أحد الأسباب الأساسية التي قررت فيها الحكومة الإسرائيلية تسليم «الملف التركي» إلى رئيس الدولة إسحق (يتسحاك) هرتسوغ، يعود إلى استعداده الدائم للتضحية بشخصه لصالح العموم. فرئيس الوزراء نفتالي بنيت يخشى من أن يتلقى صفعة ما في أنقرة. وكذلك وزير الخارجية يائير لبيد. والحكومة بثت تصريحات وتسريبات للإعلام، قالت فيها، إنها «معنية بالتجاوب الإيجابي مع دعوة الرئيس رجب طيب إردوغان لفتح صفحة جديدة في العلاقات، غير أنها تريد أن يتحقق ذلك بمسار بطيء وحذر». وفسّر بعض الناطقين بلسان الحكومة هذا الرأي بأن «إسرائيل، منذ دخولها في أزمة مع تركيا عام 2009، تقيم علاقات وثيقة مع خصمي تركيا، اليونان وقبرص، وطورت علاقاتها لدرجة التحالف الاستراتيجي ولا تريد أن تظهر كمن أجرى انعطافاً في سياسته». لكن آخرين أضافوا تفسيراً آخر أكدوا فيه، أن «ثمة تجربة قاسية مع تركيا في الماضي، حيث إنه بعد كل انفراج في العلاقات بين البلدين كانت تركيا تفاجئ وترسل موجة عاصفة من الهجوم. وهي لا تريد تكرار ذلك».
هنا، دخل هرتسوغ على الخط بقوة. فمع أن منصبه كرئيس دولة، منصب فخري بالأساس، ولا يتمتع بأي صلاحيات سياسية، وافق على أن يتحول إلى عنوان رئيسي لتركيا. وكمحام شاطر، قال، إنه الشخص المناسب لهذه المهمة. فهو رئيس دولة وسيجتمع مع إردوغان نداً لند، حسب البروتوكول، وليس كما يحصل عندما يلتقيه رئيس الحكومة أو وزير الخارجية. وإذا مُني بفشل في أنقرة، فلن تكون تلك مشكلة كبيرة. فهو معتاد على تلقي الصفعات. ولن يتسبب في أزمة. وبالتأكيد هو قادر على تسوية الأزمات.
عُرف عن رئيس الدولة الإسرائيلي إسحق (يتسحاك) هرتسوغ كل عمره بمرونته وتوافقيته العملية. ويصفه عارفوه بأنه شخص قادر على إقامة علاقات مع الجميع، الحلفاء والخصوم، الأقرب والأبعد. ولذا؛ يلقّب في إسرائيل بـ«رجل الكومبرومايز» (التسويات التوافقية).
هرتسوغ لا يمتلك صفات قيادية، بيد أنه تمكّن رغم ذلك من الفوز برئاسة حزب العمل، والتفوق على منافسيه؛ لأنه كان الحل الوسط وسط صراع بين الزعماء القياديين. كذلك استطاع بفضل مرونتها «توافقيته» أن يصبح رئيساً للوكالة اليهودية، التي تهتم بتوحيد صفوف اليهود في العالم أجمع. وحتى في انتخابات رئاسة الدولة (رئاسة الجمهورية)، فاز بأكثرية 87 عضو كنيست مقابل 26 لمنافسته مريم بيريتس؛ ما يعني أنه حصل في التصويت السرّي على أصوات اليمين واليسار والنواب العرب أيضاً.
سياسة إرضاء الجميع
وبالفعل، لم يتأخر هرتسوغ في إرضاء الجميع حال تثبيت أقدامه في الكرسي الرئاسي. فبعد أربعة أشهر من انتخابه، سافر إلى مدينة كفر قاسم العربية، ووقف أمام أضرحة الشهداء واعتذر باسم إسرائيل دولة وشعباً عن المجزرة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية يوم 29 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1956 وراح ضحيتها 49 فلسطينياً، وطلب العفو من أهالي ضحايا. وقال هرتسوغ باللغة العربية «أحني رأسي أمام الضحايا الـ49، وأمام أبناء عائلاتهم وأمام جميع أهل كفر قاسم، وأطلب العفو باسمي وباسم دولة إسرائيل». وأضاف «أمدّ لكم من أعماق فؤادي يداً مسانِدة ومعاوِنة، متوسلاً لله تعالى أن يكون معكم لتجدوا المواساة لألمكم».
وبعد شهر تماماً، في 28 نوفمبر (تشرين الثاني)، قام هرتسوغ بزيارة إلى واحدة من أخطر البؤر الاستيطانية في المناطق الفلسطينية المحتلة، يحيط به قادة المستعمرات، واختار إيقاد الشمعة الأولى لـ«عيد الأنوار» (الحانوكاه) فيما يعتبره اليهود «مغارة المكفيلة»، وهي الحرم الإبراهيمي في الخليل. وقال هناك «لا يمكن تجاهل الصلة بين الشعب اليهودي ومدينة الخليل ومغارة المكفيلة وتراث الأجداد، مع الأخذ بعين الاعتبار الوضع المعقد فيها». ثم تابع «هذه الصلة يجب أن تكون فوق أي خلاف بين اليهود. ويجب علينا أن نواصل السعي لتحقيق حلم السلام بين كل الأديان والعقائد في هذه البلاد، وأن ننبذ كافة أنواع العنف والكراهية، متمنياً أن نضيئ البيوت بضوء كبير ونطرد الظلام».
الزيارة إلى كفر قاسم، لقيت ترحيباً كبيراً من اليسار والعرب لدرجة التأثر وإسالة الدموع، وأغضبت اليمين. أما الزيارة إلى المستوطنين في الخليل، فلقيت ترحيباً شديداً وتأثراً كبيراً لحد الدموع بين قادة اليمين والاستيطان، وأشاد به حتى النائب المتطرف بتصلئيل سموتريتش، فشكره «على هذه الخطوة الجريئة». وفي المقابل، استنكر أقطاب اليسار والنواب العرب والقادة الفلسطينيون، خطوته هذه بشدة، وقال النائب أيمن عودة، رئيس القائمة المشتركة للأحزاب العربية - الذي صوّت هو ونوابه مع انتخاب هرتسوغ رئيساً - إن «الرئيس هرتسوغ لم يذهب إلى الخليل لإيقاد الشمعة الأولى بل لإشعال النار في المدينة».
وأما الرئيس، نفسه، فقد عاد من الزيارتين إلى مقر رؤساء إسرائيل مرتاح البال. إذ قام بخطوتين تلائمان شخصيته المركبة، وفي داخله يقول: «إذا كان الأقطاب في اليمين يهاجمونني والأقطاب في اليسار يهاجمونني، إذن أنا أسير في الطريق المستقيمة». ولم ينزعج في الحالتين من الانتقادات الشديدة التي سمعها. بل تعامل معها بمنتهى الهدوء والسكون.
الرئيس «بوغي»
هكذا هو إسحق هرتسوغ. ولعلنا سنشهد الكثير من هذه المواقف له. ومَن يعرف تاريخه والبيئة التي قدم منها، يقول، إن هذه الطريقة هي أكثر ما يميز تطوره في سلالة عائلته المعروفة بشخصياتها القيادية في الحركة الصهيونية ومؤسسات الحكم في إسرائيل.
والدته أورا هرتسوغ، التي توفيت قبل أسابيع، كانت قد أطلقت عليه لقب «بوغي». ولقد رافقه هذا اللقب منذ الطفولة وحتى اليوم. وعندما كان قائداً لليسار، صار اللقب لعنة عليه؛ إذ استخدمه خصومه في اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو، للسخرية منه وللتقليل من شأنه والإيحاء للمجتمع الإسرائيلي بأنه شخص مدلّل لا يقوى على تحمل المسؤوليات الجسام المترتبة على توليه منصب رئيس الحكومة «ولا يستطيع مواجهة إيران». وقصة اللقب، كما شرحت والدته، جاء من «بوبا»، اللعبة الدمية. وقالت «كان جميل المحيا وذا وجه بريء. وكان والده يطلق عليه اسم (غوغو). ومع الزمن دمجنا الكلتين فصارتا (بوغي)».
ولد إسحق هرتسوغ عام 1960 في تل أبيب واحداً من «أمراء» السياسة الإسرائيلية، فهو من سلالة شخصيات قيادية. والده الجنرال السابق حايم هرتسوغ، المولود في بلفاست عاصمة آيرلندا الشمالية والبولندي الأصل، كان الرئيس السادس لإسرائيل، وأمضى في منصب الرئاسة عشر سنوات (1983 – 1993). وهو نفسه كان ضابطاً في الجيش البريطاني، ثم في التنظيمات الصهيونية المسلحة، ثم في الجيش الإسرائيلي، حيث تولى رئاسة شعبة الاستخبارات العسكرية وبعدها قائداً للواء الجنوبي. وعندما خلع هرتسوغ الأب البزة العسكرية عمل محامياً، ثم اختير سفيراً لإسرائيل في الأمم المتحدة. وفي أواسط سنوات السبعين، يوم اتُخذ قراراً بأن الصهيونية حركة عنصرية، اشتهر كمن مزّق الورقة التي تحمل نص القرار من على منصة الأمم المتحدة. ولاحقاً بات حاييم هرتسوغ، نائباً عن حزب «العمل»، وكان من جناح الصقور في الحزب.
أما الأم، أورا فهي من مواليد مدينة الإسماعيلية، لكنها لم تكن مصرية، بل سافرت عائلتها إلى مصر آتية من يافا، لغرض العمل. وبعد ولادتها انتقلت العائلة إلى القاهرة. وهناك تلقت علومها. ثم تابعت دراستها في جنوب أفريقيا، لاحقاً. وبعد ذلك التحقت بقوات الهاغاناه في فلسطين. وأصيبت في عملية تفجيرية قاسية ببناية الوكالة اليهودية في القدس عام 1948.
أطلق الوالدان على مولودهما اسم إسحق، تيمناً بجده الذي كان رجل دين كبيراً، وتولّى منصب الحاخام الأكبر لليهود الأشكناز في فلسطين. وترعرع إسحق هرتسوغ في تل أبيب، ثم عاش وتلقى دراسته في الولايات المتحدة (جامعة كورنيل وجامعة نيويورك)، حيث كان والده سفيراً في الأمم المتحدة بنيويورك. وعندما عاد إلى إسرائيل خدم في الحيش ضمن وحدة في الاستخبارات العسكرية «الوحدة 8200»، وحصل على رتبة رائد. ثم درس القانون في جامعة تل أبيب وأصبح شريكاً في واحد من أكبر مكاتب المحاماة في إسرائيل.
مسيرته السياسية
عام 1999 دخل هرتسوغ المعترك السياسي عندما عيّنه إيهود باراك سكرتيراً لحكومته. وبسبب قربه من باراك كاد يتورط في تهمة فساد تقضي على مستقبله السياسي. إذ أُجري تحقيق معه في صرف أموال طائلة على جمعيات وهمية لغرض كسب تمويل إضافي لحملة باراك الانتخابية، لكنه نجا من التهمة، بعدما حافظ على حقه بالصمت في التحقيق. ولما لم تنجح الشرطة في إثبات التهمة عليه صدر قرار تبرئة لصالحه عام 2003، فانخرط في العمل الحزبي من جديد ضمن حزب العمل. وانتخب نائباً في الكنيست (البرلمان) في تلك السنة.
وفي العام 2005، حصل على المركز الثاني في تصويت أعضاء حزب العمل على وزراء الحزب، الذين شكّلوا حكومة بالتحالف مع الليكود والحزب الديني «أغودات يسرائيل»، وجرى تعيينه وزيراً للبناء والإسكان، بناءً على طلبه، لكنه بعد 10 أشهر استقال وخرج مع أعضاء حزبه من الائتلاف الحكومي.
وفي 2006، كّلّف إيهود أولمرت بتشكيل الحكومة، وعيّن هرتسوغ وزيراً للسياحة. وبعد مرور 10 أشهر، ودخول حزب «إسرائيل بيتنا» إلى الحكومة، تقرر نقل وزارة السياحة إليه. واستقال هرتسوغ من منصبه، وعُيّن وزيراً للرفاة والخدمات الاجتماعية عام 2007.
بعدها، في الانتخابات التمهيدية لحزب العمل عام 2008، حصل هرتسوغ على المركز الأول في قائمة حزب العمل، وأصبح في المركز الثاني بقائمة الحزب التي سيخوض بها انتخابات الكنيست الـ18 خلف زعيم الحزب، آنذاك، إيهود باراك. وبعد فوز نتنياهو بتشكيل الحكومة في تلك الانتخابات، عُيّن هرتسوغ وزيراً للشؤون الاجتماعية والرفاه. وبعدها أصبح رئيساً للمعارضة، في مواجهة حكومة نتنياهو. ودخل في صدام مع نتنياهو متهماً إياه بعرقلة مسيرة السلام مع الفلسطينيين وبتخريب العلاقات مع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
يومذاك، كشف نتنياهو أن هرتسوغ كان يفاوضه على دخول الائتلاف الحاكم وتسليمه الملف الفلسطيني، غير تلك الجهود فشلت نتيجة للمعارضة داخل حزبه، فتراجع. وبعد ذلك لم ينجح في الوصول إلى الحكم، بل خسر في المعركة التالية، عام 2015، أمام نتنياهو بفارق 6 مقاعد. ثم خسر الانتخابات الداخلية في حزبه أيضاً، وانتخب رئيس آخر للحزب هو آفي غباي، فقدم استقالته من الكنيست واعتزل العمل الحزبي. وعام 2018 انتُخب لمنصب رئيس الوكالة اليهودية، التي تعمل بتنسيق مع الحكومة على تشجيع الهجرة إلى إسرائيل. ثم في يونيو (حزيران) الماضي انتُخب رئيساً للدولة.
مع أن منصب الرئيس في إسرائيل يُعد منصباً فخرياً، وتقتصر صلاحياته على تكليف أحد القادة بتشكيل الحكومة، ويملك أيضاً حق إصدار العفو عن المساجين والأسرى، فإن الرؤساء الأقوياء يحاولون إعطاء مضمون سياسي قيادي للمنصب ويتركون بصمات مميزة لكل منهم. ولقد صرح هرتسوغ بأنه يريد أن يهتم بالشؤون الداخلية، باعتبار أن الشروخ داخل المجتمع الإسرائيلي والصراعات الحادة بين الأفرقاء، العرب واليهود، العلمانيون والمتدينون، اليمين واليسار، هي أكثر ما يقلق الإسرائيليين. يقلقهم أكثر من إيران وأكثر من الصراع مع الفلسطينيين.
إسحق هرتسوغ... رجل «التسويات» الذي صار رئيساً لإسرائيل
سليل أسرة سياسية وعسكرية وكهنوتية لامعة
إسحق هرتسوغ... رجل «التسويات» الذي صار رئيساً لإسرائيل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة