انحسار «داعش» في العراق.. بداية النهاية أم لعبة الحرب؟

خسر معظم محافظة ديالى و75 % من «صلاح الدين» وثلث محافظة كركوك و90 % من موارده النفطية

انحسار «داعش» في العراق.. بداية النهاية أم لعبة الحرب؟
TT

انحسار «داعش» في العراق.. بداية النهاية أم لعبة الحرب؟

انحسار «داعش» في العراق.. بداية النهاية أم لعبة الحرب؟

هل هي بداية النهاية لتنظيم داعش المتطرف في العراق؟.. فطبقا للمعلومات المؤكدة فإن التنظيم خسر معظم محافظة ديالى و75 في المائة من محافظة صلاح الدين وأيضا نحو 350 كيلومترا مربعا من محافظة كركوك، وهذه تشكل أكثر من ثلث الأراضي والمدن التي كان يحتلها.
غير أن الأمر لا يكمن فقط في خسارة الأراضي التي كان يحتلها، إذ إنه «خسر نحو عشرة آلاف من مقاتليه حسب تقديرات أميركية، كما خسر نحو 25 في المائة من جهوزيته القتالية من حيث المخازن والعتاد والبنى والتحتية، والأهم من ذلك أنه فقد نحو 90 في المائة من موارده النفطية، حيث كان يسيطر على نحو 200 بئر نفطية بين العراق وسوريا لم يبقَ منها الآن سوى عشر آبار، في حين قتل نحو 10 من أبرز قادة الخط الأول له والبالغ عددهم 43 قائدا».

التأثيرات بعيدة المدى لهذه الخسارة تتمثل في ابتعاد تهديده لأمن العاصمة بغداد الذي انتهى كليا بالإضافة إلى ابتعاده عن المراقد الدينية، لا سيما الشيعية بما فيها سامراء، كما تحققت له خسارة كبيرة في محافظة صلاح الدين، حيث يوجد مجلسه العسكري فيها لأن محافظة صلاح الدين تمثل أهمية استراتيجية بوصفها تربط بين أربع محافظات هي ديالى وبغداد والموصل والأنبار. وبالتسميات فإن «داعش» خسر تكريت، وطوزخورماتو، والعلم، وآمرلي، وجرف الصخر، وجلولاء، وخانقين، والسعدية، وسنجار (شمالا) زمار، وسد الموصل. وفي الأنبار خسر قرى زوبع والهيتاوين ومعظم شرق الفلوجة والكرمة والعناز وسدة النعيمية. أما المناطق التي لا تزال تحت سيطرته فهي الموصل، وتلعفر، والحويجة، وبيجي، والحظر، والشرقاط، والفلوجة، وعانة، وراوة، والقائم، والرطبة.
كانت البداية من الموصل وبالتحديد في العاشر من يونيو (حزيران) عام 2014 حين دخل تنظيم داعش مدينة الموصل المدججة بأسلحة أربع فرق عسكرية يتولى قيادتها ثلاثة من كبار جنرالات الجيش العراقي. في اليوم التالي طرق تنظيم داعش أبواب محافظة صلاح الدين المحاذية لنينوى. ولكلا محافظي المحافظتين حكاية، الأولى مع محافظ صلاح الدين آنذاك (عام 2014) والوزير حاليا أحمد عبد الله الجبوري، والثانية مع محافظ نينوى أثيل النجيفي خلال شهر مارس (آذار) الماضي.
ما أدلى به المحافظان لـ«الشرق الأوسط» العام الماضي حين تمدد «داعش» حتى بلغ تخوم العاصمة العراقية بغداد، والعام الحالي حيث بدأ خطر «داعش» بالانحسار رغم قدرته على خوض معارك الكر والفر بلعبة مميتة.. يعطي تصورا شبه مكتمل عن الحكاية كلها من ألفها إلى يائها. محافظ صلاح الدين أحمد الجبوري كان أبلغ «الشرق الأوسط» في الحادي عشر من يونيو 2014 أنه «لا خطر على تكريت، إذ إن القوات المسلحة والشرطة تمسك بزمام الأمور، مشيرا إلى أن «هناك قسما من جرذان داعش (على حد قوله وقتها) موجودون عند أطراف الشرقاط وسوف تتم معاملتهم الليلة». لكن تلك الليلة لم تكن كمثيلاتها. عند الصباح كان (جرذان داعش) يطوقون مدينة تكريت من جهاتها الأربع تمهيدا لدخولها الذي بدا سريعا بعد أن انسحب الجميع، جيشا وشرطة. وبينما دخل الدواعش متن المدينة حيث اضطرت الحكومة المحلية بمن فيها المحافظ على الانسحاب من المدينة إلى مناطق أكثر أمنا فإن الدواعش وعلى الهامش حيث موقع القصور الرئاسية ارتبكوا ما عرف في ما بعد بمجزرة سبايكر حين قتلوا أكثر من 1700 جندي ومتطوع شيعي كانوا متحصنين في تلك القاعدة العسكرية المحصنة أصلا. بعد ذلك تجرأ تنظيم داعش كثيرا وأعلن على لسان ناطقه الرسمي أن وجهته القادمة بغداد ومن ثمن النجف وكربلاء.
اليوم وبعد مرور أقل قليلا من سنة على ما بدا تمددا غير طبيعي لهذا التنظيم الإرهابي فإنه وطبقا للحقائق على الأرض بالإضافة إلى التقارير الدولية ومنها تقرير صدر مؤخرا عن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) فإن تنظيم داعش خسر نحو 30 في المائة من الأراضي التي احتلها داخل العراق. ولكي نستكمل هذه القصة لا بد من العروج إلى رواية محافظ نينوى أثيل النجيفي بشأن الكيفية التي سقطت بها الموصل وسمحت لـ«داعش» بالتمدد. النجيفي وفي سياق روايته لـ«الشرق الأوسط» قال إن تمدد «داعش» لم يكن وليد تاريخ سقوط الموصل، بل بدا الأمر أبعد من ذلك بشهور. يقول النجيفي إن «السياسة الخاطئة التي اتبعها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي حيال أهالي الموصل هي التي أدت إلى الانهيارات في الموصل، حيث عمل على إهانة القضاء هناك وعمل على تشجيع الجيش وبعض القادة العسكريين على إهانة المؤسسة القضائية، إذ إن أحد الضباط ممن قام بإطلاق النار على أحد القضاة داخل المحكمة كان الجزاء الذي ناله هذا الضابط هو تكريمه من قبل المالكي». ويضيف النجيفي أن «المالكي كان يسعى إلى قهر إرادة المواطنين هناك لأسباب طائفية، وهو ما عمله من خلال المظاهرات، حيث كان يريد تسويق فكرة أنه هو وحده على حق وكل المعارضين له على باطل، علما بأن هناك من يطبل ويزمر له بهذا الاتجاه».
كَرّ أم فَرّ؟
ليست المعارك التي يخوضها تنظيم داعش في محافظة الأنبار اليوم تشبه المعارك التي خاضها في محافظة صلاح الدين بالأمس، ففيما خسر كثيرا من الأراضي التي كان يحتلها في صلاح الدين وهي التي اعتبرت بمثابة بداية النهاية لحكاية تمدده فإنه ورغم كثافة الهجمات التي يقوم بها في محافظة الأنبار منذ الإعلان الخاطئ عن ساعة الصفر لبدء معركة تحرير الأنبار والتي أدت إلى موجة نزوح غير مسبوق طوال الأيام الماضية، فإنه من الناحية العملية لم يحقق أي موطئ قدم جديد، الأمر الذي يعني أنه لا يزال يفقد مزيدا من الأراضي، ففي صلاح الدين وبعد تحرير مركز المحافظة مدينة تكريت فإن تنظيم داعش حاول الالتفاف على واحد من أهم الأهداف الاستراتيجية وهو مصفى بيجي الذي أطلقت عليه الحكومة العراقية تسمية مصفى الصمود نظرا لكثافة المعارك التي دارت حوله ورهان تنظيم داعش عليه، لكن مع ذلك لم يتمكن التنظيم من السيطرة عليه رغم أنه لا يزال يسيطر على أجزاء من محافظة صلاح الدين تمتد إلى قضاء الشرقاط شمالا (120 كلم عن تكريت) ويقع بمحاذاة محافظة نينوى. وفي الأنبار المحافظة المترامية الأطراف فإن تنظيم داعش حاول في الآونة الأخيرة تعويض خسائره في صلاح الدين لكنه من الناحية العملية لم يحقق ما كان يتمناه. قائد عمليات الجزيرة والبادية اللواء الركن ناصر الغنام بدا متفائلا بشأن مستقبل تنظيم داعش حيث يرى أنه بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة. اللواء الركن الغنام وفي حديثه لـ«الشرق الأوسط» يقول إن «هذا التنظيم لا بد أن يهزم في أقرب وقت ممكن بعد أن أعددنا العدة ووضعنا الخطط الكفيلة بهزيمته، ليس في المناطق التي تقع تحت قيادتي في قطاعنا، بل في كل المحافظات المغتصبة، إذ إننا لن نفرط بشبر من أرض العراق، ولن نفرط بتاريخنا وثروات بلدنا وأرضنا، ولن يكون العراق يوما قاعدة لتجمع الإرهابيين». وأضاف أنه «سيتم القضاء على الحواضن التي يتحصن فيها التنظيم، وبذلك ننظف هذه المناطق بالكامل من كل وجود لهذه العناصر، وبالتالي تتوفر كل مستلزمات تحرير الأنبار ومن ثم نينوى، إذ إن لعمليات الجزيرة والبادية دورا هاما في تعزيز العمليات القتالية في محافظة الأنبار».
نبوءة أم توقعات؟
طبقا للتقرير الصادر عن وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» فإن تنظيم داعش خسر بين 25 و30 في المائة من الأراضي التي كان يحتلها في العراق منذ سقوط الموصل خلال شهر يونيو عام 2014. وعزا البنتاغون تراجع هذا التنظيم إلى الضربات الجوية التي قام بها طيران التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية بالإضافة إلى الهجمات التي قامت بها القوات العراقية مدعومة بفصائل الحشد الشعبي الشيعي لا سيما في محافظة صلاح الدين. وقال الكولونيل ستيفن وارن المتحدث باسم البنتاغون طبقا لوكالة الصحافة الفرنسية إنه «يتم دفع تنظيم داعش إلى التراجع ببطء»، مضيفا أن «قوات الأمن العراقية والتحالف الدولي ألحقا بالتأكيد بعض الأضرار بتنظيم داعش». وأشار إلى أن «التنظيم خسر ما بين 13 إلى 17 ألف كلم مربع خصوصا في شمال ووسط العراق».
المتحدث السابق باسم وزارة الداخلية العراقية والخبير العسكري اللواء الركن عبد الكريم خلف يقول في تلخيص لما حصل لـ«الشرق الأوسط» جراء العملية العسكرية التي أطلق عليها «لبيك يا رسول الله» إن «العمليات العسكرية التي جرت في محافظة صلاح الدين أدت إلى تطهير أكثر 12 ألف كلم من مجموع مساحة محافظة صلاح الدين البالغة 25 ألف كلم مربع»، مضيفا أنه «لم يتبقَّ من محافظة صلاح الدين سوى 6 آلاف كلم مربع، وهي المنطقة المحصورة بين شمال بيجي إلى جنوب محافظة نينوى والمتمثلة بقضاء الشرقاط وبعض القرى التابعة له وصولا إلى قضاء الحضر بمحافظة نينوى». وفي الوقت الذي بدا فيه تنظيم داعش خسر معظم محافظة صلاح الدين وقبلها محافظة ديالى فضلا عن المناطق القريبة من حزام بغداد، لا سيما جرف الصخر فإنه حاول تعويض تلك الخسائر من خلال تكثيف الهجمات على مدن محافظة الأنبار باعتبار أن الأنبار حاضنته الأولى.
حالة تعويض
وبينما استثمر التنظيم الخلل الناجم عن إعلان ساعة الصفر لبدء معارك الأنبار بطريقة بدت مستعجلة من قبل القيادات العسكرية العراقية فقد جاءت أخبار إصابة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي جراء غارة أميركية وتعيين خليفة مؤقت له هو أبو العلاء العفري لتخلط الأوراق على الجميع. ومع أن التنظيم لم يحقق مواطئ قدم جديدة يمكن أن تعوض له خسائره في ديالى وصلاح الدين ومناطق شمال العراق فإنه وطبقا لما أكده الخبير المتخصص بشؤون الجماعات المسلحة الدكتور هشام الهاشمي المستشار في الأمن الوطني العراقي لـ«الشرق الأوسط» فإن «تنظيم داعش عمل في أكثر من جبهة، واتبع استراتيجية شاملة للوصول إلى أهدافه عن طريق العمل من خارج المدن ومن داخلها (الخلايا النائمة)، وانتهز حالة استعجال قيادة عمليات الأنبار في بدء المعركة، والتناقض بين التحالف الدولي والحشد الشعبي، لمحاولة السيطرة على الرمادي، وخصوصا أنه لم يواجه مقاومة قوية من القوات المشتركة والعشائر». ويضيف الهاشمي أن «مما ساعد داعش على تعديل المعادلة لصالحه تشتت القوة بين أعضاء مجلس المحافظة وشيوخ العشائر، وانقسام مؤسسات الجيش والأمن واختراق الصحوات وتعدد الولاءات والفساد المالي الكبير»! معارك الأنبار لم تضع أوزارها بعد وبالتالي فإن الحديث عن تقهقر «داعش» بالاستناد إلى المناطق التي خسرتها في المدن والمحافظات التي أشرنا إليها، وهي ليست قليلة بالتأكيد لا يزال مبكرا ما لم تحسم المعارك الجارية في الأنبار لا سيما في منطقة الثرثار، فبينما أقرت الحكومة العراقية بمصرع قائدين كبيرين هما قائد الفرقة الأولى وآمر أحد الأولوية فإنها نفت حصول إعدامات جماعية طبقا لما تم تداوله. وزير الدفاع العراقي خالد نفى ما تناقلته بعض وسائل الإعلام عن وجود عمليات قتل جماعي بحق جنود عراقيين من قبل تنظيم داعش في محافظة الأنبار. العبيدي تحدث أمام وسائل الإعلام عن تقدم كبير للقوات العراقية في ناحية الكرمة التابعة للفلوجة، لكن القريبة من بغداد في الوقت نفسه. ومع تكرار الحديث عن إصابة البغدادي بجروح بليغة فإن تنظيم داعش لا يزال يرمي بثقله في محافظة الأنبار المترامية الأطراف التي يصعب نشر قطعات عسكرية في كل مناطقها، لا سيما أن هذه المحافظة تحتل نحو ثلث مساحة العراق. أحد سياسي محافظة الأنبار الأستاذ في جامعتها فارس إبراهيم يرى في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «ما يجري على صعيد معارك الأنبار والخلل الذي حصل جراء مباغتة القائد العام للقوات المسلحة حين أعلنت ساعة الصفر لبدء معركة تحرير الأنبار من قبل مجلس المحافظة لا القائد العام للقوات المسلحة إنما يشير إلى خلل كبير لم ينتبه إليه كثيرون». إبراهيم يضيف أن «ساعة الصفر التي أعلنت لم تكن في الواقع سوى ساعة صفر لتنظيم داعش من قبيل إعطائه الضوء الأخضر لبدء الهجوم الذي بدأ بتطويره حتى وصل إلى منفذ طريبيل الحدودي في محاولة لخلط الأوراق ووضع القيادة العسكرية العراقية أمام وضع في غاية الصعوبة». وأشار إبراهيم الذي هو أحد أعضاء مجلس القبائل المنتفضة ضد «داعش» إلى أن «عملية النزوح الكبير لم تكن سوى مكيدة أريد بها إفراغ مدينة الرمادي من سكانها لكي يدخلها الدواعش بحرية». وردا على سؤال بشأن الهدف النهائي من هذه العملية قال إبراهيم إن «الصفحة الثانية من هذه العملية هي عزل محافظة الأنبار عن كل العراق وتحقيق الهدف الذي ترمي إليه بعض الجهات داخل المحافظة وخارجها لتقسيم العراق بدء من الأنبار تحت ستار الإقليم السني».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.