حلم أوروبا بـ«الاستقلال الاستراتيجي» يصطدم بحرب أوكرانيا

«قمة مدريد» أكدت أهمية المظلة العسكرية الأميركية

ماكرون وفون دير لاين لدى مشاركتهما في قمة مدريد في 29 يونيو (رويترز)
ماكرون وفون دير لاين لدى مشاركتهما في قمة مدريد في 29 يونيو (رويترز)
TT

حلم أوروبا بـ«الاستقلال الاستراتيجي» يصطدم بحرب أوكرانيا

ماكرون وفون دير لاين لدى مشاركتهما في قمة مدريد في 29 يونيو (رويترز)
ماكرون وفون دير لاين لدى مشاركتهما في قمة مدريد في 29 يونيو (رويترز)

(تحليل إخباري)
وراء العناوين العريضة للقمة الأطلسية التي أنهت أعمالها الخميس في العاصمة الإسبانية، يقرأ الأوروبيون أن الدمار المروع الذي تخلفه المدافع الروسية في أوكرانيا قد أطفأ، أقله في القريب المنظور، أحلام الاستقلالية الاستراتيجية التي كانت تدغدغ الاتحاد الأوروبي منذ سنوات. ويتبينون مرة أخرى أن الحلف الأطلسي هو الحصن المنيع الذي لا غنى عنه للدفاع عن أوروبا التي كانت بدأت تشكك مؤخراً في جدوى هذه المنظمة العسكرية التي قامت من رماد الحرب العالمية الثانية وما ولدته من مواجهة باردة بين الشرق والغرب.
ومع انضمام السويد وفنلندا الذي وافقت عليه الدول الأعضاء الثلاثون، يصبح 97 في المائة من سكان الاتحاد الأوروبي تحت المظلة العسكرية والنووية للحلف، في الوقت الذي يرتفع الوجود العسكري الأميركي في أوروبا إلى أعلى مستوى منذ نهاية الحرب الباردة.
هذا التحول التاريخي الذي أعاد الحياة إلى الحلف العسكري الأطلسي بفعل الحرب في أوكرانيا التي هشمت النظام الأمني الذي كان قائماً في أوروبا، وضع الأوروبيين أمام الحقيقة التي كانوا يحاولون التهرب منها أو نكرانها، وهي أن الضمانة الأكيدة لأمنهم في الوقت الراهن لا تأتي إلا عن طريق «الناتو» وحليفهم الرئيسي الولايات المتحدة. وجاء المبدأ الاستراتيجي الجديد الذي أقره الحلف في مدريد ليجعل من القارة الأوروبية، مرة أخرى، المسرح الرئيسي للمواجهة والاحتواء مع موسكو، فيما كان الرئيس الأميركي جو بايدن يعلن نشر المزيد من القوات الأميركية في إسبانيا وبولندا ورومانيا وألمانيا وإيطاليا قبل أن يعلن في ختام القمة أمس عن حزمة مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا بقيمة 800 مليون دولار، ويؤكد أن الحرب لن تنتهي بانتصار روسيا.
منذ سنوات، سلم الأوروبيون بأن أمنهم لم يعد في خطر مباشر وأن الحلف الأطلسي انتفت مسوغاته بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، وأن قطار الاتحاد الأوروبي للاندماج السياسي والاقتصادي يسير بقوة دفعه الذاتية. لكن الاجتياح الروسي لأوكرانيا حجب فجأة هذا السراب، كاشفاً أن الاستقلال الذاتي الأوروبي ما زال قائماً على بنية أمنية يشكل الحلف الأطلسي ركيزتها الأساسية.
وكانت جميع الدراسات التي وضعها الاتحاد الأوروبي مؤخراً لتطوير سياسة دفاعية مشتركة تنطلق من فرضية استقرار إطار أمني لم تعد تشكل فيه روسيا أي تهديد، فيما كان انحسار وجود القوات الأميركية في أوروبا، التي تراجع عددها من 400 ألف إبان الحرب الباردة إلى 60 ألفاً العام الماضي، يحفز على خطوة تاريخية نحو الاستقلال الجيواستراتيجي للاتحاد.
لكن الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وهو أوسع هجوم تشنه دولة ضد أخرى على الأراضي الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية، أدى إلى تمتين حبل الصرة الذي يربط أوروبا بالحليف الأميركي، وأجبر الاتحاد على صرف النظر عن المساعي التي كان يبذلها للتخلي عن الاعتماد على الترسانة الأميركية الهائلة لتأمين حمايته عبر الحلف الأطلسي.
ومن العلامات البارزة لهذا التحول التاريخي في قمة مدريد، كان القبول السريع لطلب عضوية فنلندا، الدولة التي كانت لعقود عنوان الحياد بين الكتلتين الغربية والسوفياتية، وطلب عضوية السويد، بحيث أصبح جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي، باستثناء النمسا وآيرلندا وقبرص ومالطا، تحت عباءة الحلف الذي بات الذراع العسكرية للاتحاد.
وثمة من يعتقد أن هذا التطابق بين عضويتي المنظمتين من شأنه أن يسهل عملية اتخاذ القرارات الدفاعية في الاتحاد الأوروبي، خاصةً أن الهدف المعلن من الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي لم يكن يوماً هو الدفاع الجغرافي عن أراضي الاتحاد، المنوطة مهامه بالحلف الأطلسي، بقدر ما هو تشكيل قوات للفصل والتدخل السريع في مناطق النزاع المجاورة التي تؤثر على الأمن الأوروبي.
لكن مع ذلك، لن تكون العلاقات بين الحلف والاتحاد في منأى عن التجاذبات والتوتر، كما يستدل من إخفاق الطرفين في التوصل إلى اتفاق حول تحديث شروط التعاون بينهما بعد سبعة أشهر من المفاوضات التي بدأت أواخر الصيف الماضي بعد خروج القوات الغربية من أفغانستان أمام تقدم طالبان نحو كابل. ويذكر الحلف باستمرار أن دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في المنظمة العسكرية لا تغطي سوى 20 في المائة من موازنة «الناتو» التي تتحمل الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وتركيا والنرويج 80 في المائة منها.
ويعترف خبراء الاتحاد بأن الدول الأعضاء كانت ستحتاج لفترة لا تقل عن عقدين لتطوير القدرات العسكرية اللازمة لكي تواجه منفردة النزاعات التي يمكن أن تنفجر في محيطها، كالاجتياح الروسي لأوكرانيا وتهديدات موسكو بتوسيع دائرة الحرب، وبالتالي لم تعد تملك ترف الوقت لحماية حدودها وأصبحت بأمس الحاجة إلى الدعم الذي لا يمكن أن يقدمه لها الآن سوى الحلف الأطلسي.
وعندما قال الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أشرف على الثمانين من العمر وشهد على الحرب الباردة من بدايتها، إن بوتين كان يريد «فنلندة» أوروبا وانتهى به الأمر أن أصبحت معظم الدول الأوروبية أطلسية، كان أيضاً يوجه رسالة إلى الأوروبيين مفادها أن اللعب في دوري نوادي الدرجة الأولى يقتضي سداد الفواتير العسكرية والتنازل عن بعض السيادة للدفاع المشترك.
طويت صفحة في العلاقات الأطلسية التي جنت كل الأطراف ثمارها، خصوصاً الولايات المتحدة التي رسخت هيمنتها وما ينشأ عنها من منافع اقتصادية، فيما أتاحت للشركاء الأوروبيين تخصيص القسم الأكبر من مواردهم لأبواب أخرى غير العسكرية، ما حقق لهم مستويات غير مسبوقة من السلم والاستقرار والرفاه دفعت بالعديد من الدول إلى التنافس للانضمام إليه. لكن متانة الرابط الأطلسي ليست في منأى عن التقلبات، خاصةً إذا تبدلت وجهة الرياح على البيت الأبيض، أو إذا اضطرت واشنطن لتخصيص المزيد من الجهود للاهتمام بالتحديات المتنامية على الجبهة الآسيوية. لذلك لم يعد من خيار أمام الاتحاد الأوروبي سوى أن يتحول إلى فرع قوي ضمن البنية الأطلسية قادر على الدفاع عن نفسه ومستعد لدفع الثمن المتوجب على ذلك.


مقالات ذات صلة

الاتحاد الأوروبي يحذّر موسكو من استغلال الهجوم المفترض على الكرملين

العالم الاتحاد الأوروبي يحذّر موسكو من استغلال الهجوم المفترض على الكرملين

الاتحاد الأوروبي يحذّر موسكو من استغلال الهجوم المفترض على الكرملين

حذّر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل روسيا، اليوم الخميس، من استغلال الهجوم المفترض على الكرملين الذي اتهمت موسكو كييف بشنّه، لتكثيف هجماتها في أوكرانيا. وقال بوريل خلال اجتماع لوزراء من دول الاتحاد مكلفين شؤون التنمي«ندعو روسيا الى عدم استخدام هذا الهجوم المفترض ذريعة لمواصلة التصعيد» في الحرب التي بدأتها مطلع العام 2022. وأشار الى أن «هذا الأمر يثير قلقنا... لأنه يمكن استخدامه لتبرير تعبئة مزيد من الجنود و(شنّ) مزيد من الهجمات ضد أوكرانيا». وأضاف «رأيت صورا واستمعت الى الرئيس (الأوكراني فولوديمير) زيلينسكي.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
العالم الاتحاد الأوروبي يخطّط لإنتاج مليون قذيفة سنوياً وأوكرانيا تستنزف الذخيرة

الاتحاد الأوروبي يخطّط لإنتاج مليون قذيفة سنوياً وأوكرانيا تستنزف الذخيرة

سيطرح الاتحاد الأوروبي خطة لتعزيز قدرته الإنتاجية للذخائر المدفعية إلى مليون قذيفة سنوياً، في الوقت الذي يندفع فيه إلى تسليح أوكرانيا وإعادة ملء مخزوناته. وبعد عقد من انخفاض الاستثمار، تُكافح الصناعة الدفاعية في أوروبا للتكيّف مع زيادة الطلب، التي نتجت من الحرب الروسية على أوكرانيا الموالية للغرب. وتقترح خطّة المفوضية الأوروبية، التي سيتم الكشف عنها (الأربعاء)، استخدام 500 مليون يورو من ميزانية الاتحاد الأوروبي لتعزيز إنتاج الذخيرة في التكتّل. وقال مفوّض الاتحاد الأوروبي للسوق الداخلية، تييري بريتون: «عندما يتعلّق الأمر بالدفاع، يجب أن تتحوّل صناعتنا الآن إلى وضع اقتصاد الحرب». وأضاف: «أنا واث

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
شؤون إقليمية الاتحاد الأوروبي يطالب طهران بإلغاء عقوبة الإعدام بحق مواطن ألماني - إيراني

الاتحاد الأوروبي يطالب طهران بإلغاء عقوبة الإعدام بحق مواطن ألماني - إيراني

قال الاتحاد الأوروبي إنه «يدين بشدة» قرار القضاء الإيراني فرض عقوبة الإعدام بحق المواطن الألماني - الإيراني السجين جمشيد شارمهد، وفقاً لوكالة «الأنباء الألمانية». وأيدت المحكمة العليا الإيرانية يوم الأربعاء حكم الإعدام الصادر بحق شارمهد.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
الاقتصاد الاتحاد الأوروبي يمدد لمدة عام تعليق الرسوم الجمركية على الواردات الأوكرانية

الاتحاد الأوروبي يمدد لمدة عام تعليق الرسوم الجمركية على الواردات الأوكرانية

أعطت حكومات الدول الـ27 موافقتها اليوم (الجمعة)، على تجديد تعليق جميع الرسوم الجمركية على المنتجات الأوكرانية الصادرة إلى الاتحاد الأوروبي لمدة عام، حسبما أعلنت الرئاسة السويدية لمجلس الاتحاد الأوروبي. كان الاتحاد الأوروبي قد قرر في مايو (أيار) 2022، تعليق جميع الرسوم الجمركية على الواردات الأوكرانية إلى الاتحاد الأوروبي لمدة عام، لدعم النشاط الاقتصادي للبلاد في مواجهة الغزو الروسي. وتبنى سفراء الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي في بروكسل قرار تمديد هذا الإعفاء «بالإجماع».

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
العالم الكرملين يهدّد بمصادرة أصول مزيد من الشركات الأجنبية في روسيا

الكرملين يهدّد بمصادرة أصول مزيد من الشركات الأجنبية في روسيا

حذّر الكرملين اليوم (الأربعاء)، من أن روسيا قد توسّع قائمة الشركات الأجنبية المستهدفة بمصادرة مؤقتة لأصولها في روسيا، غداة توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمرسوم وافق فيه على الاستيلاء على مجموعتَي «فورتوم» و«يونيبر». وحسب وكالة الصحافة الفرنسية، قال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف لصحافيين: «إذا لزم الأمر، قد توسّع قائمة الشركات. الهدف من المرسوم هو إنشاء صندوق تعويضات للتطبيق المحتمل لإجراءات انتقامية ضد المصادرة غير القانونية للأصول الروسية في الخارج».

«الشرق الأوسط» (موسكو)

اتهام لرجل عرض علم «حزب الله» خلال مظاهرة مؤيدة لفلسطين

عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)
عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)
TT

اتهام لرجل عرض علم «حزب الله» خلال مظاهرة مؤيدة لفلسطين

عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)
عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)

وجهت الشرطة الفيدرالية الأسترالية اتهاماً لرجل يبلغ من العمر 36 عاماً بعرض رمز منظمة مصنفة «إرهابية» علناً، وذلك خلال مظاهرة في منطقة الأعمال المركزية بمدينة ملبورن في سبتمبر (أيلول) الماضي.

الرجل، المقيم في منطقة فيرنتري غولي، سيمثل أمام محكمة ملبورن الابتدائية في 6 مارس (آذار) المقبل؛ حيث يواجه عقوبة قد تصل إلى 12 شهراً من السجن إذا ثبتت إدانته، وفقاً لصحيفة «الغارديان».

جاءت المظاهرة ضمن فعاليات يوم وطني للعمل من أجل قطاع غزة، الذي نظمته شبكة الدعوة الفلسطينية الأسترالية في 29 سبتمبر الماضي، وشهد تنظيم مسيرات مماثلة في مختلف أنحاء البلاد احتجاجاً على التصعيد المتزايد للعنف في الشرق الأوسط.

وأطلقت الشرطة الفيدرالية الأسترالية بولاية فيكتوريا عملية تحقيق تحت اسم «أردفارنا»، عقب احتجاج ملبورن؛ حيث تلقت 9 شكاوى تتعلق بعرض رموز محظورة خلال المظاهرة.

ووفقاً للشرطة، تم التحقيق مع 13 شخصاً آخرين، مع توقع توجيه اتهامات إضافية قريباً. وصرح نيك ريد، قائد مكافحة الإرهاب، بأن أكثر من 1100 ساعة قُضيت في التحقيق، شملت مراجعة أدلة من كاميرات المراقبة وكاميرات الشرطة المحمولة، إضافة إلى مصادرة هواتف محمولة وقطعة ملابس تحتوي على رمز المنظمة المحظورة.

تأتي هذه الإجراءات بعد قرار الحكومة الفيدرالية الأسترالية في ديسمبر (كانون الأول) 2021 بتصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية، ومع التشريعات الفيدرالية الجديدة التي دخلت حيز التنفيذ في يناير (كانون الثاني) 2024، التي تحظر عرض رموز النازيين وبعض المنظمات.

وقالت نائبة مفوض الأمن القومي، كريسي باريت، إن الادعاء يحتاج إلى إثبات أن الرمز المعروض مرتبط بمنظمة إرهابية وأنه قد يحرض على العنف أو الترهيب.

المظاهرة، التي استمرت في معظمها سلمية، جاءت بعد إعلان مقتل قائد «حزب الله» حسن نصر الله في غارة جوية إسرائيلية، وهو ما اعتبره العديد تصعيداً كبيراً في الصراع المستمر في الشرق الأوسط.

وفي وقت لاحق، نُظمت مظاهرات أخرى في سيدني وملبورن وبريزبين، وسط تحذيرات للمتظاهرين بعدم عرض رموز محظورة.