أحمد النواف الأحمد... الرئيس الـ9 للحكومة في الكويت

أمضى 35 سنة بين «الداخلية» و«الحرس» وحاصل على أعلى رتبة عسكرية

أحمد النواف الأحمد...  الرئيس الـ9 للحكومة في الكويت
TT

أحمد النواف الأحمد... الرئيس الـ9 للحكومة في الكويت

أحمد النواف الأحمد...  الرئيس الـ9 للحكومة في الكويت

يوم 19 يونيو (حزيران) عام 1961، وقّع أمير الكويت الراحل الشيخ عبد الله السالم الصباح وثيقة استقلال بلاده مع المندوب السامي البريطاني في الخليج العربي السير جورج ميدلتون، وألغت هذه الوثيقة الاتفاقية التي وقّعها الشيخ مبارك الصباح الحاكم السابع للكويت مع بريطانيا في 23 يناير (كانون الثاني) عام 1899 لحمايتها من الأطماع الخارجية. وحقاً يمثل الشيخ عبد الله السالم الصباح أهمية بالغة في تاريخ الكويت، فهو يعتبر رجل الاستقلال الذي أرسى التجربة الديمقراطية الفتية في الكويت. وفي عهده تم إقرار الدستور، أول وثيقة من نوعها في الخليج، ويطلق اسمه اليوم على قاعة مجلس الأمة، الغرفة التشريعية الأكثر سخونة وجدلاً في المنطقة. وهو أيضاً أول رئيس للوزراء في دولة الكويت المستقلة، إذ أصبح عبد الله السالم في 17 يناير 1962 رئيساً للحكومة وأمضى سنة في رئاستها، حتى 26 يناير 1963. ومنذ ذلك الوقت - أي خلال 60 سنة - توالى على كرسي رئاسة الوزراء 9 من «الشيوخ» (أعضاء الأسرة الحاكمة)، آخرهم رئيس الوزراء الجديد الشيخ أحمد نواف الأحمد الجابر الصباح. تحمل حكومة الشيخ أحمد النواف العتيدة الرقم 40 في تاريخ الحكومات في الكويت. وهي تأتي في ظرف سياسي حسّاس للغاية، بسبب الأزمات المتراكمة التي شهدتها البلاد نتيجة التجاذب الحاد بين الحكومة ومجلس الأمة خلال الـ15 عاماً الماضية، في عهود رؤساء الوزارات ناصر المحمد، وجابر المبارك، وصباح الخالد، إذ أصبح خلالها التنافر بين الحكومة ومجلس الأمة سمة الحياة السياسية.

أدت الخلافات المستحكمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الكويت إلى عرقلة تشريعات مهمة تحتاجها البلاد، وبخاصة في ظل أزمة «كوفيد 19» وانخفاض إيرادات البلاد بسبب تراجع أسعار النفط (قبل أن تعود للارتفاع مجدداً مطلع العام الحالي)، وإصدار قوانين أبرزها قانون الدَّين العام الذي يعتبر أساسياً لتحسين تصنيف الكويت الائتماني الذي تضرر بسبب هذه الخلافات.
لكن الواقع أن الشيخ أحمد النواف الأحمد، رئيس الوزراء الجديد، يتولّى إدارة دفة الحكومة الكويتية في ظروف سياسية إقليمية ودولية لا تختلف كثيراً عن تلك التي تواجهها البلاد منذ الاستقلال.
ذلك أنه منذ الاستقلال في العام 1962، خاضت الكويت تجاذبات سياسية محلية وإقليمية، أكدت من جديد خطورة الموقع الجغرافي الذي تتمتع به هذه الإمارة الخليجية التي تقبع أقصى شمال الخليج، في مرمى الأعاصير الأمنية والسياسية الإقليمية. وطالما عملت الحكومة الكويتية على مدّ مظلة حماية لتخفيف التوترات الإقليمية، مع سعي حثيث لتجنيب الساحة المحلية أي انشقاقات أو تصدعات نتيجة تأثير الأزمات في الإقليم. وطالما حذر قادة البلاد من مخاطر شقّ الصفّ الوطني أو تعريض الوحدة الوطنية للخطر.

نشأة رجل الأمن
أمضى رئيس الوزراء الكويتي الجديد أكثر من 35 في السلك العسكري، بداية في وزارة الداخلية، ثمّ في الحرس الوطني، متدرجاً عبر الصفوف العسكرية حتى حصوله على رتبة «فريق أول» متقاعد بوزارة الداخلية الكويتية، وهي أعلى رتبة عسكرية في هذه الوزارة. وأخيراً، توّجت هذه المسيرة في مارس (آذار) الماضي بتعيينه في منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية منذ 9 مارس.
ولد الشيخ أحمد النواف؛ وهو الابن الأكبر لأمير البلاد الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، في الكويت عام 1956 (66 سنة). وهو يلتقي مع والده الأمير في العمل بالجهاز العسكري. وللعلم، يعتبر والده الأمير الحالي الشيخ نواف الأحمد المؤسس الحقيقي لوزارة الداخلية في الكويت بشكلها الحديث، وإدارتها المختلفة، وكان تولى مسؤولية الوزارة على مدى فترتين، الأولى من مارس 1978 إلى يناير 1988، والثانية من 2003 إلى فبراير (شباط) 2006. وإبان توليه وزارة الداخلية عمل على تحديث هذه المؤسسة الأمنية، لتواجه التحديات الأمنية التي تواجهها البلاد. كذلك تولى الأمير الشيخ نواف الأحمد وزارة الدفاع عام 1988 حتى العام 1991.
وبالعودة إلى رئيس الوزراء الجديد، فإنه تلقى تعليمه في مدارس الكويت حتى الدراسة الجامعية؛ حيث حصل على بكالوريوس التجارة من جامعة الكويت. وسبق له أيضاً أن التحق بوزارة الدفاع وتلقى دورات عسكرية كثيرة، مكّنته من الحصول على رتبة ملازم أول في وزارة الدفاع عام 1985 ليلتحق بعد عام بالإدارة العامة بقوة الشرطة برتبة نقيب.
وفي وزارة الداخلية، تدرّج في المراتب الأمنية؛ حيث شغل منصب وكيل وزارة مساعد لشؤون الجنسية والجوازات، ثم منصب وكيل. وعام 2014 غادر الشيخ أحمد وزارة الداخلية، وجرى تعيينه محافظاً لحولّي بدرجة وزير. وعام 2020 عُيّن نائباً لرئيس الحرس الوطني بدرجة وزير حتى تعيينه في مارس الماضي وزيراً للداخلية.
وإلى جانب الاهتمام بالجهاز الأمني والعسكري، يعرف عن الشيخ أحمد النواف اهتمامه بالشأن الرياضي. وهو عضو الجمعية العمومية ومدير لكرة القدم في النادي العربي عام 1988، كما شغل عضوية الاتحاد الكويتي لكرة القدم في الفترة نفسها، وجرت تزكيته رئيساً لمجلس إدارة الاتحاد الرياضي الدولي للشرطة فضلاً عن ترؤسه لاتحاد الشرطة الكويتي.

وفرة اقتصادية
من جانب آخر، ثمة عناصر إيجابية مبشرة في طريق الحكومة الجديدة. إذ يتولى الشيخ أحمد النواف رئاسة الوزراء، والكويت في وضع اقتصادي «مريح»، مع وفرة السيولة التي سببها ارتفاع الإيرادات النفطية، في أعقاب التعافي من آثار «كوفيد 19» وزيادة الطلب على الطاقة، مع تصاعد التوترات الجيوسياسية حول العالم بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، وتسجيل أسعار النفط أرقاماً قياسية لم تعرفها منذ نحو عقد ونصف عقد. ووفق تقرير صادر عن البنك الدولي، فإن الكويت خرجت من الركود الاقتصادي الذي امتد لعامين بفعل جائحة «كوفيد 19»، وجرى تسجيل «انتعاشة» في 2022.
هذا الواقع الاقتصادي يلتقي مع توقعات خبراء بتسجيل الكويت نمواً اقتصادياً لم تشهده منذ سنين. ويخلص استطلاع أجرته «رويترز» لآراء خبراء اقتصاديين إلى أن النمو الاقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي (بينها الكويت) سيتسارع هذا العام إلى وتيرة لم يشهدها في آخر 10 سنوات، مشيرين إلى أن ارتفاع التضخم وتباطؤ الاقتصاد العالمي هما أكبر المخاطر. وحسب الاستطلاع، من المتوقع أن ينمو اقتصاد الكويت بنسبة 6.4 في المائة في 2022 ليكون الأسرع في 10 سنوات، مقابل 5.6 في المائة في دولة الإمارات العربية المتحدة، و4 في المائة لكل من قطر وسلطنة عمان والبحرين.
كذلك، توقع صندوق النقد الدولي في تقرير له (أبريل - نيسان 2022) نمو الناتج المحلي الإجمالي للكويت بنسبة 8.2 في المائة خلال العام الحالي 2022، و2.6 في المائة في 2023، مقارنة بـ1.3 في المائة في 2021.

حكومة ومجلس جديد
المهمة الأولى أمام الحكومة الجديدة هي رفع مرسوم بحلّ مجلس الأمة، والإشراف على انتخابات نيابية عامة. ففي 22 يونيو الماضي، أعلن ولي عهد الكويت الشيخ مشعل الأحمد الصباح، عبر التلفزيون الرسمي، حلّ مجلس الأمة (البرلمان) حلاً دستورياً والدعوة لانتخابات عامة. وجاء هذا القرار في فترة مواجهة الكويت تأزماً سياسياً بسبب خلاف حاد من نواب المعارضة في البرلمان، سبقته استقالة الحكومة. وفي حينه، قال ولي العهد الكويتي: «قررنا مضطرين ونزولاً عند رغبة الشعب... واستناداً إلى حقنا الدستوري المنصوص عليه في المادة 107 من الدستور أن نحل مجلس الأمة حلاً دستورياً والدعوة إلى انتخابات عامة».
وفي موقف يدل على الرغبة في أخذ جانب الحياد في اختيار رئيس مجلس الأمة المقبل، أكد ولي العهد: «إننا لن نتدخل في اختيارات الشعب لممثليه، ولن نتدخل كذلك في اختيارات مجلس الأمة القادم في اختيار رئيسه أو لجانه المختلفة ليكون المجلس سيد قراراته».
وللعلم، كان هذا أول حل للبرلمان في عهد أمير الكويت الحالي الشيخ نواف الأحمد، الذي تولى الحكم في سبتمبر (أيلول) 2020 بعد وفاة أخيه الشيخ صباح الأحمد الصباح. وكانت آخر مرة تم فيها حل البرلمان عام 2016.
بطبيعة الحال، يُظهر حلّ المجلس عمق الأزمة المتصاعدة في البلاد؛ حيث تعيش الكويت أزمات متتالية منذ انتخاب البرلمان الحالي في 5 ديسمبر (كانون الأول) 2020، حين حققت المعارضة تقدماً نسبياً بفوز 24 نائباً محسوباً عليها بمقاعد في مجلس الأمة المؤلف من 50 مقعداً. ومن ثم، جاءت استقالة الحكومة في أبريل تفادياً لتصويت مجلس الأمة الكويتي على طلب «عدم التعاون» مع الحكومة الذي كان مقرراً في اليوم التالي، بعد استجواب رئيس الوزراء في البرلمان.
ويعني تصويت البرلمان على عدم التعاون مع الحكومة دستورياً رفع الأمر إلى أمير البلاد ليقرر بنفسه إعفاء رئيس الوزراء وتعيين حكومة جديدة أو حل مجلس الأمة.


مقالات ذات صلة

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة جوية لمدينة هرجيسا (من منصة أكس)

«أرض الصومال»... إقليم «استراتيجي» يبحث عن هدف صعب

بين ليلة وضحاها، غزا إقليم «أرض الصومال» - «الصومال البريطاني» سابقاً - عناوين الأخبار، ودقّ ذاكرة المتابعين، إثر إعلان توقيعه مذكرة تفاهم تمنح إثيوبيا منفذاً

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.