حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا

2500 طلعة جوية كسرت شوكة الحوثيين وأعادت «الأمل» إلى اليمنيين.. والتوازن الإقليمي في المنطقة

حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا
TT
20

حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا

حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا

كان اليمن ينحدر نحو الهاوية بسرعة فائقة.. الحوثيون يبتلعون المدن والمحافظات الواحدة تلو الأخرى.. ليفرضوا بقوة السلاح توجهات الفصيل الواحد، بدعم وتواطؤ مع الرئيس السابق المخلوع علي عبد الله صالح، وبدعم من قوة إقليمية تحاول بث الصراع والعنف في الإقليم، هي إيران. لم يكتف الحوثي بالانقلاب على الشرعية، بالاستيلاء على صنعاء مركز السلطة، في سبتمبر (أيلول) الماضي، وخروج الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي، من قصره متخفيا إلى عدن، بل تسارعت خطواتهم لابتلاع اليمن، وتحركهم نحو العاصمة الثانية التي اتخذها هادي مقرا جديدا. لكن الأمور بدأت تتغير كثيرا في اتجاه عودة الشرعية، بعد رسالة وجهها الرئيس هادي إلى السعودية وقادة الخليج طالبا فيها التدخل لحماية اليمن، وسرعان ما جاء الرد عاجلا بإطلاق عاصفة الحزم في 26 مارس 2015. وتمكنت مقاتلات التحالف العربي التي تشكلت على عجل من السعودية والإمارات والكويت والبحرين وقطر والأردن والسودان ومصر والمغرب من السيطرة على الأجواء اليمنية خلال 15 دقيقة، إضافة إلى تأمين الحدود السعودية الجنوبية، وكذلك الموانئ اليمنية، عبر السفن السعودية والمصرية.
كانت البداية رسالة من الرئيس هادي، إلى قادة دول الخليج، يستنجد فيها بالتدخل العسكري من خلال قوات «درع الجزيرة» إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، وأتباع الرئيس المخلوع صالح، وكذلك تصريح من الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودية، خلال اجتماعه مع نظيره البريطاني فيليب هاموند في الرياض، يشير فيه إلى أن الرئيس اليمني يستطيع تنفيذ المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تعطي الدولة الحق في الدفاع عن نفسها في حال تدخل عسكري فيها. كلها دلائل تشير إلى بداية حملة عسكرية لحماية الشرعية والشعب اليمني من عدوان الحوثي وأعوانه. وكان اجتماع القيادات الخليجية في قصر العوجا بالرياض، قبل انطلاق عاصفة الحزم بأسبوع واحد، بمثابة اجتماع حرب.
وخلال 27 يوما حققت دول «عاصفة الحزم»، نتائج عسكرية باهرة على الأرض، واستطاعت شل حركة المتمردين، وقطع إمدادات السلاح والنفط التي تردهم من إيران، خصوصا بعد استيلائهم على القواعد العسكرية والطائرات الحربية، والصواريخ البالستية التي زودتهم بها طهران، عبر الموانئ البحرية، و14 رحلة جوية بين اليمن وإيران، جرى التوقيع عليها قبل الحرب بنحو شهر واحد. كما حققت نجاحات سياسية بتأييد قادة العالم للحملة وعلى رأسهم الرئيس الأميركي باراك أوباما، ونجاحات دبلوماسية بتأييد مجلس الأمن لعاصفة الحزم، ومنحها الشرعية من خلال إصدار قرار دولي تحت الفصل السابع يطالب الحوثيين بإعادة الشرعية للرئيس اليمني الشرعي، في مهلة محددة، قبل أن تطلق الحملة الاقتصادية «عاصفة الأمل» من أجل النهوض بالاقتصاد اليمني وإغاثة المنكوبين.
النجاحات العسكرية
واستعادة قاعدة العند
ركز تحالف «عاصفة الحزم» منذ الساعات الأولى من بدء الحملة الجوية، على استهداف مدرج القواعد العسكرية، مثل قاعدة العند التي كانت الميليشيات الحوثية تسيطر عليها خلال الفترة الماضية، وذلك لمنع استخدامها، وقطع الطريق بين صعدة وصنعاء، من خلال استهداف أحد الجسور البرية، التي يستخدمها المتمردون خلال نقلها منصات صواريخ باليستية وعربات تموين، حيث حصلت القوات الجوية السعودية التي شاركت في الطلعات الأولى، على سيطرة جوية مطلقة وبدأت في تنفيذ جميع العمليات، إذ إن أي عملية جوية تتكون من عدد كبير من الطائرات منها الهجومية ومنها التزود بالوقود وطائرات الإنذار المبكر ومنها طائرات الاستطلاع والبحث والإنقاذ. ونجحت العاصفة في استعادة العند.
وحرص قوات التحالف، في المقام الأول على سلامة المواطنين اليمنيين، من دون أن يصاب أي أحد بأذى، إذ إن هناك عددا من المواقع مثل صواريخ البالستية، ومخزن أسلحة، عمل المتمردين على تخزينها بين المدنيين داخل المجمعات السكنية، حيث تتم مراقبة تلك المواقع على الأرض، الأمر الذي تعمل عليه الميليشيات الحوثية في استخدام اليمنيين كدروع بشرية، من أجل تلافي ضربات قوات التحالف، ولكن دقة إصابة الهدف من قبل القوات الجوية، ونوعية الأسلحة المستخدمة، التي تقلل من المخاطر.
وقامت طائرات تحالف «عاصفة الحزم»، بعد أكثر من 2500 طلعة جوية، انطلقت من جميع القواعد العسكرية بالسعودية، وكذلك بعض القواعد العسكرية في دول التحالف، برصد تحركات الميليشيات الحوثية، وأعوان الرئيس المخلوع، الذين يتنقلون عبر الألوية العسكرية التي انشقت عن الشرعية اليمنية، بين المدن اليمنية في الشمال والجنوب، حيث اقترب عدد منها نحو مدينة عدن، في محاولة منهم إلى الدخول هناك، إلا أن طائرات التحالف، تصدت لهم، ووجهت لهم عددا من الضربات استهدفت عددا من الألوية العسكرية، خصوصا وأن بعضها كان يقترب من نحو باب المندب.شاركت القوات الجوية السعودية 100 طائرة مقاتلة، فيما شاركت القوات الإماراتية بـ30 طائرة مقاتلة، والقوات الكويتية 15 طائرة مقاتلة، وسلاح الجو الملكي البحريني 15 طائرة مقاتلة، والقوات الجوية القطرية 10 طائرات مقاتلة، وسلاح الجو الملكي الأردني 6 طائرات مقاتلة، والقوات الجوية المغربية 6 طائرات مقاتلة، والقوات الجوية المصرية 16 طائرة مقاتلة، والقوات البحرية المصرية 4 سفن حربية وفرقاطة بحرية، والقوات الجوية السودانية 3 طائرات حربية.
حاولت مجاميع حوثية التوجه إلى شمال اليمن، نحو الحدود السعودية الجنوبية، حيث جرى استهدافهم في الأيام الأول من العمليات «عاصفة الحزم»، ثم بدأت في مناوشات متفرقة على الحدود، حيث أطلق المتمردون صواريخ الهاون على رجال القوات البرية، وحرس الحدود السعودي، وجرى تحديد مصدر النيران، والرد عليهم بالمدافع، وطائرات «الأباتشي»، خصوصا وأن قوات التحالف، رصدت عددا من الميليشيات الحوثية، يقومون بحفر الخنادق من أجل التمركز فيها، وتخزين الأسلحة كذلك.
فشلت الميليشيات الحوثية، وأتباع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، في محاولة إطلاق صاروخ بالستي في ضواحي العاصمة صنعاء، حيث سقط نتيجة فشل في الإطلاق، وعلى الفور جرى توجيه المقاتلات التحالف إلى مكان الصاروخ، وتدميرها على الفور، خصوصا وأن عمليات التحالف ترصد باستمرار منصات صواريخ البالستية، لأن بعضها متخفية، والبعض تتنقل بين المدن، حيث نجحت المقاتلات التحالف في استهدافها.
وتمكنت قوات التحالف، من تأمين الموانئ اليمنية، ومن السيطرة عليها، وذلك بعد فرض حظر بحري على السفن التي تعبر مضيق باب المندب، حيث يجري عملية تفتيش لتلك السفن، للتأكد من سلامتها، لا سيما وأن المتمردين عملوا على نهب الوقود من الموانئ. وتحركت حينها عدد من السفن الإيرانية بالقرب من الموانئ اليمنية، وحذرت في حينها قوات التحالف، من أن أي محاولة لإمداد الحوثيين بالسلاح، سيتم اتخاذ اللازم بتوجيه الطائرات المقاتلة للتصدي لها. وفتحت دول قوات التحالف الأجواء اليمنية، لإجلاء الرعايا العالقين لبعض الدول في اليمن، حيث جرى تحديد لجنة مشكلة بقيادة وزارة الدفاع السعودي، لجدولة رحلات بعض الدول التي تقدمت بطلبات إجلاء الرعايا.
وحققت العملية العسكرية التي قادتها السعودية في اليمن أهدافها، وأصبحت بمثابة، مثالا لتحالفات عربية أخرى مستقبلا. ومع إعلان انتهاء عملية «عاصفة الحزم»، بدأت عملية جديدة اسمها «إعادة الأمل»، شريطة ألا يعني ذلك توقف استمرار العمليات العسكرية ضد الميليشيات الحوثية إذا تطلب الأمر، وتضمنت العملية تصدي قوات التحالف، تمدد نفوذ إيران في المنطقة التي أسهمت ودربت وسلحت ومولت عناصر الحوثيين في اليمن.
وأكدت قوات التحالف في حينها، أن مصير الحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله سيكون مثل المتمردين الحوثيين، في عمليات القصف الجوي التي تنفذها دول التحالف، في حال وجودهم بين صفوف الميليشيات الحوثية الذين يتلقون تدريباتهم من الإيرانيين واللبنانيين. وأوضح الدكتور علي القحطاني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الملك سعود لـ«الشرق الأوسط»، أن إنجازات عمليات تحالف «عاصفة الحزم»، كونت لدى السعودية القدرة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، على أخذ زمام المبادرة وموازنة الصعود الإيراني والتهديد الفارسي في المنطقة خلال الفترة الماضية، حيث بدأت السعودية تلعب دورًا، كان المأمل عليها في وقت سابق، إذ إن قرار تكوين التحالف بقيادة السعودية، هو شجاع، ويحسب للسياسة الخارجية السعودية، وكذلك المحلية. وقال الدكتور القحطاني، إن كل أفراد الشعب السعودي، اصطفوا خلف قرار القيادة وتكوين التحالف العربي، ليصب في مصلحة المملكة والعالم العربي والأمة الإسلامية في ظل تمدد الفارسي المتطرف، إذ إن تحالف «عاصفة الحزم» الذي استمر 27 يومًا، غير الكثير من قوى التوازن في الداخل اليمني، لصالح القوات التي تدعم الشرعية، وأصبحت المدن الشمالية والجنوبية في اليمن، في موقف الهجوم، وليس الدفاع بما كان عليه سابقًا.
وأضاف «بعد تدخل التحالف، استجابة لرسالة الرئيس اليمني لدول الخليج، غيرت المفاهيم، وأصبح وضع القوى السياسية اليمنية، ومفاوضاتهم مع الميليشيات الحوثية، أو أتباع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، ستكون من واقع قوة، من دون الرضوخ إلى تهديدات الحوثي وغيرهم».
وكان بريت ماجيريك، نائب المبعوث الأميركي لقوات التحالف، أكد مساندة الولايات المتحدة لجهود التحالف الذي تقوده السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ضد الحوثيين، مشيرا إلى أن واشنطن ستحارب بكل قوتها من يعتدي على السعودية. وقال ماجيريك إن «الحوثيين كانوا بتصرفاتهم السبب وراء التحرك العسكري ضدهم».
فيما دارت اتصالات واجتماعات سياسية على ضوء بدء العملية السياسية العسكرية، ابتداء من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي تلقى الكثير من الاتصالات من رؤساء قادة الدول التحالف، وغيرهم وكان آخرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وزار قادة وزراء الدفاع في دول التحالف، الرياض خلال عمليات «عاصفة الحزم»، والتقوا بالأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، وزير الدفاع السعودي، وتباحثوا حول مشاركة قوات التحالف في عملية رد العدوان ضد الميليشيات الحوثية.
انتصار مجلس الأمن
وصدر قرار مجلس الأمن رقم 2216 حول اليمن، بتأييد 14 عضوا بمجلس الأمن لصالحه وامتناع روسيا عند التصويت، بطلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من مجلس التعاون وجامعة الدول العربية التدخل العسكري لحماية اليمن من عدوان الحوثيين وإلى قرار مؤتمر القمة 26 لجامعة الدول العربية، الذي أكد على ضرورة استئناف عملية الانتقال السياسي بمشاركة جميع الأطراف اليمنية وفقا لمبادرة مجلس التعاون الخليجي، مع ضرورة الالتزام بوحدة اليمن وشرعية الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي ويكرر دعوته لكل الأطراف بالامتناع عن اتخاذ أي تدابير من شأنها تقويض وحدة اليمن ويعرب عن قلقه من تدهور الأوضاع الإنسانية وضرورة توصل المساعدات الإنسانية ويحذر من هجمات تنظيم القاعدة وقدرته على استغلال تدهور الأوضاع.
ويؤكد القرار على ضرورة العودة لتنفيذ مبادرة مجلس التعاون الخليجي وصياغة دستور جديد وتنظيم الانتخابات في اليمن، من دون التصعيد العسكري الذي يقوم به الحوثيون في محافظات تعز ومأرب والبيضاء واستيلائهم على الأسلحة بما في ذلك منظومات القذائف من المؤسسات العسكرية والأمنية اليمنية ويدين بأقوى العبارات الإجراءات الأحادية للحوثيين ويطالبهم بتنفيذ قرارات مجلس الأمن السابقة بسحب قواتهم والإفراج عن المعتقلين والتوقف عن تقويض عملية الانتقال السياسي في اليمن.
وتتضمن الشروط، الكف عن استخدام العنف، وسحب قواتهم من جميع المناطق التي استولوا عليها بما في ذلك العاصمة صنعاء، والتخلي عن جميع الأسلحة التي استولوا عليها من المؤسسات العسكرية والأمنية بما في ذلك منظومات القذائف، والتوقف عن جميع الأعمال التي تندرج ضمن نطاق سلطة الحكومة الشرعية، والامتناع عن الإتيان بأي استفزازات أو تهديدات للدول المجاورة، والإفراج عن وزير الدفاع محمود الصبيحي وعن جميع السجناء السياسيين وجميع الأشخاص رهن الإقامة الجبرية، وإنهاء تجنيد الأطفال وتسريح جميع الأطفال المجندين في صفوفهم.
فيما أكد الدكتور عبد الله العسكر، عضو مجلس الشورى السعودي لـ«الشرق الأوسط»، أن العملية السياسية مستمرة للأوضاع التي تعاني منها اليمن خصوصا بعد تدخل دول قوات التحالف في العملية العسكرية، مشيرًا إلى أن العملية السياسية ستتجه إلى أفق أوسع من ذلك، على أن تكون طاولة الحوار اليمنية اليمنية، تبدأ مما انتهت إليه، المبادرة الخليجية التي وقعت في الرياض، وكذلك الحوار الوطني اليمني.
وأضاف «عملية بدء الحوار، تجرنا إلى صراع، إذ إن إيران تريد أن تبدأ من الصفر في الحوار، لأن مصلحة اليمن والسلم، ليست من أولوياتها، بل يهمها زرع البذرة ونمو الميليشيات الحوثية فيها، وأن المنطقة ليست بحاجة إلى لبنان أخرى، وعلى الجميع إذا أرادوا الحوار، أن يتركوا السلاح قبل الجلوس على طاولة الحوار».
وأشار الدكتور العسكر إلى أن العملية السياسية، أصعب من العملية العسكرية التي تعرف متى تبدأ، ومتى تنتهي، حيث يبدو أن ما يجري على الأراضي اليمنية هو التحكم في اتجاهات السياسية، إذ إن هناك أطرافا محلية لها مصالح مثل الميليشيات الحوثية، وأتباع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، وكذلك الشرعية اليمنية المتنفذة في الحكومة والأحزاب السياسية، وهناك أطراف خليجية هم دول مجلس التعاون، وطرف إقليمي إيران، وكذلك دولي من حيث تحكم السفن في المضيق الحيوي الذي يعبر من خلاله 16 في المائة من نفط الخليج، فالعملية السياسية لن تأخذ مجراها الطبيعي، فينبغي أو يتوقع التحالف بأن الأرض لا تزال بين المقاومة والحوثيين، وسيحاول كل طرف الكسب أكثر كمية من الأرض بحيث إذا بدأت الحالة السياسية يكون له صوت أعلى بكثير.
وأضاف «استبق الدكتور رياض ياسين، وزير الخارجية اليمني المكلف، في تصريح له بأن الحكومة الشرعية تسيطر على 70 في المائة، وهو يحاول أن يستبق الأحداث، وهذا معناه أن الأطراف الأخرى الذين ثاروا على الشرعية، وحاولوا الاستيلاء على اليمن كلها، فقدوا الأرض ومن عليها من السكان ومن التأيد الشعبي، وبالتالي ضربة قوية ضد المتمردين».



سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
TT
20

سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)

بعد نحو ستة عقود من الجهود والمساعي الحثيثة لمواجهة الأزمة السكانية، يبدو أن سياسات مصر في هذا الصدد بدأت تؤتي ثمارها، محققة اختراقاً نادراً يتمثل بتراجع معدل المواليد؛ ما ينبئ بإمكانية الوصول إلى المستهدفات بحلول عام 2030. جاء هذا الاختراق مقترناً بما أعلنه نائب رئيس الوزراء المصري ووزير الصحة الدكتور خالد عبد الغفار، أخيراً، عن «تسجيل أقل معدل نمو سكاني في البلاد خلال الربع الأول من العام الحالي، مقارنة بالربع الأول من 2024 وكذلك عام 2023، في استمرار لانخفاض معدلات الزيادة السكانية على مستوى ربوع البلاد». وهو ما عدَّه وزير الصحة «إنجازاً يعكس نجاح الجهود الحكومية المبذولة لتحقيق التوازن بين النمو السكاني والتنمية المستدامة».

وزير الصحة المصري في جولة داخل أحد المستشفيات (أرشيفية - وزارة الصحة المصرية)
وزير الصحة المصري في جولة داخل أحد المستشفيات (أرشيفية - وزارة الصحة المصرية)

تراجع نمو معدل المواليد لا يعني بالضرورة تراجع عدد السكان أو ثباته. وفيما يخص مصر، فإنها لم تصل بعد إلى نسبة التوازن المستهدفة، التي يتساوى فيها معدل المواليد مع معدل الوفيات أو ما يعرف بـ«السكون السكاني».

ووفق ما أعلنه وزير الصحة المصري، الدكتور خالد عبد الغفار، بلغ عدد السكان في أول يناير (كانون الثاني) 2023 نحو 104.4 مليون نسمة، وارتفع إلى 107.2 مليون نسمة في أول يناير 2025؛ ما يعني أن متوسط معدل النمو السنوي خلال تلك الفترة بلغ نحو 1.34 في المائة، مقارنة بمعدل 1.4 في المائة عام 2024، و1.6 في المائة خلال عام 2023، مشيراً إلى أن ذلك يعكس «تحولاً إيجابياً نتيجة للسياسات السكانية التي تنفذها الدولة».

عدد سكان مصر بلغ عام 1897 نحو 9.7 مليون نسمة، لكنه تزايد تدريجياً حتى أضحت قضية الزيادة السكانية واحدة من القضايا المدرجة على أجندة الدولة المصرية منذ الستينات من القرن الماضي. وبالفعل، أسّس «المجلس الأعلى لتنظيم الأسرة» عام 1965. وفي منتصف الثمانينات أُسّس «المجلس القومي للسكان». ومن ثم تواصلت الجهود للحد من الزيادة السكانية، وكان الحدث الأبرز عام 1994 استضافة مصر مؤتمراً دولياً عن السكان والتنمية، لتتخذ الجهود منحًى آخر أكثر كثافةً ترافق مع حملات إعلامية بشعارات لافتة من قبيل «قبل ما نزيد مولود نتأكد أن حقه علينا موجود».

مؤشر إيجابي

لعقود طويلة دفعت الزيادة السكانية إلى اختناق المدن المصرية، والتهمت موارد الدولة وجهود التنمية، وسط شكاوى حكومية مستمرة من نقص الموارد الكافية للزيادة السكانية.

وسبق أن حذّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مراراً من النمو السكاني، وعدّه «أكبر خطر يواجه مصر في تاريخها». وفي سبتمبر (أيلول) 2023، أثناء افتتاحه «المؤتمر العالمي الأول للسكان والصحة والتنمية»، قال: «يجب أن يتم تنظيم الإنجاب، وإن لم يتم تنظيمه، فإنه يمكن أن يتسبّب في (كارثة) للبلد».

وأشار السيسي إلى مخاطر النمو السكاني على جهود التنمية، فقال في نهاية عام 2022 إن «النمو السكاني سيأكل البلد». وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2021 قال إن «استمرار النمو بالمعدلات الحالية يعرقل جهود التنمية». وما يذكر أنه عام 2017 عدَّ السيسي «الإرهاب والزيادة السكانية أكبر خطرين يواجهان البلاد».

الآن يبدو أن التحذيرات والجهود بدأت تؤتي ثمارها. ورأى الدكتور مجدي خالد، المدير السابق لصندوق الأمم المتحدة للسكان وعضو «اللجنة الاستشارية العليا» لتنظيم الأسرة بوزارة الصحة المصرية، في انخفاض معدل المواليد «نتاجاً للسياسات التي تضمنتها الاستراتيجية القومية للسكان». وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «هذا الانخفاض ليس مفاجئاً ولا عشوائياً، وهو مستمر منذ ثلاث سنوات إثر تدخلات فاعلة تمت خلال السنوات العشر الأخيرة».

وبينما اتفق مقرّر المجلس القومي للسكان السابق، الدكتور عاطف الشيتاني، مع هذا الرأي، فإنه رأى خلال حوار مع «الشرق الأوسط» تراجع معدل المواليد إشارة جيدة وثمرة لجهود مستمرة منذ الستينات، وأردف: «هناك حقائق عدة لا بد من التعامل معها في هذا المجال في إطار خطة استراتيجية لمواجهة الأزمة بنهاية عام 2030».

وأوضح الشيتاني أن «الدولة تسعى للوصول لمرحلة التوازن السكاني، أي زيادة سكانية صفر، بتساوي معدل الوفيات ومعدل المواليد»، مشيراً إلى أن معدل المواليد حالياً يقترب من مليونين سنوياً، في حين يبلغ معدل الوفيات 600 ألف سنوياً.

وفي يناير الماضي، أعلن «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» في مصر أنه «للمرة الأولى منذ عام 2007 لم تتجاوز أعداد المواليد حاجز المليونين»، لافتاً إلى أن عدد المواليد خلال عام 2024 بلغ مليوناً و968 ألف مولود، مقارنة بمليونين و45 ألف مولود عام 2023، في حين بلغ عدد الوفيات 610 آلاف شخص خلال عام 2024، مقارنة بـ583 ألفاً خلال عام 2023.

هذا، وساهمت الحملات المستمرة في انخفاض معدل المواليد سنوياً، قبل أن يعود للارتفاع عام 2014؛ ما دفع إلى تكثيف الجهود مرة أخرى، وفق الشيتاني الذي يرى أن «حركة السكان وسلوكهم الإنجابي لا يمكن تعديلهما في يوم وليلة، فهما مؤشران ثقيلان يحتاجان إلى عقود من الجهد».

وعقب أحداث عام 2011 في مصر، قفز معدل المواليد عام 2012 إلى نحو 32 مولوداً لكل ألف مواطن، وشهد عام 2014 أكبر معدل للمواليد 2014، وبلغ مليونين و720 ألف مولود، قبل أن يعاود الرقم الانخفاض تدريجياً في الأعوام التالية، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

الحذر مطلوب

مع هذا، ورغم أن انخفاض معدل المواليد مؤشر إيجابي، يطالب الشيتاني بالحذر في التعامل مع الأرقام ربع السنوية، وانتظار البيانات الرسمية لنهاية العام، لا سيما وأن معدل المواليد موسمي وربما يزيد في فصل الصيف. ويشرح: «هناك مؤشرات أخرى لا بد من وضعها في الحسبان، من بينها معدل الإنجاب. والدولة تسعى لمعدل إنجاب بمتوسط طفلين لكل سيدة بحلول 2028، في حين يصل المعدل الحالي إلى 2.8 طفل لكل سيدة».

ويلفت الشيتاني إلى نتائج المسح السكاني الصحي لعام 2021، التي أظهرت أن معدل استخدام وسائل تنظيم الأسرة لا يتجاوز 67 في المائة، في حين المستهدف 74 في المائة، وذلك مع أن 20 في المائة من المواليد خلال السنوات الخمس السابقة للمسح الصحي كانوا «غير مخطط لهم». وهذا – وفق الشيتاني – يعني أن «هناك نقصاً في المعلومات، ثم إن الوصول لوسائل تنظيم الأسرة يتطلب جهوداً مكثفة في هذا الإطار».

في سياق موازٍ، بحسب دراسة الجدوى الاقتصادية لإنهاء الحاجة غير الملباة لتنظيم الأسرة في مصر، التي أطلقها «معهد التخطيط القومي» و«صندوق الأمم المتحدة للسكان» في أبريل (نيسان) 2024، تحتاج برامج تنظيم الأسرة إلى استثمار إجمالي قدره 11.1 مليار جنيه (الدولار يساوي 50.9 جنيه في البنوك المصرية)؛ وذلك لتقليل الحاجة غير الملباة لتنظيم الأسرة في مصر لتصل إلى 8.6 في المائة بحلول 2030 وتجنب مليون و400 حالة حمل غير مرغوب فيها.

هذا، ويهدف «البرنامج القومي لتنظيم الأسرة» إلى «تحقيق التنمية الاجتماعية الشاملة للأسر المستفيدة من برنامج (تكافُل) من خلال رفع وعي الأسر المستهدفة وتطوير عيادات تنظيم الأسرة بتكلفة 1.2 مليار جنيه، وتقديم خدمات ووسائل تنظيم الأسرة بالمدن والقرى على مستوى الجمهورية، خصوصاً المناطق النائية والمحرومة، ضمن مبادرة رئيس الجمهورية (حياة كريمة) لرفع معدلات استخدام وسائل تنظيم الأسرة وخفض معدلات الزيادة السكانية».

ويضاف إلى هذا «توقيع الكشف الطبي، وصرف وسائل تنظيم الأسرة وبخاصة الوسائل الطويلة المفعول، والأدوية بالمجان عن طريق اختصاصيي تنظيم الأسرة والنساء والتوليد في العيادات الثابتة والمتنقلة، والمراكز الحضرية، والمستشفيات العامة والمركزية ومراكز رعاية الأمومة والطفولة»، بحسب موقع الرئاسة المصرية.

من جهة أخرى، رغم المؤشرات الإيجابية، يؤكد المدير السابق لـ«صندوق الأمم المتحدة للسكان» أن «تحقيق المستهدفات يتطلب المزيد من الجهد ودراسة الأسباب التي دفعت إلى انخفاض معدل المواليد في محافظات معينة في حين يرتفع في أخرى، ومحاولة تكرار التجربة». وللعلم، سجلت محافظة بورسعيد (بشمال مصر) أدنى معدل نمو سكاني في البلاد بنسبة 0.61 في المائة؛ ما يجعلها أول محافظة تحقق «شبه سكون سكاني».

في المقابل، يمثل إقليم الوجه القبلي (صعيد مصر) أكبر نسبة مواليد؛ إذ بلغت 45 في المائة، مع أنه يشكل 39 في المائة من تعداد السكان، «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» بداية العام الحالي. وبيّن «الجهاز» أن محافظات بورسعيد ودمياط والدقهلية والغربية والسويس كانت أقل المحافظات من حيث معدل المواليد لعامي 2024 و2023.

بنايات في القاهرة (تصوير عبد الفتاح فرج)
بنايات في القاهرة (تصوير عبد الفتاح فرج)

المرأة هي البطل

على الجانب الآخر صرّح الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، لـ«الشرق الأوسط» بأن التراجع في معدلات المواليد «مرتبط بتغيرات مجتمعية تتعلق بزيادة مستوى التعليم، ونسب عمل المرأة، وتراجع سن الزواج، إضافة إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية... وصحيح أن الدولة وضعت سياسات وخططاً ونظَّمت حملات إعلامية ووفرت وسائل تنظيم الأسرة، لكن العامل الفاعل والبطل في إحداث تغيير كان المرأة وزيادة وعيها العلمي والاقتصادي والمجتمعي».

ما سبق عوامل لم ينكرها المتخصصون في السكان، لكن الشيتاني وخالد يعتقدان أن إثبات دور العوامل المجتمعية من تعليم وأوضاع اقتصادية يحتاج إلى دراسات. وأكدا أن الحقائق تقول إن هناك سياسات حكومية لمكافحة الزيادة السكانية، وهناك تراجع في معدل المواليد بالأرقام، أي عوامل أخرى تحتاج لدراسة».

وكانت الدكتورة عبلة الألفي، نائب وزير الصحة لتنمية الأسرة والمشرفة على «المجلس القومي للسكان»، قد أكدت في تصريحات صحافية أخيراً أن «التراجع الحالي في معدل النمو السكاني جاء نتيجة لتحوّل ثقافي مستقر، وليس تأثيراً ظرفياً ناتجاً من ظروف اقتصادية».

حقائق

الفن والإعلام شاركا في المحاولات الحكومية للتوعية

> وسط تحذيرات متكررة من مخاطر الزيادة السكانية في مصر، وتزامناً مع جهود وسياسات حكومية لخفض معدل الولادات، لعب الإعلام دوراً مهماً، عبر حملات إعلانية وأعمال درامية ناقشت الظاهرة، وحاولت التحذير من مخاطرها، بعضها حفر طريقه في ذاكرة المصريين. وكانت أغنية «حسنين ومحمدين... زينة الشباب الاتنين» التي أدتها الفنانة فاطمة عيد في الثمانينات واحدة من أبرز الحملات الإعلامية في هذا الإطار، عبر التركيز على الفرق بين رجلين أحدهما أنجب 7 أطفال والآخر اكتفى بطفلين. أيضاً قدمت فاطمة عيد في الفترة نفسها إعلان «الست شلبية»، وهو إعلان رسوم متحرّكة يحث النساء على التوجه إلى عيادات تنظيم الأسرة. واعتمدت الحملات الإعلانية على نجوم الفن، وشاركت الفنانة كريمة مختار في إعلانات عدة لتوعية المرأة بأهمية تنظيم الأسرة خلال حقبتي الثمانينات والتسعينات. وتوالت بعد ذلك الحملات الإعلانية، التي ركّز بعضها على الرجل ودوره، كالحملة التي شارك فيها الفنان المصري أحمد ماهر ورفعت شعار «الراجل مش بس بكلمته... الراجل برعايته لبيته وأسرته». أو حملات ركزت على المرأة مثل «بالخلفة الكتير... يتهد حيلك وجوزك يروح لغيرك». وأخرى حاولت التأكيد على أهمية الصحة معتمدة شعار «مش بالكترة بنات وبنين... لاء بالصحة وبالتنظيم». وأخرى للترويج لوسائل تنظيم الأسرة «اسأل... استشير». ولم يقتصر الأمر على الإعلانات، بل امتد إلى الدراما التلفزيونية والسينمائية، وربما من أشهر تلك الأعمال فيلم «أفواه وأرانب» من بطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين 1977، وفيلم «الحفيد» بطولة عبد المنعم مدبولي وكريمة مختار 1974. وتناولت بعض الأفلام تأثير زيادة الإنجاب على الأوضاع الاقتصادية، مثل فيلم «لا تسألني من أنا»، بطولة شادية عام 1984، وفيه باعت البطلة إحدى بناتها لتنفق على باقي أسرتها. وغيرها الكثير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي حاولت طرح القضية من زوايا عدة بشكل مباشر أو غير مباشر. وبينما حظيت بعض الأعمال الفنية سواء إعلانات أو دراما بإعجاب الجمهور، فإن أخرى لم تلق استحساناً، مثل إعلان «أبو شنب» عام 2019، الذي جسّد فيه الفنان المصري أكرم حسني شخصية صعيدية بصبغة كوميدية، في إطار حملة توعوية أطلقتها وزارة التضامن الاجتماعي لمكافحة الزيادة السكانية تحت عنوان «2 كفاية» واختارت لها شعار «السند مش في العدد». إذ أثارت الحملة يومذاك انتقادات عدّة، وعدّها البعض تشويهاً لمنطقة الصعيد (جنوب مصر).