زهران القاسمي: الجبال والوديان فضائي المفضل للكتابة

الشاعر العماني يرى أن فوز جوخة الحارثي بـ«البوكر» وضع أدبهم في دائرة الاهتمام

زهران القاسمي
زهران القاسمي
TT

زهران القاسمي: الجبال والوديان فضائي المفضل للكتابة

زهران القاسمي
زهران القاسمي

يتنقل الشاعر العماني زهران القاسمي بين كتابة الشعر والرواية وغيرهما، ويرى أن ذلك يأتي من إيمانه بتكامل الفنون الإبداعية، كما أن الشعر برأيه ليس حكراً على الشعراء، بل هو لكل الناس. في أعماله يبرز مشهد الطبيعة العمانية، بجبالها ووديانها وصحرائها، كما في أحدث رواياته «تغريبة القافر» التي تدور أجواؤها حول ثلاثية الجفاف والمياه والخصب في أمكنة قروية.
هنا حوار معه حول روايته الجديدة وهموم الكتابة بشكل عام...
> في روايتك الجديدة «تغريبة القافر» تغادر إطار المدينة وتذهب إلى الجبل والطبيعة المفتوحة... هل هو البحث عن فضاء جمالي جديد للنص؟
- فضاء الرواية غالباً ما يرتبط بفضاء العمل الإبداعي، ليس هناك من تعمد أن يكون فضاء العمل السردي هو ذات المكان، ولكن تفرض عليّ ذلك طبيعة العمل، فلو كنت أشتغل على عمل تدور أحداثه في المدينة فستكون كل إشارات المكان وزواياه متجهة إلى تفاصيل المدن كالشوارع والأسواق والمقاهي والبنايات والدوائر الحكومية والشركات وغيرها، وكذلك لو كان العمل يتحدث عن صيادين فسيكون المكان عن البحر والشواطئ والحارات الساحلية وهكذا، ولأن أعمالي كانت تناقش مواضيع تتعلق بالجبال والقرى، لذلك كانت البيئة القروية حاضرة بقوة، فمثلاً في رواية «القناص»، لأنها تتحدث عن قناصي الوعول، وعن الأماكن التي تعيش فيها الوعول، كانت البيئة جبلية قاسية ووديان عميقة وغيرها من التفاصيل التي تتعلق بالمكان ذاته. وفي رواية «تغريبة القافر» التي تدور مناخاتها حول البحث عن المياه وعن الجفاف والخصب فهي بيئة قروية تماماً، لذلك تفاصيلها كانت تفاصيل القرية العمانية بكل ما تحوي من أشياء وبشر.
> في الرواية تأثرت لغتك بمهنة البطل، مكتشف أماكن تجمع الماء تحت طبقات الأرض، فيما يبدو الحبّ قبلة حياة لأرواح تائهة. لكن يظل المأزق الاجتماعي في مجتمع محافظ مربكاً، خاصة حين يكون أحد طرفي العلاقة أو كلاهما متزوجاً من آخر... كيف ترى ذلك؟
- الماء هو المكون الرئيسي للعمل، بحضوره أو غيابه، ومن الأكيد أن يتأثر الكاتب بذلك حتى يعيش الواقع المتخيل سردياً، ورغم طابع الرواية الذي جاء سلساً فإنها صعبة جداً كتابياً، لأنها تتكون من طبقات كثيرة ومن شخوص متعددة.
أما بخصوص المأزق الاجتماعي في مجتمع محافظ، فدائماً أرى في الحب معنى المخلص أو المنقذ، الحب يلغي الحواجز، وهو فوق كل مأزق، سواء أكان اجتماعياً أو نفسياً حتى جسدياً، قد يختلف من مجتمع إلى آخر، لكن هناك أرواحاً كما وصفتها «تائهة» لا سبيل لها سوى الحب.
> هل «خنت» الشعر لأنه محدود القراء، بحثاً عن الشهرة والانتشار والجوائز التي توفرها الرواية؟
- لم أخن الشعر، أنا أومن دائماً بتكامل الفنون الإبداعية والشعر ليس حكراً على الشعراء بل هو لكل الناس، والمقولة بخيانة الشعر إنما هي مقولة أنانية جداً، حتى الشعر لا ينادي بها، فوق ذلك ما زلت أصدر الدواوين الشعرية واحداً بعد آخر، بالتزامن مع الكتابة السردية.
والحقيقة أن كل الأنواع الأدبية في عالمنا العربي تعاني من ضعف في القراءة، وليس فقط الشعر. نعم، لا توجد قاعدة، ولا جمهور لقصيدة النثر، والسبب يكمن في جانبين مهمين، أولهما الشاعر نفسه، واختيار طريقته في كتابة النص النثري، وثانياً المتلقي والحكم المسبق على الأشياء، لكني أعود فأقول إن من يقرأ في وطننا العربي هم قلة، فكيف يكون عندي جمهور يهتم لما أكتب، في حين أنه لا يوجد أساساً من يقرأ إلا القلة، وهذه القلة لا تشكل ظاهرة تستطيع أن تغير من الواقع الموجود، في حين صارت القراءة أسلوب حياة لكثير من الشعوب الأخرى، فالمرأة اليابانية عندما تكتب قائمة بمتطلبات البيت الأسبوعية من أكل وكماليات أخرى، لا تنسى أن تكتب آخر الكتب والروايات التي نزلت حديثاً إلى السوق.
الشعر بخير، وله مستقبله، فقط تحتاج القصيدة النثرية فترة طويلة حتى يؤمن بها الناس، وقد يكون ما ننتجه الآن ما هو إلا تجارب في طريق تلك القصيدة، لذلك أؤمن بمستقبل مشرق للشعر، لأنه لا حياة بدونه أبداً، حتى لو أقصيت اللغة عن حياة الإنسان فسيخترع الأخير أداة جديدة ليعبر بها عن الشعر.
> ثمة غموض في شعرك كما في سردك، وتبدو كما لو كانت بحاجة إلى قارئ من نوع خاص... كيف ترى ذلك؟ وإلى أي حد استفدت من خلفيتك شاعراً في لغتك الروائية؟
- لغة الشعر كما هي معروفة مليئة بالجماليات، وهذا ما استفدت منه في نحت جماليات النص سردياً ولكن بطريقة الشاعر، وأيضاً بعيداً كل البعد عن الكتابة الشعرية، إنما الشاعرية تكون متضمنة في الطبقات الخفية في السرد الروائي. كما أن لكل نص بيئته ولغته، ولم أتعمد أبداً إرهاق القارئ، ولكن يحدث أن يدخل بعض من المتخيل في صناعة النص، ليس على حساب النص طبعاً ولكن لسحب القارئ شيئاً فشيئاً ليعيش المكان الذي يدور حوله النص، أما إذا كانت هنالك شكوى من عدم فهم لبعض النصوص، فربما تكون من النصوص القديمة المتأثرة بتجارب الآخرين، بالأحرى الطريقة التي يمارسها كثيرون حتى الآن، والتي أحاول أن أتجرد منها لتبقى اللغة الشعرية هي فقط من ينطق في النص. ذات مرة قال لي أحد الأصدقاء الشعراء إنني أكتب النص الشعري وكأنني أتحدث، كلامه أسعدني حينها لأنني أريد أن أصل إلى هذا الهدف في النهاية، أن يعود الشعر كما كان بهياً وقريباً من القلب، ولا عيب أن نقول قد أخطأنا في اختيار الطريق وأن نبحث عن طرق وأساليب أخرى، وفي النهاية لكل منا تجربته التي قد تنجح أو قد يكتب لها الفشل، فما نؤمن به اليوم قد لا نؤمن به غداً، كما قال الشاعر العراقي سركون بولص: «ما تبنيه اليوم قد ترقص على خرائبه غداً».
> تتسم تجربتك بغزارة الإنتاج شعراً ورواية ونصوصاً مفتوحة... كيف تتعايش مع هذا المزيج، ألا تخشى التكرار، خاصة أن أعمالك ابنة مكان واحد؟
- قد أستفيد من المكان الذي أعيشه في نحت الشخصية الروائية، لكنني أجزم أن هذه الروايات لا تشبهني، بعضها قد يأخذ قليلاً مني، لكن لا دخل لخلفيتي القروية في ذلك، كما أن القرى العمانية كلها تتشابه في تفاصيلها. المهم كيف تكون نفسك داخل كل هذا. وحتى الآن أنا مقتنع أنني لم أكرر نفسي في أي تجربة أو شكل إبداعي؛ خصوصاً الشعر والرواية، ذلك لأن المشروع الكتابي يأخذ أبعاده من طبيعته الذاتية كفنّ له تقاليده الخاصة، ما يجعله لا يتشابه مع المشروعات الأخرى.
> حصدت الكاتبة العمانية جوخة الحارثي جائزة «البوكر الدولية»، ألا يضع ذلك الروائيين العمانيين تحت ضغوط، بعد أن رفعت جوخة سقف النجاح والتوقعات؟
- في الحقيقة، ذلك يضعنا ضمن دائرة الاهتمام، وليس الضغط، فالأدب العماني لم يكن مقروءاً. وعلى العكس تماماً، مثل هذا الفوز يجعل الآخرين من لغات مختلفة والقراء العرب أيضاً يبحثون عن كتابات مختلفة للعمانيين.
> أخيراً، كيف ترى تعاطي النقاد مع مجمل تجربتك؟
- أنا شخص غير معروف في الوضع العربي العام، قد أكون معروفاً لدى العمانيين، ولكن ليس لدينا كثير من النقاد. حتى مع وجود النقاد نجد أن لكل ناقد طريقته وكتّابه الذين يُعجب بهم، ولا ضير ألا يلتفت أحد لكتاباتي، يكفيني أن يوقفني شاب في الطريق ويقول لي إنه قرأ كتاباً لي وأعجبه، هذا يعني لي الكثير، بدلاً من الكتابات النقدية التي لا أفهمها أصلاً!



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.