لا غرابة في أن يضمحل مع مرحلتنا ما بعد العولمية كثير من الفلسفات الحداثية وما ارتبط بها من حركات فكرية، وتحل محلها فلسفات وحركات ما بعدية، تبدلت بسببها مواقع القوى والتأثير، وبات ما هو متعالٍ وتخصصي متراجعاً أمام ما هو شعبوي وعمومي.
وما تخلت الفلسفة عن تعاليها وقنعت بشعبويتها إلا لأن ما هو نظامي ومنطقي فيها لم يعد فاعلاً بقدر ما هو «معيق واستثنائي». وواحدة من تبعات النزول بالفلسفة إلى الشارع أن صار المجال مفتوحاً لهواة قراءة كتب الفلسفة، ممن يقرأونها بحثاً عن المعرفة ولا يريدون من وراء ذلك تخصصاً أو تكريساً لمجال فلسفي بعينه، أن يدخلوها متوغلين بالعموم نحو ما يثير الاهتمام ويفضي إلى التفكر، وكل بغيتهم التجول سائحين ومتفرسين فيما عالجه الفلاسفة من قضايا ومفاهيم شغلت بالهم على مرِّ الدهور ومتمتعين في الوقت نفسه بما تدرّه عليهم تلك السياحة وهذا التفرس من أفكار أو ألغاز إزاء ما يستعصي عليهم فهمه من مستغلقات يكابدونها عن طيب خاطر، قانعين بما لديهم من إمكانات، غير متطلعين سوى إلى الانتفاع بأكبر قدر من الاتجاهات والإلمام بأهم الأسماء الفلسفية، ومتعرفين إلى أهم المخاضات التي واجهوها أولئك الفلاسفة في حياتهم وما تركوه من آثار؛ بعضها معروف، وبعضها الآخر غير معروف. فيحصدون كثيراً أو قليلاً من المجتبيات والاقتناءات، ما يمكنهم هضمه وتمثله أو ما لا يمكنهم معه سوى الفرجة والاطلاع.
وهو ما نجده، في كله أو بعض منه، متجلياً في كتاب «أحفاد سقراط» للكاتب علي حسين، الصادر عام 2021. وفيه قدّم الكاتب نفسه بوصفه هاوياً لكتب الفلسفة وقارئاً محباً للفلاسفة، بلا تعيين لمدرسة بعينها أو اتجاه أو مرحلة ما، ومن دون انشغال بقضية أو نظرية وحدها.
وهذا العموم في حب الفلسفة والتعاطي مع مجالاتها هما اللذان يجعلان الكتاب واحداً من الأمثلة على نزول الفلسفة من متعالياتها ليغدو الفعل الفلسفي عاماً كفعل قراءة يومي، فتتجلى الفلسفة شعبوية؛ أولاً في صورتها القرائية بوصفها «قصة الغرام» التي تتناقلها الأجيال من أرسطو حتى ميرلوبونتي. وثانياً في اختزاليتها المعرفية، بكونها فعل إدهاش تفلسفي (أنا أندهش إذا أنا أتفلسف)، وبه يتواصل الدرس الفلسفي إلى ما لا نهاية. وثالثاً في توارثية الفعل الفلسفي من أجداد مؤسسين إلى أحفاد بناة، تجمعهم تعايشية جينالوجية وامتدادية معرفية عامة.
وقد تمثلت في كتاب «أحفاد سقراط» فاعلية الفلسفة في شعبويتها بصور عدة، منها هوايةُ مرافقة الفلاسفة. ومنها الأسئلة التي أثارها الكاتب وهو يقرأ الفلسفة كفعل إدهاش جمالي يتعدى حدود الانبهار والاستغراب إلى التأمل والاستقراء، متجاوزاً مواضعات التلقي الاستهلاكي إلى التفكر الإنتاجي، كتساؤلات تتمخض عنها إجابات تأتي في شكل اقتباسات، أو ككتابات تتوالد عن محطات من الاستذكار والاسترجاع والتأمل، أو كحصيلة تفاعلات تتقلص فيها المسافة ما بين الإدهاش والتفكر، فيتقارب الشك مع التساؤل ويتلاقى، عن دون قصد، الفكر الفلسفي مع الهواية القرائية، والمبتغى هو بلوغ الحقيقة عبر مصاحبة الفلاسفة.
ولأن التفلسف والفلسفة سيّان، لا حاجة إلى التخصصية، كما لا تفضيل لأقطاب معرفية بعينها دون غيرها، بل هي المداومة بأفقية لا فرق فيها بين السطحي والباطني، أما قوة المداومة فتتحدد بحسب ما تثيره الفلسفة في الذات القارئة من إدهاش.
ومهما كانت درجة الإدهاش، فإن الوجود هو واحد في ذاته، وهو ما مثَّل له علي حسين بحادثة طاليس المالطي الذي رفع بصره ينظر إلى النجوم فانتهت به قدماه إلى السقوط في حفرة وتلا فعل السقوط ضحكة امرأة. ولعل أولى دلالات هذه الحادثة أنه إذا كانت السماء هي مادة الإدهاش العليا، فإن الضحك هو مادته الدنيا، ومن ثم يكون طاليس أول فيلسوف في التاريخ، وتكون المرأة أول ناقدة للفلسفة. وبتراتبية فعل الإدهاش، ثم النقد، تكون الرؤية هي الفعل الحياتي السابق على الفعل الفلسفي المتأتي عن طريق الإدهاش الذي بسببه يكون الإنسان دائم التفكر في الحياة من ناحيتي فوضويتها ولا أباليتها.
ولقد وجد علي حسين في الصحافة مجالاً رحباً لأن تكون هي ملح الفلسفة، مصمماً على إدخال الفلسفة من باب الصحافة بوصفها أوسع الأبواب تماساً مع الحياة في مجريات واقعها المتسارع والمتضارب والشعبوي، فتغدو من ثم أكثر قرباً ومقروئية من لفيف عريض من القراء...
وقد تبدو مثل هذه الرغبة في تمازج الفلسفة بالصحافة تهويمية وغريبة بعيدة عن الواقعية، لكنها في غرابة ما ترتئي فعله لا تقل غرابة عما نعيشه من واقع هو نفسه لا واقعي، تحاصره النزاعات وتمزقه الفتن وتتفوق عليه الروبوتات وتهجم عليه الفيروسات بلا سابق إنذار وتشتعل فيه الحروب فجأة وتنطفئ فجأة وقد تحتدم المستجدات داخله بسرعة فائقة، يكاد الإنسان معها لا يجد وقتاً في مجاراة ركبها.
والسؤال هنا هو؛ كيف وازن علي حسين بين التفلسف بوصفه اقتباسات كتابية من شتى الفلسفات على تفاوت مدارسها وطول عصورها، وبين فعل الكتابة الصحافية التي لها مواضعاتها السريعة ومعالجتها الآنية التي لا شأن لها بالفلسفة التي تقتضي أول ما تقتضي التأني والتعمق؟ الجواب يكمن في المقالة كجنس أدبي ذي قالب معياري وتصنيفي خاص ومستقل، وللمقالة أنواع وأشكال وأنماط. ومن أنواعها؛ المقالة الأدبية والمقالة العلمية. ومن أنماطها؛ العمود الصحافي والمقالة القصيرة والطويلة والمتسلسلة. ومن أشكالها؛ المقامة والرسالة والخاطرة.
وتتفاوت نسبة توظيف الأنواع المقالية، لكن المقالة الأدبية هي أكثرها توظيفاً في الصحافة نظراً لما تضمّه داخلها من شعر وسرد وتاريخ واقتصاد واجتماع وسياسة ودين وفلسفة. ولأسلوب الكاتب أثر مهم في جعل عملية تضمين المعارف مشوقة ولا إثقال فيها.
وكلما كان الأسلوب مشوقاً كان الإتقان واضحاً في توصيل قدر معين من المعارف الفلسفية، بها تكون المقالة الأدبية قد أدت غرضها. وتعد الفلسفة الميدان الذي أتقن علي حسين تضمينه في مقالاته الأدبية، محشِّداً فيها كثيراً من أسماء الأعلام والمدارس والمفاهيم والتيارات. ومما ساهم في جعل مقالاته مشوقة اختيار عناوين جذابة تُنتقى بناء على ما في المتن من طرح لقضية أو حادثة أو حكاية، حولها تدور المقالة، والجمع بين ما هو تراثي ومعاصر، وما هو أدبي وفلسفي، ما يعطي للمقالة نكهة التنوع، فتذهب المقالة مثلاً إلى الجاحظ وما يرويه عن الكندي، ثم تعود من الكندي وسيرته الأسرية إلى رسائله وما وصل إليه صيت هذه الرسائل ترجمة وتأثيراً، ولمزجه في المقالة بين العرض المنساب بإسهاب والتعمق المحدد بإيجاز كشرحه لمشروع فكري أو طرحه لأسئلة كبرى، والارتكاز على السرد في توصيل بعض الأفكار الفلسفية، تارة عن طريق قص حكايات غريبة نقلها التاريخ الفلسفي عن هذا الفيلسوف أو ذاك، وتارة أخرى في سرد سيرة حياة فيلسوف ما، وهذا غالب على الكتاب برمته.
نزول الفلسفة إلى الشارع
«أحفاد سقراط» لعلي حسين
نزول الفلسفة إلى الشارع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة