الوجه الغامض والتوق إلى الخلاص في أفلام بول شرادر

أعلن أن فيلمه الأخير أفضل أفلام العام

TT

الوجه الغامض والتوق إلى الخلاص في أفلام بول شرادر

لم يتوقف كثيرون عند تصريح المخرج بول شرادر قبل أقل من شهر عندما قال إن فيلمه الأخير «عدّاد ورق اللعب» (The Card Counter) هو أفضل فيلم هذا العام.
لم يعلّق على كلامه أحد ولم يرد عليه أحد أو يوافقه (حسبما تابعنا) أحد أيضاً. ربما مرت كلمته تلك من تحت الرادار أو ربما عُدّت من باب الرغبة الذاتية في إعلاء الشأن خصوصاً أن الفيلم انتقل من مهرجان فنيسيا (حيث شهد عرضه العالمي الأول) إلى عدد محدود من صالات السينما الأميركية بقليل من الاهتمام الإعلامي.
لم يسعف الفيلم أن معظم النقاد في الصحف والمواقع المحترمة في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا أحبوا الفيلم وأشادوا به. في إيطاليا مُنح الفيلم كذلك درجات عليا من الإشادة خلال أيام المهرجان. في غير مكان لم يختلف الوضع كثيراً. الفيلم من القوّة بحيث لا يمكن تجاهله.
يتمتع «عداد ورق اللعب» بكتابة بديعة وموحية كافية لاتخاذها دروساً للهواة والمحترفين. يتميّز بإخراج ملمٍّ بكل ما تستطيع الصورة ضمّه في كادراتها من قوة التشكيل وقوّة المضمون. في الواقع، هو أفضل شأناً -وعلى أرضية فنية وتقنية محضة- من «قوّة الكلب» الذي نال أضعاف أضعاف ما حققه «ذا كارد كاونتر» من حجم اهتمامٍ وانتشارٍ وجوائز.
على ذلك، لعل الحق على النقاد. معظم من كتب إيجابياً عن الفيلم كتب عنه كفيلم جيّد، بينما هو في الواقع، ليس فيلماً جيداً فحسب بل فيلم مهم جدّاً أيضاً. بالنسبة للنقاد العرب فإن معظمهم يشاهد من 10 إلى 15% فقط من الأفلام الجديدة وذلك بناءً على أسماء مخرجين حفظوها منذ زمن: مارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبرغ وترنس مالك وحفنة من غير الأميركيين إذا استطاعوا الوصول إليها. بول شرادر توقف اهتمام البعض به عند حقيقة أنه كتب سيناريو فيلم «تاكسي درايفر». أبعد من ذلك؟ مستحيل.
متاعب شخصية
لا يخفى أن شخصيات بول شرادر محمّلة بالهموم والمعاناة. منذ أن وضع سيناريو «Taxi Driver» سنة 1976 وهو يرصد تلك الشخصيات التي تبحث عن ملاذ لآلامها وإجابات لأسئلتها لكنها تنتهي من دون إنجاز النقلة المأمولة إلى الأمام. تختلف حكاياته لكنها تلتقي عند نوعية هذه الشخصيات وما تود الخلاص منه. «عداد ورق اللعب» مرتبط عضوياً بـ«تاكسي درايفر» (مارتن سكورسيزي، 1976) وبـ«ثور هائج» (Raging Bull، سكورسيزي، 1980)، و«هاردكور» (شرادر، 1979)، و«نائم خفيف» (Light Sleeper، شرادر، 1992) وصولاً إلى فيلم شرادر السابق مباشرةً لهذا الفيلم وهو «مؤهل أول» (First Reformed) 2017.
لا يكتب شرادر سيناريوهاته لكي ينضم إلى ما يطرحه سواه. ولا يحقق أفلامه لكي تشبه أفلام آخرين في السينما الأميركية. وفي حين أن سبيلبرغ قد ينجز فيلماً عن الغرام بين أبيض ولاتينية، وتقوم جين كامبيون بالحديث عن رجل يواجه مسألة مبتدعة مثل معنى الرجولة في عصر مضى، يسعى شرادر للحديث عن الرجل الأميركي في أيامنا اليوم. عن محنة التصادم بين أخلاقياته وبين مجتمع غير ملتزم بها.
شخصياته محمّلة بمتاعب شخصية تبحث عن خلاص في مجتمع لا يتيح لها حُسن الخلاص. خلفيات هذه الشخصيات لا علاقة لها بحلم كبير لم يتحقق ولا آمال معلّقة، بل تعيش صراعات وأزمات داخلية تحاول حلّها عندما تخفق في تحاشي الصدام النهائي الكبير معها. كما في «تاكسي درايفر»، نهاية «عدّاد ورق اللعب» هي المجابهة الدموية. كما في «ثور هائج» هي في تدمير الذات الذي هو النهاية الختامية لكل هذه الشخصيات في أفلامه.
هنا يقدّم لنا شخصية رجل اسمه تل (أوسكار أيزاك). غامض إلى حد يُرضيه لكنه ليس غريب الأطوار. خرج من السجن بعد ثماني سنوات تلت الحكم عليه لقيامه بتعذيب السجناء في «أبو غريب» وها هو يعمد إلى توظيف خبرة حصدها وراء القضبان وهي أوراق اللعب. يعرف تماماً قوّة كل ورقة وما هي الأوراق التي مرّت أمام عينيه وكيف يتوقف عندما يبلغ حداً معيّناً من الربح... ينتقل من كازينو لآخر ومن مدينة لأخرى. لا ينزل في فندق الكازينوهات التي يلعب فيها، بل يختار «موتيلات» بسيطة. هناك يكتب مذكراته وتعليقاته التي نسمعها خلال الفيلم. مذكرات مفعمة بالأفكار الموحية ويلقيها أيزاك بصوت خافت ومتألّم.
معاناته في مذكرات
في مدى أيام يتعرّف على شخصين: امرأة أفرو - أميركية اسمها لا ليندا (تيفاني هاديش) تعرض عليه رأسمال يمكّنه من الانتقال من الربح الصغير إلى الربح الكبير، وشاب اسمه سيرك (تاي شريدان) يريد الانتقام من غوردو (ويلَم دافو). غوردو كان مسؤولاً عن تجنيد الزمر التي قامت بالتعذيب الوحشي في ذلك السجن. عندما تم فضح هذه الممارسات تم إرسال أمثال ويليام تل ووالد سيرك الذي لم يستطع التأقلم مع المجتمع الذي عاد إليه فانتحر. أما غوردو فواصل حياته المهنية بحماية النظام الذي ابتدع له المهنة، أو كما يقول تل في مذكراته: «أما الذين فوق والذين فوق الذين فوق فنجوا».
تل يبقى المحور. نسمع صوته معلّقاً ونشاهده يكتب مذكّراته. هذا ما فعله إيثان هوك في «First Reform»، وويلَم دافو في «Light Sleeper». كلاهما انكبّ على كتابة معاناته على الورق وأسمعنا ما يمر به. ما يضيفه شرادر إلى هذه الأفلام (ومجمل أعماله الأخرى) ذلك الهاجس الداكن الذي يخيّم على نفوس شخصياته وينتشر في الفيلم عبر اختيارات المخرج من المشاهد. أبطاله، منذ البدايات، وحيدون. يعيشون عزلة مختارة ويرتاحون فيها أو هكذا يعتقدون إلى حين الاصطدام مجدداً بما حاولوا الابتعاد عنه.
يكاد «عداد ورق اللعب» يكون بلا هنّات. ينقص بعض تصرفات بطله (أوسكار أيزاك) دوافع واضحة. لكن هذا النقص يتوارى بسبب أسلوب شرادر المعنيّ جيداً بصَهر الشخصيات وأفعالها وتفاصيل الحياة التي يوفرها على طاولات اللعب وبعيداً عنها، وبصرياته و«اللوك» الذي يمنحه لفيلمه فنياً وكتنفيذ، في محيط متوازن ما بين الفعل وردّ الفعل. من الكتمان والإفصاح ومن العواطف التي تنتظر وقتها المناسب. يستخدم المخرج مشاهد الاستعادة ويقطع عليها بضع مرّات ودائماً في التوقيت الصحيح والأماكن المناسبة.
من حسنات الفيلم أنه لا يوظّف موضوع «أبو غريب» لخدمة وجهة سياسية واحدة، بل يبقيها في توجهها الإنساني. يصفها بالوحشية لكنه لا يذهب بها إلى حد تحويلها إلى قضية أولى. يمنحها حقّها من الإدانة ولا يزيد. هذا، ضمن اهتمامه بالأجواء النفسية والعاطفية والحياتية الداكنة، أفضل بكثير مما لو احتفى بها على منوال خطابي مباشر. تكفيه مشاهد للسجن تبدو كما لو تم تصويرها في جهنم والعبارة التي يتولاها غوردو وهو ينهر سجيناً عربياً عارياً وملقى كالقمامة في ركنه من السجن: «أيام الراحة انتهت يا أحمد».
الغلبة للأخلاقيات
ما الذي يجعل شرادر يختار شخصيات خاسرة. تساءل الناقد جون هاملتون قبل 12 سنة والسؤال لا يزال وارداً ويتكرر مع كل مرة نرى فيها روبرت دينيرو في «تاكسي درايفر» و«الثور الهائج أو رتشارد غير في «أميركان جيغولو» أو جورج س. سكوت في «هاردكور» وصولاً إلى أفلام شرادر القريبة: نك نولتي في «محنة»، وإيثان هوك في «فيرست ريفورمد».
شرادر غصن في شجرة مبدعي أواخر الستينات ومطلع السبعينات. هو من جيل فرنسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي وجورج لوكاس، لكنه لم يكترث لدخول صرح الأعمال المصروف عليها من الاستديوهات الكبيرة إلا لفترة تلت نجاح أعماله الأولى كمخرج («أميركان جيغولو»). نراه حقق فيلماً بأسس هوليوود الحتمية («كات بيبول»، 1982) لكنه انقلب بعيداً عنها عندما حفر في حياة الكاتب الياباني يوكيو ميشيما وخرج بفيلمه المهم «يوشيما: حياة من أربعة فصول» (أنتجته شركة «زيوتروب لكوبولا»).
تنتهي معظم أفلام شرادر بتغليب الأخلاقيات. هو مؤمن بأن ذلك ضروري. جزء من الحياة. في الجانب الآخر هي أفلام نوار (سبق وحقق فيلماً تسجيلياً بعنوان «ملاحظات على الفيلم نوار»، 1971) ما يجعل الصراع بين الخير والشر يرتع في ثنايا التصوير الداكن الملائم للصراع ذاته. وفي بُعد ثالث، هناك صحة لما قاله البعض في أعماله من أن أفلامه هي براغمانية (نسبةً إلى المخرج السويدي الشهير إنغمار برغمن). ربما كل ما كانت تحتاج إليه لكي تحتل لدى نقاد اليوم أهمية أعلى أن تنطق بلغة غير أميركية.


مقالات ذات صلة

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق تماثيل وقوالب من الفخار مصنوعة قبل الميلاد (مكتبة الإسكندرية)

«صناعة الفخار»... وثائقي مصري يستدعي حرفة من زمن الفراعنة

يستدعي الفيلم الوثائقي «حرفة الفخار» تاريخ هذه الصناعة التي تحمل طابعاً فنياً في بعض جوانبها، على مدى التاريخ المصري القديم، منذ أيام الفراعنة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من الفيلم تجمع «شاهيناز» وأولادها (الشركة المنتجة)

«المستريحة»... فيلم مصري يتناول النصّابين يمزج الكوميديا بالإثارة

تصدَّرت مجسّمات دعائية للأبطال دار العرض عبر لقطات من الفيلم تُعبّر عنهم، فظهرت ليلى علوي في مجسّم خشبيّ جالسةً على حافة حوض استحمام مليء بالدولارات.

انتصار دردير (القاهرة )

بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
TT

بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»

بشير الديك، كاتب القصّة والسيناريو لعدد كبير من الأفلام المصرية طوال العقود الأربعين الماضية، الذي توفي في اليوم الأخير من العام الراحل، 2024، كان أحد السينمائيين الخارجين عن قوانين السينما التقليدية في النصف الأول من سنوات مهنته. لكن على الرغم من أنه في النصف الثاني وقّع على أعمال كثيرة من التي يمكن وصفها بالتقليدية، ومن بينها 6 أفلام من بطولة نادية الجندي، فإنه واظب على معالجة نصوصه باحتراف يجمع بين حكايات تحمل مضامين تنتمي إلى نزعة جادة وتنشد ميزانيات كبيرة.

لعل حقيقة أن نادية الجندي كانت تصبو دوماً إلى أدوار تخلّدها وأفلام تحافظ عبرها على مكانتها لعب بشير الديك دوراً في تلبية هذه الرغبات عبر حكايات تشويقية في المقام الأول، وشخصية رئيسية مضخّمة وذلك في أفضل نصوص ممكنة ضمن التوليفة التجارية.

بدأ هذا التعاون على نحوٍ ثلاثي: بشير الديك يكتب، ونادر جلال يُخرِج ونادية الجندي تلعب دور البطولة. هذه الأفلام هي «الإرهاب» (1989)، و«شبكة الموت» (1990)، و«عصر القوّة» (1991)، ومن ثَمّ «مهمّة في تل أبيب» (1992)، و«الشطّار» (1993)، ولاحقاً «امرأة هزّت عرش مصر» (1995).

كمال الشناوي ونادية الجندي في «مهمّة في تل أبيب»

‫اتجاهان‬

بعد بدايات متفاوتة الأهمية من بينها «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمي (1979)، و«دعوني أنتقم» لتيسير عبّود (1979)، و«الأبالسة» لعلي عبد الخالق (1980) التحق الديك ببدايات المخرج الراحل محمد خان عبر 6 أفلام هي «الرغبة» (1980)، و«موعد على العشاء» (1981)، و«طائر على الطريق» (1981)، و«نص أرنب» (1983)، و«يوسف وزينب» (1984) و«الحرّيف» (1984) وكلها من أفضل ما حققه خان.

تعامُل الديك مع الموضوعات الجادة التي عرفتها تلك الأفلام سمح له بكتابة واحد من أفضل أعماله وهو «سواق الأتوبيس»، الذي حققه الراحل عاطف الطيب سنة 1982، وكلاهما لاحقاً تعاونا على تحقيق فيلم مهم (أكثر مما كان جيداً) آخر هو «ناجي العلي» (1992). لجانبهما فيلم ثالث هو «ضد الحكومة» (1992) من بطولة أحمد زكي ولبلبة.

في تقييم كتابات بشير الديك تتداخل بعض العناصر التي يمكن إيجاز هذا التقييم عبرها.

من ناحية، حاول دوماً التطرّق صوب قضايا مهمّة تطرح قصصاً ذات جانبٍ وطني مثل «مهمّة في تل أبيب»، الذي دار حول جاسوسة مصرية تعمل لصالح إسرائيل، ومن ثَمّ تندم فتطلب منها الاستخبارات المصرية (ممثلة بكمال الشناوي)، العمل لحساب مصر وتنجح. «ناجي العلي» ينضم إلى هذا النحو من الأعمال.

السيناريست المصري بشير الديك (وزارة الثقافة)

في ناحية أخرى، لم يتأخر عن كتابة ما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات من اتجاه صوب الحديث عن مراكز قوى في الشارع المصري والصراع بين الأخيار والأشرار. هذه الموجة لم تعرف بداية ونهاية محدودتين فتاريخها عريق يعود لعقود سابقة، لكنها عرفت في تلك الفترة تدافعاً بين المخرجين للحديث عن تلك المراكز في حارات القاهرة (في مقابل الكثير من صراع الخير والشر على ساحلَي بور سعيد والإسكندرية في أفلام الخمسينات والستينات) في أجواء ليست بعيدة عن الخط الذي وضعه نجيب محفوظ وشخصياته.

مخرجون عديدون حقّقوا هذه الأفلام التي شُكّلت حكاياتها من صراع القوى في الشارع المصري مثل أشرف فهمي («الأقوياء»، 1982)، وأحمد السبعاوي («السلخانة» 1982 و«برج المدابغ» 1983) وكمال صلاح الدين («جدعان باب الشعرية» 1983). لكن من مزايا ما كتبه بشير الديك في هذه الأعمال التي لاقت رواجاً جماهيرياً إنه كتب ما هو أعمق في دلالاته من قصص المعلّم الشرير ضد سكان منطقته وأزلامه الذين يتصدّون للأبرياء إلى أن يخرج من رحم تلك الحارة من يواجههم جميعاً.

بداية من «نصف أرنب» توّجه الديك إلى حكاية تشويقية ذات طابع بوليسي، وفي «سوّاق الأتوبيس» وقف مع ابن المدينة في موضوع حول تفتت المجتمع مادياً. أما في «الحرّيف» فنقل اهتمامه إلى الوسط المهمّش من سكان القاهرة وأحلامهم ومتاعبهم الشخصية.

‫هموم المجتمع‬

ما يجمع بين هذه الأعمال هموم تسلّلت إلى عدد كبير من كتابات بشير الديك السينمائية.

في مقابلة تمّت بين المخرج عاطف الطيب وبيني بعد مشاهدة فيلمه النيّر «سواق الأوتوبيس»، سألت المخرج عن كيف بدأ التفكير في تحقيق «سوّاق الأتوبيس». أجاب: «بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، وكانت الظروف الحياتية نفسها تجمعنا كلنا تقريباً. فقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي الأول (يقصد «الغيرة القاتلة»، 1982)، الذي اضطُرِرت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي (أجنبي) رغم إيماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. اقترح محمد خان وبشير الديك فكرة وُضع لها عنوان: (حطمت قيودي)، تدور حول عائلة مهدّدة بالضياع نتيجة فقدان الأب للورشة التي أسسها وبحْثُ الابن، سائق الأتوبيس، عن مخرج من الأزمة بلا جدوى وأعجبتني الفكرة، خصوصاً أنني أميل كثيراً إلى الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة التي نريد التعبير عنها. في الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه».

كتب بشير الديك نحو 60 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً، معظمها جمع هذه الصفات المجتمعية على نحو سائد أو مخفف. هذا ما جعله أحد أبرز كتاب السيناريو في مصر في حقبة كان للسينما البديلة والمستقلة عن السائد دور فاعل في نهضة الفيلم المصري عموماً.

مع الطيّب وخان ورضوان الكاشف ورؤوف توفيق وخيري بشارة ورأفت الميهي وسواهم، ساهم بشير الديك في منح تلك الفترة مكانتها الساطعة التي لا تغيب.