غابرييل بوريتش... يعيد تشيلي إلى معسكر اليسار

ثلاثيني كرواتي الأصل بات أصغر رئيس في أميركا اللاتينية

غابرييل بوريتش... يعيد تشيلي إلى معسكر اليسار
TT

غابرييل بوريتش... يعيد تشيلي إلى معسكر اليسار

غابرييل بوريتش... يعيد تشيلي إلى معسكر اليسار

إذا كانت كوبا هي المعقل الرئيسي للرمزية التاريخية بالنسبة لليسار الشيوعي في أميركا اللاتينية بثورتها المديدة الصامدة بالقبضة الحديدية وقمع الحريات وإلغاء التعددية السياسية، والمترنّحة منذ عقود على شفا الإفلاس والاحتضار، فإن تشيلي تجسّد الحالة الوحيدة التي وصل فيها الشيوعيون إلى الحكم عن طريق انتخابات ديمقراطية ودافعوا عنه حتى الموت.
هذا ما حصل مع الرئيس سالفادور الليندي الذي فضّل الموت على الاستسلام للعسكر، ومن ثم، أصبح عنواناً لرمزية أعمق بكثير - في نظر كثيرين - من رمزية فيديل كاسترو الذي برع في تصفية أعدائه بقدر ما برع في إلغاء منافسيه وإقصاء رفاقه الذين تجاسروا على مخالفته الرأي أو انتقاده.
وبعد 48 سنة من سقوط الليندي قتيلاً وهو يدافع عن قصر الرئاسة في وجه الانقلابيين، ومرور ثلاثين سنة على تسليم قائد الانقلاب الجنرال أوغوستو بينوتشيت (بينوشيه) الحكم إلى المدنيين، قرّرت تشيلي قبل انتهاء2021 إرسال الشاب اليساري غابرييل بوريتش (يكتب الاسم بوريك) إلى قصر «لا مونيدا» مقرّ رئاسة الجمهورية. ولقد فاز بوريتش في الدورة الثانية على منافسه اليميني المتطرف خوسي أنطونيو كاست، ليصبح أصغر رئيس في تاريخ تشيلي وأميركا اللاتينية وهو بعد لم يبغ الـ36 من عمره.
أبصر غابرييل بوريتش النور في مدينة بونتا آريناس، عند أقصى جنوب تشيلي. والتحق بكلية الحقوق في جامعة تشيلي المرموقة في العاصمة سانتياغو، التي كان أحد قادتها الطلابيين في الاحتجاجات التي كادت تسقط حكومة الرئيس المحافظ سيباستيان بينييرا إبان ولايته الأولى عام 2011. وفي العام التالي فاز برئاسة اتحاد الطلاب الجامعيين ضد منافسته الشيوعية كاميلا فاييخو قبل أن يترشّحا سويّة على لائحة واحدة في الانتخابات النيابية عام 2013.
في العام 2014 دخل بوريتش البرلمان إلى جانب فاييخو وأربعة من قادة الحركة الطلابية كانوا كلهم دون الثلاثين من العمر. وتسلّم قيادة حزب التوافق الاجتماعي أحد أركان «الجبهة العريضة»، التي تضمّ القوى اليسارية والحزب الشيوعي التشيلي، التي اختارته مرشحاً لرئاسة الجمهورية مطلع السنة الحالية بعد فترة تردد لفترة طويلة بسبب قلّة خبرته في المعترك السياسي.

اختلاف الآراء حوله
يأخذ خصوم بوريتش – المتحدر من أصول كرواتية – عليه، أنه لم يحصل على الإجازة الجامعية لأنه ترك الدراسة، ودخل البرلمان. كما يأخذ عليه البعض أنه ينتمي إلى عائلة ميسورة، وإلى الجيل الذي لم يعرف القمع والاضطهاد إلا من خلال القصص والروايات... وليس مثل الذين قامت الاحتجاجات الطلابية ضدهم. وهنا يقول أستاذ العلوم السياسي أوجينيو تيروني عن غابرييل بوريتش، إنه «نسخة محسنة عن الناشط الفرنسي واحد زعماء مايو (أيار) 1968 دانييل كوهين بنديت، لكنه عوضاً عن الانضمام إلى مجموعة هيبّية قرر تأسيس حزب جديد». ثم يضيف «إنه يتكيّف مع النظام القائم، لكنه يعزف عن تسلّق المناصب داخل الأحزاب التقليدية، ويؤسس الجبهة العريضة، حيث يهزم الحزب الشيوعي في الانتخابات الداخلية، ثم ينسج تحالفاً واسعاً بين قوى الوسط واليسار، ويمدّ يده إلى الحزب الديمقراطي المسيحي ويفوز برئاسة الجمهورية».
أما رئيسة الجمهورية السابقة ميشيل باشيليت (وهي اشتراكية) فتقول، إن «معظم جيل القياديين الشباب في الجبهة العريضة من أبناء مسؤولين في الأحزاب التقليدية لعبوا أدواراً بارزة في الحكومات التي تعاقبت منذ نهاية الديكتاتورية... ويجمع بينهم قاسم مشترك هو انتقادهم لهذه الحكومات التي يصفونها بالليبرالية الجديدة». وتضيف باشيليت مستدركة «لكن من المفارقات العديدة لهذا اليسار الجديد الذي يرفع شعار الانفتاح على قوى الوسط والتقدمية المعتدلة، أن الركيزة الأساسية للجبهة العريضة هو الحزب الشيوعي، الذي مضى قرن كامل على تأسيسه وما زال يحافظ على التزامه التام بالعقيدة الماركسية اللينينية، رغم وجود تيارات متناحرة داخله مثل التيّار الذي تتزعمه فاييخو».
ومن المآخذ الأخرى على بوريتش العلاقة الوطيدة التي تربطه ببعض القوى اليسارية المتطرفة التي سبق له أن شارك في عدد من أنشطتها ومهرجاناتها. غير أنه عبر مشاركته في الاحتجاجات الطلابية أظهر مرونة وقدرة على التوفيق بين أطياف الجبهة العريضة، وكان له دور محوري في الاتفاق السياسي الذي توصّلت إليه القوى السياسية يوم 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 لانتخاب هيئة مدنية مكلفّة وضع دستور جديد للبلاد. وهذا اتفاق خرج عنه الحزب الشيوعي، الذي هاجم أنصاره بوريتش في الشارع ووصفوه بـ«الخائن». وتجدر الإشارة إلى أن من أشد المتحمسين لدعم بوريتش في الانتخابات الرئاسية الأخيرة كانت مايا فرنانديز الليندي، حفيدة الرئيس الأسبق سالفادور الليندي.
وعن ذلك الدور المحوري الذي كان منعطفاً أساسياً في مسيرة بوريتش السياسية، يقول صديقه جيورجيو جاكسون، الذي يرجّح أن يتولّى إحدى الحقائب الرئيسية في الحكومة الجديدة «بعدما اندلعت موجة الاحتجاجات الطلابية والشعبية في العام 2019، ووصلت الأزمة السياسية إلى طريق مسدودة، اتصل غابرييل بالزعيم اليميني خوان أنطونيو كولوما الذي يرأس الكتلة البرلمانية الأكبر في مجلس الشيوخ، واتفقا على مخرج للأزمة بتغيير الدستور الذي وضعه بينوتشيت والقائم منذ العام 1980». وتابع جاكسون «وبالفعل، تمكّن بوريتش بقراره الفردي، يومذاك، من دفع الجبهة العريضة إلى التوقيع على الاتفاق الذي أيّدته جميع القوى السياسية لانتخاب هيئة دستورية وتكليفها وضع دستور جديد للبلاد. تلك الخطوة هي التي أوصلت بوريتش اليوم إلى سدة الرئاسة».

احتفال عشرات الألوف
وخرج عشرات الآلاف التشيليين في العاصمة سانتياغو يحتفلون بفوز بوريتش الذي خاطب أنصاره قائلاً «إن النمو الاقتصادي الذي حققته تشيلي في العقود الثلاثة المنصرمة، والذي يثير الغيرة في المحيط الإقليمي، يقوم على قاعدة رخوة لأنه لم يصل إلى المحتاجين». ونبّه أن حكومته ستفي بكل الوعود التي قطعها في الحملة الانتخابية، والتي كانت هي شعارات الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالصحة والتعليم للجميع من غير تمييز بين الأغنياء والفقراء، وتوفير العيش الكريم إلى الذين صنعوا هذا النمو.
ولكن في اليوم التالي، استيقظت تشيلي على انهيار أسعار بورصة العاصمة التي تراجعت بنسبة 8 في المائة، بينما كانت قيمة العملة الوطنية «البيزو» تتراجع أمام الدولار الأميركي إلى أدنى مستوى منذ أزمة العام 2008. وكان هذا مؤشراً مبكّراً على أن الالتزام بالوعود الانتخابية التي قطعها الرئيس الجديد يقتضي قرارات لا تستسيغها أسواق المال مثل زيادة ضريبة الدخل، خاصة على شركات قطاع المناجم الذي يشكّل المصدر الرئيس للعملة الصعبة في تشيلي، وإلغاء النظام التقاعدي الخاص الذي يموّل فقط من العمّال منذ أواخر سبعينات القرن الماضي.

الأهمية المركزية للاقتصاد
مع هذا، قلل المحللون الاقتصاديون من أهمية رد فعل أسواق المال؛ كونها تلقائية وعفوية عندما يفوز اليسار في أي انتخابات. وتقول باميلا فيغيروا، الأستاذة الجامعية في العلوم الاقتصادية، إن «بوريتش معتدل، وهذا من المفترض أن يحتوي ردة فعل المستثمرين في غضون أيام قليلة. ولكن لا بد له أن يسارع إلى الإعلان عن فريقه الاقتصادي من أجل تهدئة الأسواق، التي ليس من مصلحتها أن تعلن عليه الحرب؛ لأن الجميع على يقين من ضرورة أن يتعاون الجميع لإنقاذ الوضع الاقتصادي الذي أنهكته الاضطرابات الاجتماعية وجائحة (كوفيد – 19)».
من ناحية أخرى، لا شك في أن الاقتصاد سيتصدّر أولويات الرئيس الجديد، لكن ثمّة ملفات أخرى لا تقلّ أهمية، مثل الوضع الأمني والعلاقة مع البرلمان الذي تتوزع القوى اليسارية واليمينية مقاعده مناصفة، فضلاً عن عملية وضع الدستور الجديد التي تتولاها الهيئة المدنية. وعن هذا الملف الأخير، يقول الأستاذ الجامعي كريستوبال بيلوليو «لو كنت مكان بوريتش لاستثمرت كل رصيدي السياسي من أجل إنجاز مشروع وضع الدستور الجديد واعتماده بأغلبية واسعة في الاستفتاء الشعبي. مضمون الرسالة التي وجهها الناخبون إلى الرئيس الجديد هو أنهم يريدون دستوراً معتدلاً يعيد التوازن من جديد إلى البلاد. وإذا قرّر الدستور مثلاً تأميم قطاع المناجم، فهذا لن يحظى بتأييد مقاطعات الشمال (المنجمية). وبالتالي، من واجبات بوريتش الإصغاء إلى صوت الاعتدال، والاكتفاء بتضييق الشرخ الاجتماعي العميق عندما يسلّم الحكم بعد أربع سنوات مع دستور يطوي إلى الأبد صفحة الدستور الموروث من عهد بينوتشيت».
في أي حال سيجد بوريتش نفسه مضطراً إلى إتقان «فن التوازنات» أمام مجتمع ينتظر منه إنجازات اقتصادية سريعة وحلولاً لمشكلات هيكلية قديمة عجزت عن حلها جميع الحكومات السابقة. ذلك أن الإحباط قد يطلّ قريباً إذا تأخرت - أو تعثّرت - نتائج هذا الانتصار الذي رفع منسوب التوقعات إلى أعلى مستوى منذ عودة الديمقراطية إلى تشيلي في العام 1990.
والواقع، أن غابرييل بوريتش يصل إلى رئاسة تشيلي مدعوماً بتأييد غالبية واضحة (أكثر من 56 في المائة) من مواطنيه الذين صوّتوا ليسار جديد لا يحمل إرث الديكتاتورية الثقيل ضد المرشح اليميني المتطرف الذي يدافع عن هذا الإرث الذي رزحت تشيلي ثلاثة عقود تحت وطأته. ويبقى السؤال هو معرفة سقف الإحباط الذي يمكن للتحالف الجديد الذي سيحكم البلاد أن يصمد معه، والذي قد يفتح الباب أمام انفجار اجتماعي آخر قد يقدّم الحكم لليمين المتطرف على طبق من فضة.
التحالفات السابقة التي تعاقبت على الحكم منذ نهاية تسعينات القرن الفائت توزّعت على كتلتين كبيرتين: واحدة ضمّت قوى وسطية ويسارية، وأخرى ضمّت قوى وسطية ويمينية. إلا أن التحالف الذي يدعم الرئيس الجديد يقوم على الحزب الشيوعي و«الجبهة العريضة» التي تضمّ مجموعة واسعة من القوى والهيئات الطلابية والجامعية التي تشكّلت إبّان سلسلة الاحتجاجات التي بدأت في العام 2011... وكانت لحمتها الأساسية التجانس العمري والتشخيص المشترك للمشكلات الاجتماعية التي تعاني منها تشيلي.

أول خطاب لبوريتش
في خطابه الأول بعد إعلان النتائج النهائية، قال بوريتش «نحن أمام منعطف تاريخي، ومن واجبنا جميعاً ألا نضيّع هذه الفرصة». ومن ثم، تعهد بأن تصغي حكومته إلى نبض الشارع، وألا تتخذ قراراتها معزولة عن الناس بين جدران القصر الرئاسي. ولأنه يدرك جيداً أن الأسباب التي كانت وراء الاحتجاجات الشعبية ما زالت قائمة، وتنتظر أول فرصة لكي تفجّر الوضع مجدداً، دعا خصومه وجميع القوى الأخرى إلى الحوار والتعاون «كي يكون الدستور الجديد ملتقى الجميع على طريق المستقبل وليس مفترقاً».
أما المرشح اليميني المتطرف خوسيه أنطونيو كاست، فقد سارع من جهته إلى تهنئة بوريتش حتى قبل إعلان النتائج النهائية. وقال كاست «إنه (بوريتش) يستحق كل الاحترام. لقد فاز عن جدارة وأتمنى له النجاح في الحكم». إلا أنه، في المقابل، قال، إن المشروع السياسي الذي حمله إلى التقدم في الدورة الأولى من الانتخابات ليس عابراً. وتابع «إنني اتعهد أمام كل الذين صوّتوا لنا بأننا سنبقى دائماً بجانبهم ولن نتخلى عنهم أبداً. سنبقى في الأرياف مع تقاليدنا وعاداتنا، وإلى جانب ضحايا الإرهاب وضد كل المحاولات لتغيير وجه تشيلي الحقيقي»... مذكراً بأنه هو فاز في الدورة الأولى الفارق بنفسه الذي فاز به بوريتش في الدورة الثانية. بيد أن المعاينة الأولى للدورة الثانية من الانتخابات أظهرت أن بوريتش نال غالبية ساحقة بين الشباب دون الثلاثين من العمر وبين النساء وفي الأرياف، واستطاع أن يشكّل قاعدة شعبية أوسع بكثير من التي يستند إليها أي من الأحزاب التي تؤيده - بما في ذلك الحزب الشيوعي – ما قد يعطيه هامشاً واسعاً من المناورة في مواجهة التحديات العديدة التي تنتظره.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.