء، هكذا ستحارب كوبا في سبيل خيارها. «الاشتراكية أو الموت» ختم كاسترو بالشعار الذي ظل مرفوعاً في الجزيرة بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي بسنوات طويلة.
أما الرئيس السوري حافظ الأسد، فيقال، إنه عاد من زيارة له إلى موسكو سنة 1987 بقناعة أن غورباتشوف، وعلى الرغم من وعوده بمواصلة تزويد سوريا بالمعدات العسكرية والمساعدة الاقتصادية، بدأ بالانكفاء عن الشرق الأوسط ولن يتابع سياسة أسلافه في مساندة السياسات السورية في المنطقة، وأن لدى السوفيات وجهات نظر جديدة بضرورة التوصل إلى سلام متفاوض عليه مع إسرائيل. وثمة من يعتقد أن الزيارة تلك مهّدت الطريق أمام تحسن العلاقات السورية مع الولايات المتحدة وصولاً إلى مشاركة دمشق في التحالف الدولي لطرد الاحتلال العراقي من الكويت.
التخفيف من أعباء القضايا الدولية تأسس على تقييم أجراه غورباتشوف وفريقه تضمن مقارنة بين ما يفرضه الالتزام «بمطاردة الإمبريالية» في العالم وبين ما يجنيه الاتحاد السوفياتي من التزاماته الأممية. حقائق تراجع الإنتاج الزراعي وقلة كفاية صادرات النفط والغاز لتلبية الحاجات المتزايدة، خصوصاً بعد إطلاق الولايات المتحدة «مبادرة الدفاع الاستراتيجية» المعروفة باسم «حرب النجوم»، والمصممة أصلاً لإنهاك الاتحاد السوفياتي وامتصاص موارده في سباق تسلح لا قدرة له على مجاراة الغرب فيه، كانت من الوضوح بحيث لا تخفى على أي مسؤول في الكرملين. يضاف إلى ذلك، أن العقوبات التي فرضها الغرب بعد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وحرب الاستنزاف التي تورط فيها هناك، من المسائل التي أرخت بثقلها على قيادة غورباتشوف.
- الاقتناع بالاشتراكية
من جهة ثانية، لم يتخل غورباتشوف عن اعتقاده بأفضلية النظام الاشتراكي في تأمين الاستقرار الاجتماعي والسلم بين المكونات القومية والدينية السوفياتية الشديدة التباين. وظل على قناعته بأن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية هو الإطار المناسب للعلاقة بين القوميات المختلفة حتى بعد توالي إعلان الجمهوريات سيادتها فيما يشبه الانفصال عن الاتحاد السوفياتي الذي أبدى 80 في المائة من مواطنيه رغبتهم في الحفاظ عليه في استفتاء جرى في مارس (آذار) 1991.
وبحلول عام 1990، وصلت العملية التي أطلقها غورباتشوف قبل خمس سنوات إلى مأزقها. لقد بات الاتحاد السوفياتي جسداً خالياً من الأعضاء التي راحت تعلن استقلالها وانفصالها وسيادتها. وبدا كأن كل واحدة من الجمهوريات السوفياتية الـ15 باشرت تاريخها الخاص بما في ذلك حروبها الأهلية وصراعاتها الحدودية مع جيرانها وتحالفاتها الخارجية وبرامجها الاقتصادية. وظل الجسد هذا يبحث عن دور إلى أن وقع انقلاب 19 أغسطس (آب) 1991، بقيادة «لجنة الدولة للحالة الطارئة» التي أعلنت تسلمها السلطة بسبب «مرض» أصاب غورباتشوف أثناء تمضيته إجازته في منتجع سوتشي.
الانقلاب الذي أفشله نزول المواطنين الروس إلى شوارع موسكو يتقدمهم رئيس جمهورية روسيا الفيدرالية وخصم غورباتشوف العنيد بوريس يلتسين، أنهى عملياً فرص إنقاذ الاتحاد السوفياتي بعدما ظهر أن النخبة الحزبية والعسكرية والأمنية لن تتخلى عن أساليبها القديمة، وأنها على استعداد لاستخدام العنف والقتل، ولو ضد رئيس الاتحاد السوفياتي في سبيل البقاء في السلطة.
تصلّب النخبة القديمة ورفضها الإصلاح على الرغم من كل ما شهدته البلاد في الأعوام السابقة، كان عنصراً رئيسياً في نهاية عهد غورباتشوف الذي أعلن في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991 نهاية الاتحاد السوفياتي كدولة... كان هو نفسه مصمماً قبل سنوات ست على إنقاذها وإحيائها.
بعد ذلك التاريخ، أصبح غورباتشوف شخصية من الماضي. يكرّمه الغرب بأكثر العبارات تعظيماً، ويتهمه مواطنوه بالتسبب في تدهور أوضاعهم المعيشية وصولاً إلى المسؤولية عن أزمة التسعينات الخانقة.
وليس من شك في أن الرجل سيبقى في هذا الموضع الملتبس، بين التقديس والشيطنة، والذي لم يختره بإرادته، بل دفعته إليه قوة التاريخ العاتية.
يلتسين... وياكوفليف
الخصم الأشهر لميخائيل غورباتشوف كان، من دون شك، بوريس يلتسين. مسؤول منطقة سفيردلوفسك (يكاترينبورغ حالياً) في الحزب الشيوعي السوفياتي الذي جاء غورباتشوف به لتولي مسؤولية الحزب في العاصمة موسكو، ضمن الدفعة الأولى من تبديلات المناصب التي أجراها الأمين العام الجديد فور تسلمه منصبه في 1985.
اعتقد غورباتشوف أن يلتسين الديناميكي والإصلاحي سيكون سنداً له في المنصب الحساس على رأس الحزب في موسكو بعدما نجح في إبعاد منافسه على الأمانة العامة، المسؤول السابق للحزب في العاصمة فيكتور غريشين المتشدد والتقليدي. يبد أن ظن غورباتشوف لم يكن في مكانه وبات يلتسين على رأس الخصوم «من الجهة الإصلاحية» التي تطالب بتغييرات أسرع وأعمق في الحزب والدولة.
ولم يكن لحركة إصلاحية كبرى مثل التي أطلقها الأمين العام غورباتشوف إلا أن تفرز الشيوعيين السوفيات بين مؤيد ومعارض. وفي بنية تفتقر إلى آليات التغيير الديمقراطي مثل الحزب السوفياتي، كانت المعارضة تتخذ شكل مؤامرات في الغرف المقفلة وتكتلات بين أصحاب الآراء المتشابهة. وبلغت المعارضة ذروتها في انقلاب 19 أغسطس 1991 الذي قضى عملياً على آخر فرصة لإنقاذ الاتحاد السوفياتي كدولة.
أما الموالاة، وإذا أبعدناً جانباً تلك التي تقف إلى جانب صاحب أي سلطة في كل مكان وزمان طمعاً في الامتيازات والمناصب والحماية والجاه، فلم تكن متماسكة لا سياسياً ولا فكرياً. لقد أدى ألكسندر ياكوفليف، المثقف والمطّلع على الثقافة الغربية، دور المرجع الايديولوجي لغورباتشوف ولعملية «إعادة البناء والشفافية» (البيريسترويكا والغلاسنوست). وإليه تُنسب فكرة التخلي عن الشيوعية السوفياتية التقليدية والانخراط في بناء «اشتراكية ذات وجه إنساني» أو «اشتراكية أخلاقية» من دون إغفال احتمال تفكّك الاتحاد السوفياتي وخسارته جبروته العسكري ومكانته العالمية. والمفارقة هنا، أن «الاشتراكية ذات الوجه الإنساني» شعار رفعه الشيوعيون التشيكوسلوفاكيون بقيادة ألكسندر دوبتشيك فيما عُرف بـ«ربيع براغ» الذي انتهى تحت جنازير الدبابات السوفياتية في صيف 1968.
مسار ياكوفليف صوب المكتب السياسي للحزب الشيوعي، قمة السلطة آنذاك، لم يكن استثنائياً؛ إذ إنه انخرط في السلك الحزبي مبكراً. لكنه خصّص وقتاً كبيراً للاطلاع على الأسس النظرية للفلسفة الماركسية - اللينينية وأصولها في الفكر الألماني. وثمة مَن يقول، إن جولته الفكرية انتهت به إلى تبني أراء رافضة لكل المقولات الماركسية الرئيسية باعتبارها غير قابلة للتطبيق من دون لي ذراع المجتمع البشري واللجوء إلى القمع والقسر الذي عاينه شخصياً من خلال تخفيض رتبته الحزبية بعد انتقاده تصاعد النزعة القومية الروسية في الحزب.
آراء ياكوفليف وأثرها على غورباتشوف سرعان ما أثارت انتباه «صقور» الحزب الذين تناولوا الرجل بالقدح والذم وبالتذكير بأصوله اليهودية التي تحوّلت منذ عهد جوزيف ستالين إلى سبّة يتوجب أن تُخفى، بعد أحياء تقاليد العداء للسامية العميقة في التاريخ الروسي. وحقاً، تُنسب إلى ياكوفليف فكرة «استخدام آليات النظام الشمولي لتفكيك النظام الشمولي» بمعنى لجوء قيادة إصلاحية إلى طريقة الأمر والنهي لفرض نوع من التحول الديمقراطي داخل الحزب.
... وأفكار شيفارنادزه
إدوارد شيفارنادزه الآتي إلى موسكو مثل غورباتشوف من مكان بعيد، كان الذراع الخارجية لمشروع «الإصلاحات». وباستثناء الرغبة في تغيير الوضع المتهالك، كانت خلفية شيفارنادزه تختلف اختلافاً واضحاً عن تلك التي أنتجت الأمين العام.
فهذا الرجل الجورجي الذي لم تختفِ لهجته المحلية عند تحدثه بالروسية، كان مسؤولاً في وزارة الداخلية الجورجية، وبصفته هذه أشرف على حملات مكافحة الفساد؛ ما أهّله لتولي زعامة الحزب في الجمهورية. ومن هنا غلبت سمعته كإصلاحي وعُدّ من الفريق المحيط بغورباتشوف.
ومقابل يلتسين، المعارض من الجهة الإصلاحية، ظهر إيغور ليغاتشيف «المحافظ» الذي انتقل من دعم غورباتشوف وتنظيم حملته للوصول إلى الأمانة العامة بعد وفاة يوري أندروبوف، ثم قسطنطين تشيرنينكو عامي 1983 و1985، وصل إلى التصدي لإصلاحات حليفه السابق... بعدما تبين أن مسار الأمور لا يمكن أن يقف عند مكافحة الفساد المستشري بين كبار المسؤولين الحزبيين وتغيير زعماء الجمهوريات السوفياتية البعيدة عن المركز.
غير أن ليغاتشيف نأى بنفسه عن العداء السافر لغورباتشوف. الموقف ذاته اتخذه أناتولي لوكيانوف، صديق غورباتشوف وزميله السابق في كلية الحقوق بجامعة موسكو ثم معارضه واحد المحذرين من أن سياسات صديقه ستقود إلى انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن العداء لغورباتشوف داخل الحزب شمل حلفاء سابقين مثل نائبه غيناري ياناييف ورفاقه الذين انضووا في «لجنة الدولة للحالة الطارئة» التي نظمت الانقلاب على غورباتشوف واخفقت في قيادته إخفاقاً هزلياً/ مأساوياً.
- أعوام «البيريسترويكا» في عيني طالب عربي
> وصلتُ إلى الاتحاد السوفياتي للمرة الأولى في سبتمبر (أيلول) 1985، بعد ستة أشهر تقريباً من تولي ميخائيل غورباتشوف الأمانة العامة للحزب الشيوعي. وغادرته للمرة الأخيرة في ربيع 1990 في ذروة التغييرات التي شهدتها أوروبا الشرقية. بذلك أكون أمضيت القسم الأكبر من عهد الرئيس السوفياتي الأول والأخير كطالب في الاتحاد السوفياتي، وفي عاصمته الثقافية ومهد ثورته لينينغراد (سانت بطرسبورغ، قبل الثورة البلشفية وبعد الانهيار السوفياتي).
خرجت السيارة التي أقلتنا من بيروت المقفل مطارها إلى دمشق، وكنا ثلاثة طلاب، ليلاً عبر ما كان بـ«طرق الكرامة» لنتمكن من الوصول إلى مطار العاصمة السورية صباحاً واللحاق بالطائرة الروسية المتوجهة إلى موسكو. وكان استحدِث الطريق المذكورة كبديل عن طريق بيروت - دمشق الذي كان يسيطر عليه الجيش اللبناني، بهدف إمداد الضاحية الجنوبية والشطر الغربي من العاصمة بالذخيرة والسلاح أثناء «انتفاضة الضاحية» و«انتفاضة 6 فبراير (شباط)» وخروج القسم الغربي من بيروت على سيطرة السلطة التي كان يقودها الرئيس أمين الجميل.
الطريق المظلمة التي تضيئها طلقات القنص من مواقع اللواء الثامن في الجيش اللبناني (الموالي للجميّل) والحفر التي تجعل من المرور أشبه ما يكون بالقفز على أرجوحة مطاطية، كانت كلها على تناقض مع الدروب العريضة المفضية إلى «موقف بيروت» الذي يستقبل السيارات الآتية من لبنان. فيما بدت نظافة وترتيب الطرق العريضة التي تقود إلى مطار دمشق الدولي، أشبه بمشهد من فيلم سينمائي مقارنة بالدمار والأنقاض اللذين يكتنفان المدن اللبنانية، وخصوصاً العاصمة بعد سبع سنوات من الحروب والاقتتال.
حملتنا طائرة ضخمة من طراز «إيل - 86» من دمشق مروراً بتوقف قصير في لارنكا، ثم إلى موسكو حيث فوجئنا بطقس بارد وممطر في أوائل سبتمبر (أيلول). اتساع طريق مطار دمشق، بدا شديد التواضع أمام الأوتوسترادات التي تصل مطار «شيريميتفو 2» الذي بنته شركات إيطالية لاستقبال المشاركين في أولمبياد موسكو في 1985، بقلب العاصمة السوفياتية (حينذاك).
من الفندق المخصص للطلاب الأجانب الوافدين، كانت تبدو العلامات الأولى «لإصلاحات» غورباتشوف. ذاك أن صفوفاً طويلة من المواطنين تقف أمام مخازن صغيرة. الطلاب الأقدم الذين كانوا يزورون الفندق لاستقبال أقاربهم أو للتعرف على الطلاب الجدد ومساعدتهم، أوضحوا أن الواقفين ينتظرون الحصول على زجاجتين من «الفودكا»، المشروب الكحولي الروسي الشهير والذي كان من بين أهداف «إصلاحات» غورباشوف الأولى.
فالأمين العام الجديد، وبتأثير من سلفه (ويفصل بينهما قسطنطين تشيرننكو) يوري أندروبوف الذي ترك أثراً كبيراً على صعود غورباتشوف سلم المناصب القيادية في الحزب الشيوعي، ويقال أيضاً بتأثير من زوجته صاحبة الشخصية القوية رايسا غورباتشوفا، أبدى استياءه مما يتركه إدمان الخمور على المجتمع السوفياتي وأثره على الإنتاج والانضباط والفاعلية في كل المجالات.
الطلاب الأقدم كانوا يؤكدون أن الإصلاحات ستنطلق بعد المؤتمر السابع والعشرين للحزب الذي عقد في مارس (آذار) 1986. وبالفعل أزاح غورباتشوف عدداً من منافسيه وخصومه السابقين وجاء بالحلفاء والموالين. لكن لم يكد يمضي شهر أو أكثر قليلاً على المؤتمر حتى انفجر مفاعل تشيرنوبيل النووي الذي كانت له آثار متناقضة على السياسة الداخلية للأمين العام الجديد. وبطبيعة الحال، لم نعرف بالانفجار سوى عندما أذاعت وسائل الإعلام الرسمية عنه بعد أيام عدة وقللت من شأنه.
في الأعوام التالية بدأت الأمور تتسارع. صرنا ننتظر خطابات غورباتشوف مع المواطنين السوفيات لنعرف كيف تسير أحوال البلاد التي تستضيفنا ونتلقى العلم فيها. وكان رفع السرية عن ارتكابات العهد الستاليني من المفاجآت التي هزّت وجدان الكثير من المواطنين الذين صار وقوفهم في الصفوف الطويلة يشمل أكشاك المجلات والصحف والمكتبات التي تبيع ما بدأ يُنشر عن جرائم ستالين وزبانيته. غني عن البيان، أن رافضي «شفافية» (غلاسنوست) غورباتشوف لم يصمتوا على كشف الجوانب السوداء من تاريخ الحكم الشيوعي. وظهر مَن يدافع عن ستالين وإنجازاته في بناء الاتحاد السوفياتي وتصنيعه وقيادته إلى النصر في الحرب العالمية الثانية...
بيد أن «الغلاسنوست» لم تترافق مع إنجازات اقتصادية. بل إن النهج الذي أرساه اسلاف غورباتشوف ببيع الموارد الطبيعية الضخمة من نفط وغاز ومعادن ثمينة، إضافة إلى منتوجات زراعية، وشراء السلع الاستهلاكية مقابلها، كان من الأهداف التي سدد غورباتشوف ضرباته إليها باعتبارها تمتص الثروة السوفياتية ولا تخدم الصناعات الوطنية وتعزز النزعة الاستهلاكية. ويمكن تحديد عام 1988 كبداية للتفارق بين «البيريسترويكا» التي نسمع بها لكنها تؤدي إلى اختفاء السلع الغذائية عن الرفوف وبين «الغلاسنوست» التي أصبحت أشبه بتسلية وطنية.
مجتمعنا الطالبي كان منقسماً في شأن تصديق وعود غورباتشوف. بعضنا، ممن انتمى إلى أحزاب وقوى وآلت تقليدياً الاتحاد السوفياتي وسياساته، علق آمالاً كبيرة على غورباتشوف، وكرر ما كانت تقوله الدعاية الرسمية عن أنه «مجدد الاشتراكية» ومنقذها، وأن الصعوبات التي نلمسها في حياتنا اليومية هي بمثابة الممر الإجباري نحو مستقبل اشتراكي «ذات وجه إنساني» مطهر من قسوة البلشفية وغلظة أساليبها وعنفها. والبعض الآخر، مال إلى الاعتقاد أن الأمر مقضٍ وأن الاتحاد السوفياتي يعيش أيامه الأخيرة، ولن يستطيع اللحاق بالسباق الذي زجّ نفسه به مع الغرب المتطور والغني. وأن غورباتشوف هو آخر «أمين عام» يحكم البلاد الشاسعة. ولم يملك هؤلاء أي رؤية لزمن ما بعد الاتحاد السوفياتي، لكننا كنا نلاحظ أن زملاءنا الطلاب الأذريين والأرمن، على سبيل المثال، راحوا يتبادلون النظرات شزراً في المطابخ المشتركة وفي الممرّات. وأن زميلنا من الشركس يزيد من حديثه عن التمييز الذي تتعرض له أسرته التي نفاها ستالين إلى أوزبكستان ولم يُسمح لها بالعودة إلى موطنها في جبال القوقاز. صديقي من تتارستان لم تعنِ له كل هذه الأحاديث شيئاً، فقد كان مشغول البال في كيفية إنهاء الخدمة العسكرية التي استدعي إليها.
ومع مرور الأيام كانت السلع تختفي من المخازن الرسمية لتظهر عند البائعين الذين حصلوا على رخص لإطلاق مشاريع صغيرة. وظهر من يُشجع الطلاب الأجانب على إحضار البضائع المرغوبة التي لم تقتصر، كما يسود الاعتقاد على سراويل الجينز وأدوات التجميل، بل شمل تأمين سفرهم إلى سنغافورة لشراء أجهزة كومبيوتر لمصلحة شركات خاصة ورسمية. ما كان ممنوعاً أصبح في غضون سنوات قليلة هو المطلوب. وقفز سعر الدولار في السوق السوداء إلى أرقام لم تكن في الخيال سنة وصولنا، في الوقت الذي كان التلفزيون الرسمي يتحدث عن الصعوبات التي تتكشف مع تقدم عملية الإصلاح وعن الفساد المستشري في صفوف القيادات الحزبية التي صار تبديلها خبراً ثابتاً في نشرات الأخبار.


مقالات ذات صلة

إسقاط مسيّرة قرب قاعدة جوية روسية في القرم

العالم إسقاط مسيّرة قرب قاعدة جوية روسية في القرم

إسقاط مسيّرة قرب قاعدة جوية روسية في القرم

أعلنت السلطات المعينة من روسيا في القرم إسقاط طائرة مسيرة قرب قاعدة جوية في شبه الجزيرة التي ضمتها روسيا، في حادثة جديدة من الحوادث المماثلة في الأيام القليلة الماضية. وقال حاكم سيفاستوبول ميخائيل رازفوجاييف على منصة «تلغرام»: «هجوم آخر على سيفاستوبول. قرابة الساعة 7,00 مساء (16,00 ت غ) دمرت دفاعاتنا الجوية طائرة من دون طيار في منطقة قاعدة بيلبيك».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
العالم الاتحاد الأوروبي يحذّر موسكو من استغلال الهجوم المفترض على الكرملين

الاتحاد الأوروبي يحذّر موسكو من استغلال الهجوم المفترض على الكرملين

حذّر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل روسيا، اليوم الخميس، من استغلال الهجوم المفترض على الكرملين الذي اتهمت موسكو كييف بشنّه، لتكثيف هجماتها في أوكرانيا. وقال بوريل خلال اجتماع لوزراء من دول الاتحاد مكلفين شؤون التنمي«ندعو روسيا الى عدم استخدام هذا الهجوم المفترض ذريعة لمواصلة التصعيد» في الحرب التي بدأتها مطلع العام 2022. وأشار الى أن «هذا الأمر يثير قلقنا... لأنه يمكن استخدامه لتبرير تعبئة مزيد من الجنود و(شنّ) مزيد من الهجمات ضد أوكرانيا». وأضاف «رأيت صورا واستمعت الى الرئيس (الأوكراني فولوديمير) زيلينسكي.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
العالم هجوم بطائرة مسيرة يستهدف مصفاة «إلسكاي» جنوب روسيا

هجوم بطائرة مسيرة يستهدف مصفاة «إلسكاي» جنوب روسيا

ذكرت وكالة «تاس» الروسية للأنباء، صباح اليوم (الخميس)، نقلاً عن خدمات الطوارئ المحلية، أن حريقاً شب في جزء من مصفاة نفط في جنوب روسيا بعد هجوم بطائرة مسيرة. وقالت «تاس»، إن الحادث وقع في مصفاة «إلسكاي» قرب ميناء نوفوروسيسك المطل على البحر الأسود. وأعلنت موسكو، الأربعاء، عن إحباط هجوم تفجيري استهدف الكرملين بطائرات مسيرة، وتوعدت برد حازم ومباشر متجاهلة إعلان القيادة الأوكرانية عدم صلتها بالهجوم. وحمل بيان أصدره الكرملين، اتهامات مباشرة للقيادة الأوكرانية بالوقوف وراء الهجوم، وأفاد بأن «النظام الأوكراني حاول استهداف الكرملين بطائرتين مسيرتين».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
العالم روسيا تتعرض لهجمات وأعمال «تخريبية» قبل احتفالات 9 مايو

روسيا تتعرض لهجمات وأعمال «تخريبية» قبل احتفالات 9 مايو

تثير الهجمات وأعمال «التخريب» التي تكثّفت في روسيا في الأيام الأخيرة، مخاوف من إفساد الاحتفالات العسكرية في 9 مايو (أيار) التي تعتبر ضرورية للكرملين في خضم حربه في أوكرانيا. في الأيام الأخيرة، ذكّرت سلسلة من الحوادث روسيا بأنها معرّضة لضربات العدو، حتى على بعد مئات الكيلومترات من الجبهة الأوكرانية، وفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية. تسببت «عبوات ناسفة»، الاثنين والثلاثاء، في إخراج قطارَي شحن عن مساريهما في منطقة محاذية لأوكرانيا، وهي حوادث لم يكن يبلغ عن وقوعها في روسيا قبل بدء الهجوم على كييف في 24 فبراير (شباط) 2022. وعلى مسافة بعيدة من الحدود مع أوكرانيا، تضرر خط لإمداد الكهرباء قرب بلدة في جنو

«الشرق الأوسط» (موسكو)
العالم موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

أكد سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) نشر وحدات عسكرية إضافية في أوروبا الشرقية، وقام بتدريبات وتحديثات للبنية التحتية العسكرية قرب حدود روسيا، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الروسية «سبوتنيك»، اليوم الأربعاء. وأكد باتروشيف في مقابلة مع صحيفة «إزفستيا» الروسية، أن الغرب يشدد باستمرار الضغط السياسي والعسكري والاقتصادي على بلاده، وأن الناتو نشر حوالى 60 ألف جندي أميركي في المنطقة، وزاد حجم التدريب العملياتي والقتالي للقوات وكثافته.


هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.