روسيا في أوكرانيا: أهداف كبيرة... ووسائل صغيرة

روسيا في أوكرانيا: أهداف كبيرة... ووسائل صغيرة
TT

روسيا في أوكرانيا: أهداف كبيرة... ووسائل صغيرة

روسيا في أوكرانيا: أهداف كبيرة... ووسائل صغيرة

يقول الجنرال الألماني فون مولتكيه إن أفضل خطط الحرب لا تصمد بعد الطلقة الأولى. فالطلقة تخرق باب الواقع الميداني لتفتح نافذة على الكثير من الأخطاء في الخطط التي كانت موضوعة عبر تبسيط مُخيف لواقع هو أصلاً مُتخيّل. لذلك يُقال في الحرب: «يُحضّر دائماً للسيناريو السيئ مع الأمل بحصول الممتاز».
الحرب مثل السياسة. هي فعل اجتماعي بامتياز. حتى ولو بدأنا نعايش مرحلة استعمال الذكاء الصناعي في الحروب. لكن يبقى أنّ اليد التي تصنع هذا الذكاء هي بشريّة بامتياز، على الأقل حتى الآن. الذكاء الصناعي، والذي هو أصلاً من صنع الإنسان، سيكون حتماً على صورة الإنسان. فهو خالقه. لذلك ستبقى الحرب اجتماعيّة دمويّة وعنفية بامتياز.
يقول كلوزفيتز إن كل شيء في الحرب سهل، لكن أسهل شيء فيها معقّد جدّاً. كما أن للاستراتيجيّة بطبيعتها مفارقة (Paradox) خاصة بها. لكن كيف؟
مثلاً، إذا درس عدوّان بعضهما البعض، فهذا يعني أنهما قادران على رسم استراتيجيّة مُلائمة بعضهما ضدّ بعض بسبب هذه الدراسة. وعليه قد لا يذهب أي منهما للحرب لأنه يعرف أن استراتيجيّته مكشوفة مسبقا للآخر. إذاً ما العمل؟
على كلّ منهما اختيار استراتيجيّة لا تخطر ببال الآخر، تفاجئه، تخلخل تركيبته وقناعاته، تحرمه من التأقلم السريع مع مجريات الأمور. لكن هكذا تصبح الاستراتيجيّة معقّدة ومُكلفة.
وهذه مفارقة تأخذنا إلى خرق أهم مبدأين من مبادئ الحرب العشرة: «الاقتصاد بالقوى، والبساطة».
ترتبط الاستراتيجيّة بموازين القوى بشكل مباشر. الضعيف يُركّز على نقاط الضعف لدى الآخر، ويستعمل نقاط قوّته إلى الحدّ الأقصى. أما القوي فهو مُطمئن، لأنه في الحدّ الأدنى قادر على التعويض عن خسارته في حال حصلت. وهنا يدخل مبدأ اللاتماثليّة (Asymmetry).
- الحرب الأوكرانيّة... من الماكرو إلى الميكرو
أراد الرئيس بوتين تحقيق أهدافه الكبرى، عبر استعادة مناطق نفوذ الاتحاد السوفياتي التقليديّة في المحيط المباشر. كما أراد إعادة صياغة المنظومة الأمنيّة في كلّ أوروبا، قسراً وعبر التهديد، ليزجّ بنفسه لاعباً أساسياً فيها، لكن ليس من ضمنها -المنظومة. هو خارج تحالف «الناتو»، لكن ظلّه يحوم حوله.
مقابل هذه الأهداف الكبيرة، التي قد تُعيد رسم النظام العالمي ككلّ. تجسّدت وسائل الرئيس بوتين على المسرح الحربي الأوكراني بشكل متواضع جدّاً جدّاً. بكلام آخر، لم يدعم البُعدان التكتيكي والعملانيّ، على المسرح الأوكراني، استراتيجية الرئيس بوتين الكبرى بنجاحات ما. وذلك بسبب عدّة عوامل بينها: سوء الأداء والقيادة، واللوجيستيّة وحتى عدم تناسب الوسائل التي خصّصها مقابل قيمة الأهداف العليا المرسومة.
حتى قيل عن استراتيجيّته إنها ارتكزت على ما يُسمّى «تفاؤل الحرب» (War Optimism).
وللتعويض عن النواقص، اعتمد بوتين المعادلة التالية: «خوض الحرب التقليديّة، وحمايتها بالتهديد النوويّ». من هنا طلبه من قيادة أركانه تجهيز الترسانة النوويّة.
إذاً هناك الكثير من الآمال الاستراتيجيّة في مقاربة الرئيس بوتين للحرب الأوكرانيّة. لكن الأمل لا يُصنّف استراتيجيّة.
كان الرئيس جو بايدن، واضحاً جدّاً استراتيجيّاً (Strategic Clarity). أميركا و«الناتو» لن يقاتلا في أوكرانيا. ولن تسعى أميركا إلى حرب عالميّة ثالثة. هكذا حاول الرئيس بايدن رسم الخطوط التي يمكن للرئيس بوتين التحرّك ضمنها.
لكنّ الحرب الأوكرانيّة، جمّعت الغرب المتفرّق، حول الولايات المتحدة الأميركيّة وبقيادتها مجّدداً. أعادت إحياء «الناتو». حتى قال البعض بعودة الـPax Americana، وذلك بالإضافة إلى العزل السياسيّ، الاقتصادي والمالي لروسيا.
- على ماذا يتّكل الغرب؟
تغيير النظام في روسيا؟ ممكن، لكنّ أمر تغيير النظام يقوم على مثلثّ ممسوك جدّاً من الرئيس بوتين (الجيش، وأجهزة الاستخبارات، والنخب الاقتصاديّة التي تدور في فلك الرئيس) ليس سهلاً. حتى الآن، لا شيء يُظهر الخلاف ضمن هذه المجموعة على الأقلّ علناً. وقد يعود هذا الأمر إلى أن الثمن المدفوع حتى الآن من روسيا لغزوها أوكرانيا لم يصل إلى درجة انهيار مثلّث القوّة في موسكو.
إغراق بوتين في أوكرانيا؟ ممكن، لكنّ تداعيات الغرق الروسي ستكون سلبية ومباشرة على أوروبا بسبب القرب الجغرافيّ، على الأقل بسبب حركة النزوح الكبيرة.
هذا مع التذكير بأن أحد أسس العقيدة الروسيّة النوويّة يتضمّن بنداً يقول: «عندما يُهدّد خطر تقليدي (أكرّر، تقليدي) الأمن القومي الروسي قد يُستعمل السلاح النوويّ». المسرح الأوكراني مسألة حياة وموت بالنسبة للرئيس بوتين، حسب قوله.
إذاً من الجهّتين الروسيّة والغربيّة، هناك أهداف جيوسياسيّة كبيرة جدّاً، لا تتناسب مع الوسائل المخصّصة لها. وعليه قد يُقرّر المستوى التكتيكي ونجاحاته صورة المستوى الجيوسياسيّ. لكننا في أوّل الطريق، واللعبة لا تزال فتيّة، بين فعل وردّ فعل، والخوف دائماً من الحسابات الخاطئة.
في الختام، علّق أحدهم على السلوك الغربي تجاه روسيا قائلاً: «إذا أردت أن تخيف الدبّ، فما عليك إلا أن تُحدث جلبة كبيرة، كما عليك أن تُكبّر حجمك». هكذا فعل الغرب. جلبة كبيرة. كبّر حجمه. لكن الامتحان الكبير للغرب هو حين لا يُردع الدبّ بهذا السلوك.


مقالات ذات صلة

روسيا تسيطر على بلدات استراتيجية في شرق أوكرانيا

أوروبا جندي أوكراني على خط المواجهة مع القوات الروسية في منطقة دونيتسك (رويترز)

روسيا تسيطر على بلدات استراتيجية في شرق أوكرانيا

أعلنت روسيا، الأحد، أن قواتها سيطرت على بلدات في منطقتين رئيسيتين تقعان على خط الجبهة في شرق أوكرانيا، فيما يتقدم جيشها باتجاه مدينتين استراتيجيتين.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا أرشيفية لأحد مباني مدينة بيلغورود الروسية عقب استهدافها بمسيرة أوكرانية (إ.ب.أ)

 روسيا تعلن تدمير 15 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل

قالت وزارة الدفاع الروسية، اليوم (الأحد)، إن أنظمة الدفاع الجوي الروسية دمرت 15 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أميركا اللاتينية قوات روسية بمنطقة كورسك على الحدود مع أوكرانيا (أ.ب)

زيلينسكي: هناك مزيد من الجنود الكوريين الشماليين يقاتلون في كورسك

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إن الجيش الروسي بدأ في نشر المزيد من الجنود الكوريين الشماليين خلال الهجمات على كورسك بالقرب من الحدود الأوكرانية.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (قناته عبر «تلغرام»)

زيلينسكي يصدر تعليمات لإنشاء آليات لتوريد الغذاء إلى سوريا

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إنه أصدر تعليمات لحكومته بإنشاء آليات لتوريد الغذاء إلى سوريا بالتعاون مع المنظمات الدولية في أعقاب سقوط نظام الأسد.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا عربة عسكرية أوكرانية تحمل أسرى يرتدون الزي العسكري الروسي بالقرب من الحدود مع روسيا (أ.ف.ب) play-circle 00:45

زيلينسكي: روسيا تنشر مزيداً من القوات الكورية الشمالية في كورسك

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، السبت، إن موسكو بدأت إشراك «عدد ملحوظ» من القوات الكورية الشمالية.

«الشرق الأوسط» (كييف)

مقتل المئات جراء إعصار في أرخبيل مايوت الفرنسي (صور)

تلة مدمَّرة في إقليم مايوت الفرنسي بالمحيط الهندي (أ.ب)
تلة مدمَّرة في إقليم مايوت الفرنسي بالمحيط الهندي (أ.ب)
TT

مقتل المئات جراء إعصار في أرخبيل مايوت الفرنسي (صور)

تلة مدمَّرة في إقليم مايوت الفرنسي بالمحيط الهندي (أ.ب)
تلة مدمَّرة في إقليم مايوت الفرنسي بالمحيط الهندي (أ.ب)

رجحت سلطات أرخبيل مايوت في المحيط الهندي، الأحد، مقتل «مئات» أو حتى «بضعة آلاف» من السكان جراء الإعصار شيدو الذي دمر في اليوم السابق قسماً كبيراً من المقاطعة الفرنسية الأفقر التي بدأت في تلقي المساعدات. وصرّح حاكم الأرخبيل، فرانسوا كزافييه بيوفيل، لقناة «مايوت لا بريميير» التلفزيونية: «أعتقد أنه سيكون هناك مئات بالتأكيد، وربما نقترب من ألف أو حتى بضعة آلاف» من القتلى، بعد أن دمر الإعصار إلى حد كبير الأحياء الفقيرة التي يعيش فيها نحو ثلث السكان، كما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية. وأضاف أنه سيكون «من الصعب للغاية الوصول إلى حصيلة نهائية»، نظراً لأن «معظم السكان مسلمون ويدفنون موتاهم في غضون يوم من وفاتهم».

صور التقطتها الأقمار الاصطناعية للمعهد التعاوني لأبحاث الغلاف الجوي (CIRA) في جامعة ولاية كولورادو ترصد الإعصار «شيدو» فوق مايوت غرب مدغشقر وشرق موزمبيق (أ.ف.ب)

وصباح الأحد، أفاد مصدر أمني لوكالة الصحافة الفرنسية بأن الإعصار الاستوائي الاستثنائي خلّف 14 قتيلاً في حصيلة أولية. كما قال عبد الواحد سومايلا، رئيس بلدية مامودزو، كبرى مدن الأرخبيل، إن «الأضرار طالت المستشفى والمدارس. ودمّرت منازل بالكامل. ولم يسلم شيء». وضربت رياح عاتية جداً الأرخبيل، مما أدى إلى اقتلاع أعمدة كهرباء وأشجار وأسقف منازل.

الأضرار التي سببها الإعصار «شيدو» في إقليم مايوت الفرنسي (رويترز)

كانت سلطات مايوت، التي يبلغ عدد سكانها 320 ألف نسمة، قد فرضت حظر تجول، يوم السبت، مع اقتراب الإعصار «شيدو» من الجزر التي تبعد نحو 500 كيلومتر شرق موزمبيق، مصحوباً برياح تبلغ سرعتها 226 كيلومتراً في الساعة على الأقل. و«شيدو» هو الإعصار الأعنف الذي يضرب مايوت منذ أكثر من 90 عاماً، حسب مصلحة الأرصاد الجوية الفرنسية (فرانس-ميتيو). ويُرتقَب أن يزور وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو، مايوت، يوم الاثنين. وما زالت المعلومات الواردة من الميدان جدّ شحيحة، إذ إن السّكان معزولون في منازلهم تحت الصدمة ومحرومون من المياه والكهرباء، حسبما أفاد مصدر مطلع على التطوّرات للوكالة الفرنسية.

آثار الدمار التي خلَّفها الإعصار (أ.ف.ب)

في الأثناء، أعلن إقليم لاريونيون الواقع أيضاً في المحيط الهندي ويبعد نحو 1400 كيلومتر على الجانب الآخر من مدغشقر، أنه جرى نقل طواقم بشرية ومعدات الطبية اعتباراً من الأحد عن طريق الجو والبحر. وأعرب البابا فرنسيس خلال زيارته كورسيكا، الأحد، تضامنه «الروحي» مع ضحايا «هذه المأساة».

وخفّض مستوى الإنذار في الأرخبيل لتيسير حركة عناصر الإسعاف، لكنَّ السلطات طلبت من السكان ملازمة المنازل وإبداء «تضامن» في «هذه المحنة». واتّجه الإعصار «شيدو»، صباح الأحد، إلى شمال موزمبيق، ولم تسجَّل سوى أضرار بسيطة في جزر القمر المجاورة من دون سقوط أيّ ضحايا.