الإيمان بالله والارتباط الروحاني بالمطلق ليس مجرد شأن ديني لاهوتي محض، بل هو شأن إنساني في المقام الأول حيث يعد أسمى عاطفة لدى البشر، في سعيهم إلى التوافق مع ذواتهم تحت مظلة هذه العاطفة. لكن كثيرين في عصرنا لا يعرفون تلك العاطفة نتيجة هيمنة المادة على حساب الروح.
يمكن القول بأن هذه هي الفكرة الرئيسية التي تشكل أساس كتاب «خوف ورعدة - أنشودة جدلية» للفيلسوف الدنماركي سرن كيركغور «5 مايو (أيار) 1813 - 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1855» الذي صدرت منه طبعة جديدة عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة ترجمة الكاتب المصري الراحل فؤاد كامل. ويعتبر كثير من الباحثين أن كيركغور هو المؤسس الحقيقي للفلسفة الوجودية حيث أولى اهتماما غير مسبوق بقضية الوجود العيني للفرد باعتباره يبدأ من الإنسان لا من الطبيعة، وينصب على الذات لا على الموضوع، وهذا على نقيض الفكر المجرد الذي يهمل دراسة الفرد في سبيل ما هو عام، ويهمل الجزئي في سبيل ما هو كلى.
ويلفت الكتاب إلى أن ثنائيات كيركغور لا تتوقف عند حدود «الروح - المادة»، «الكلي - الجزئي» وإنما تمتد أيضاً لتشمل «الفرد في مواجهة الحشد»، فهو ينعى عجز الإنسان عن التأمل الهادئ وانفصاله عن ذاته، وما يؤديه ذلك إلى تشربه السلبي لمبادئ الآخرين. يكتب كيركغور قائلا: يمكن للمرء أن يأكل الخس قبل أن يكتمل قلبه، غير أن الرقة النضرة لقلب الخسة وأوراقها الملتفة حول نفسها تختلف تماماً عن الأوراق الخارجية. ينطبق الأمر ذاته على عالم الروح، حيث يؤدي الانشغال المفرط إلى هذه النتيجة: «إذ نادراً جداً ما يتمكن الفرد من تكوين قلب له. وعلى الجهة الأخرى، لن يحظى المفكر، أو الشاعر، أو الشخص المتدين، الذي كون بالفعل قلبه، بأي شعبية لا لأنه شخص صعب، بل لأن الأمر يتطلب مجهوداً هادئاً وممتداً مع النفس ومعرفةً حميمية بها، فضلاً عن الحاجة إلى البقاء في عزلة معينة».
ثم يعود ليؤكد فكرته بقوله: يميل تطور العالم إلى إظهار الأهمية القصوى لتميز تصنيف الفرد المقابل للحشد... لكن هذا التصنيف لم يتحقق بشكل ملموس حتى الآن، رغم أنه معترف به بصفته فكرة مجردة. وهو ما يفسر لماذا يعتبر الناس الحديث عن الفرد ككيان منفصل نوعاً من الغطرسة والزهو بالنفس، في حين أن هذا الفرد يعبر بصدق عن معنى الإنسان: كل امرئ هو فرد مستقل.
ويذكر فؤاد كامل أن المترجم والباحث ولتر لاوري في مقدمة ترجمته الإنجليزية للكتاب نفسه، يلفت النظر إلى عدد من المفارقات في مسيرة كيركجور، فقد قام بتوقيع العديد من أعماله الأولى بأسماء مستعارة منها «يوحنا الصامت» الذي وقع به «خوف ورعدة». وفي مرحلة تالية عاد ليوقع مؤلفاته باسمه الحقيقي وأهدى كثيرا منها لما أسماه «الفرد المنفرد» الذي قد يرغب في اكتشاف معنى أعماله. ومن أبرز ما يريد كيركغور أن يؤكد عليه هو أن مجالات كالعلم والبحث الدراسي تعلمنا أن الموضوعية هي الطريق؛ بينما يعلمنا الإيمان أن الطريق الصحيح هو أن تكون ذاتياً، أن تصبح فاعلاً، وبينما يمكن للعلماء أن يتعلموا عن العالم من خلال الملاحظة، نفى كيركغور بشكل قاطع أن تكون للملاحظة قدرة على اكتشاف الأعمال الداخلية لعالم الروح.
«خوف ورعدة»... كتاب كيركغور في طبعة جديدة
«خوف ورعدة»... كتاب كيركغور في طبعة جديدة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة