محمد بخاري.. أمل نيجيريا

بعد اختياره رئيسًا.. يواجه تحديات «بوكو حرام» وانفصاليي الشمال.. والفساد المستشري

محمد بخاري.. أمل نيجيريا
TT

محمد بخاري.. أمل نيجيريا

محمد بخاري.. أمل نيجيريا

بابتسامته الأفريقية الطيبة والواثقة، جلس محمد بخاري، وهو يتابع نتائج الانتخابات الرئاسية التي ستحمله إلى هرم السلطة في نيجيريا، أكبر دولة في القارة الأفريقية من حيث تعداد السكان والنمو الاقتصادي؛ حملت ابتسامته مسحة من الأمل وشيئًا من القلق وهو يستعد لقيادة بلد ينخره الفساد وتهدده «بوكو حرام»، ذلك التنظيم الإرهابي الذي أصبح رمزًا للرعب في القارة السمراء.

في صورة تداولتها الوكالات واطلع عليها كثير من النيجيريين، كان بخاري يجلس في غرفة لا توحي بثراء فاحش تأكيدًا لما اشتهر به من التقشف على الأقل مقارنة بمن يتصدرون المشهد السياسي في بلاده، الذين لا يظهرون إلا نادرًا ويسكنون في قصور كبيرة ويتحركون على متن طائراتهم الخاصة.
كان يجلس إلى جانب بخاري أحد كبار أئمة المسلمين في شمال نيجيريا وواحد من أشهر الأساقفة المسيحيين في الجنوب، رسالة مررها بخاري بذكاء عبر صورة حرص على أن تصل إلى الصحافيين وتكون مادة دسمة لهم، وهو يريد أن يؤكد للنيجيريين رغبته الجامحة في تحقيق الوحدة الوطنية وإنهاء سنوات من الاقتتال سالت فيها الكثير من الدماء.
وفي نفس الغرفة كان يقف رجل خلف بخاري وهو يوزع ابتساماته بسخاء كبير، إنه أليكو دانجوتي أغنى أغنياء القارة الأفريقية وأشهر رجال الأعمال وأصحاب النفوذ في نيجيريا؛ بدت على ملامح دانجوتي علامات الاطمئنان والراحة، ما اعتبره مراقبون رسالة موجهة إلى المستثمرين بأن نيجيريا بخاري تختلف عن سابقاتها، وأن رأس المال الجبان سيكون في أمان.
ولكن في مقابل هذه الصورة التي أمر بخاري بالتقاطها لتظهره كما يريد وبكثير من الوردية، هنالك صورة أخرى قاتمة وغامضة، صورة تلخص ما يواجه الرجل من تحديات لن يكون من السهل التعامل معها، فبالإضافة إلى الملف الأمني وتزايد خطر جماعة بوكو حرام التي تحولت إلى تهديد إقليمي يقترب أكثر فأكثر من أن يكون ملفًا دوليًا، تنتظر بخاري حربا أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، ألا وهي الحرب على الفساد في بلد تستأثر فيه نسبة قليلة من مواطنيه بالثروات فيما تعيش الأغلبية الساحقة تحت خط الفقر ولا تتوفر على أبسط مقومات الحياة؛ فهل ينجح بخاري في رفع التحدي؟
بخاري البالغ من العمر 72 عامًا، هو أحد مواليد دولة كاتسينا في شمال نيجيريا الفيدرالية، ينحدر من قبائل «الفلان» ذات الشهرة الواسعة في القارة السمراء؛ ينتمي لأسرة مسلمة محافظة يصل عدد إخوته إلى 23 هو الأصغر من بينهم، حظي بتعليم متوسط قبل أن يدخل الجيش على غرار أقرانه من المراهقين الطامحين لمستوى معيشي أفضل، قد لا توفره سوى المؤسسة العسكرية في ذلك الوقت.
استفاد بخاري وهو شاب يحركه الحماس من تكوينات عسكرية في سلوفينيا والمملكة المتحدة، ليصل إلى رتبة ضابط في الجيش النيجيري، حيث شارك في انقلاب ناجح عام 1966، وتقلد بعد ذلك عدة مناصب مهمة، قبل أن يقود انقلابًا أوصله إلى السلطة يوم 31 ديسمبر (كانون الأول) 1983، فأحكم قبضته الحديدية على البلاد في واحد من أقسى الأحكام الديكتاتورية التي حكمت نيجيريا.
لم يدم حكمه أكثر من عشرين شهرًا فقط، اشتهر خلالها بصرامته في محاربة الفساد وعدم تهاونه مع من يخرجون على القانون؛ فقد أمر بإعدام ثلاثة أشخاص متهمين بالمتاجرة بالمخدرات، علنًا على أحد شواطئ العاصمة لاغوس؛ كما أصدر قانونًا يحرم التظاهر في الشارع، ويسمح بالعقوبة من دون محاكمة في حق أي شخص يهدد «الأمن الوطني»، وأعطى سلطات واسعة لأجهزة المخابرات.
في مارس (آذار) من عام 1984 بدأ بخاري حربًا ضد ما كان يسميه «عدم الانضباط»، وخصوصًا في صفوف موظفي الدولة الذين فصل منهم 200 ألف موظف، وخضع من أصبحوا يوصفون بـ«الكسل» لعقوبات مذلة تحمل الكثير من الإهانة.
سقط نظام الجنرال بخاري بانقلاب عسكري شهر أغسطس (آب) 1985 ليشرب من نفس الكأس التي سقى منها النيجيريين، فخضع للسجن لعدة أشهر، واختفى بعد ذلك بشكل تام من الساحة السياسية قبل أن يظهر بعد ذلك بأعوام على رأس وكالة حكومية مكلفة تمويل مشروعات تنموية عن طريق عائدات النفط.
ومع وصول الديمقراطية التعددية إلى البلاد عام 1999، ظهر بخاري كواحد من وجوه المشهد السياسي في نيجيريا، فأسس حزبًا سياسيًا ترشح من خلاله ثلاث مرات للانتخابات الرئاسية من دون أن ينجح، قبل أن يتحقق حلمه بالعودة إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع في ترشحه الرابع هذا العام، وذلك نتيجة عدة عوامل من أبرزها نجاحه في توحيد صفوف المعارضة خلفه، والاستفادة من أخطاء الرئيس السابق غودلاك جوناثان، الذي عصفت به التحديات الأمنية وملفات الفساد، نفس التحديات التي ستحدد مصير الجنرال العائد إلى السلطة بعد ثلاثة عقود.
يقول آدم تيام، رئيس تحرير صحيفة «الجمهورية» التي تصدر في عاصمة مالي باماكو، إن بخاري يتمتع بصفات مهمة قد تخدمه كثيرًا خلال إدارته لدفة الحكم في نيجيريا، ولكن تاريخه السياسي والعسكري لا يخلو من نقاط سلبية؛ ويشير تيام في حديث مع «الشرق الأوسط» إلى أن بخاري «ينحدر من الطائفة المسلمة السنية في الشمال، ولا تنقصه الحكمة والتجربة، حيث سبق أن حكم البلاد لعشرين شهرًا خلال ثمانينات القرن الماضي، لذا من خلال تقييم ماضيه يمكننا أن نستشرف مستقبله».
وأضاف تيام: «كونه انقلابيًا سابقًا فتلك ليست نقطة مضيئة في تاريخه السياسي والعسكري؛ هذا بالإضافة إلى أن اسمه ظهر قبل عقود في عدة قضايا فساد من أبرزها اختفاء قرابة 3 مليارات دولار من شركة نفطية كان يديرها، كل ذلك يضاف إلى مشاركته في التخطيط لانقلاب عسكري عام 1966 حمل مورتالا محمد إلى السلطة؛ غير أن شهرة بخاري أخذها من التضييق على الحريات العامة خلال حكمه؛ كل ما سبق يجعلنا نتساءل إن كان النيجيريون لم يختاروا بخاري، وإنما صوتوا ضد جوناثان؟ من دون أدنى شك هنالك شيء من ذلك؛ ولكن يجب ألا ننسى أن النيجيريين انجرفوا وراء الخطاب القوي للجنرال السابق».
في مقابل الانتقادات التي توجه لتاريخ الرجل، يقول عليون إنجاي، وهو باحث سنغالي مختص في العلاقات الدولية، إنه «من الضروري أن نواجه حديث البعض عن ماضي بخاري الديكتاتوري، بالقول إن الأمور تبقى نسبية ومحكومة بالظروف، ففي ثمانينات القرن الماضي لم يكن في نيجيريا طريقة أخرى لممارسة السلطة».
ويضيف إنجاي في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن «هنالك نقاطًا إيجابية يجب التوقف عندها في مسيرة الرجل، خاصة خلال حكمه القصير للبلاد، مثل الحرب الشرسة التي خاضها ضد الفساد، وإطلاقه لنداء واضح وصريح يدعو فيه المواطنين النيجيريين من أصحاب الخبرة والكفاءة الموجودين في الخارج إلى العودة ومساعدته في إنعاش الاقتصاد، إنها دعوة كانت ثورية آنذاك».
ولكن إنجاي في سياق حديثه عن القبضة الحديدة التي حكم بها بخاري البلاد في السابق، يقول: «صحيح، إن مصادرة الحريات كانت حاضرة بقوة في ممارسته للسلطة، ولكن نيجيريا تغيرت وتقدمت كثيرًا في هذا الطريق، وبالتالي استحضار الماضي الديكتاتوري للرجل في هذا الوقت غير موضوعي».
وبالنظر إلى التحديات التي تواجه بخاري في المستقبل، يبرز الملف الأمني إلى الواجهة، ذلك ما يؤكده الخبير السنغالي في العلاقات الدولية، حيث يقول: «التحديات التي تواجه بخاري هي في المقام الأول تحديات أمنية؛ فمن واجبه إعادة الاستقرار إلى شمال نيجيريا، وخلال الحملة أكد أنه سيحقق هذا الهدف خلال شهر فقط، إنه وعد في غاية الطموح، ولكنه ليس مستحيلاً».
وتعهد بخاري في مواجهته لجماعة بوكو حرام التي تسيطر على مناطق واسعة من شمال نيجيريا، على خطة لا تكتفي بالجانب الأمني والعسكري فقط، وإنما تعتمد بالإضافة إلى ذلك على جانب تنموي موازٍ، حيث أكد بخاري خلال حملته الانتخابية سعيه إلى القضاء على الفقر وإقامة مشاريع تنموية في الشمال، من أجل محاصرة الجماعة الإرهابية التي تستفيد بشكل كبير من جيوب الفقر والجهل لاكتتاب أكبر قدر من المقاتلين؛ غير أن المراقبين للوضع في نيجيريا يؤكدون صعوبة القضاء على جماعة بوكو حرام، خصوصا أن بخاري يرث جيشًا منهكًا ينخره الفساد، ولكنهم في نفس الوقت لا يستبعدون نجاح الجنرال السابق في الحد من خطورة الجماعة الإرهابية.
وبالإضافة إلى الملف الأمني وتهديد «بوكو حرام»، يواجه الرئيس النيجيري الجديد تحديًا من نوع آخر؛ إنه الحرب على الفساد والخروج بنيجيريا من الوضع الاقتصادي المتردي، وكان بخاري قد أعلن في حملته الانتخابية، أنه «إذا لم تقتل نيجيريا الفساد، فسيقتل الفساد نيجيريا».
وبالنظر إلى لغة الأرقام نجد أن الوضع الاقتصادي في البلاد غير متوازن، فخلال السنوات الست الماضية (ما بين 2007 و2013) ارتفع عدد المليونيرات النيجيريين بنسبة 44 في المائة، في حين تشير الإحصائيات إلى أن نسبة 80 في المائة من سكان الشمال لا يزيد دخلهم اليومي على دولار ونصف الدولار.
ويشير عليون إنجاي إلى أن «بخاري يرث وضعية اقتصادية ليست سهلة، خاصة في ظل الهبوط الحاد في أسعار النفط عالميًا، فيما لا يتجاوز مخزون نيجيريا من العملة الصعبة في صندوق عائدات النفط حاجز الثلاثين مليار دولار أميركي».
أمام هذه الوضعية يواجه بخاري تحد جديد يتمثل في تنويع الاقتصاد في بلاده التي تعتمد بشكل كبير على المحروقات ومشتقاتها، حيث تمثل نحو 80 في المائة من عائدات الدولة، خاصة في ظل التخطيط لاستغلال النفط الصخري من طرف الولايات المتحدة الأميركية، أكبر زبون لنيجيريا.
ولا تتوقف التحديات الاقتصادية عند هذا الحد، خاصة في ظل الوعود الكبيرة التي قطعها بخاري على نفسه، ولعل من أبرز هذه الوعود تعهده بمحارة البطالة في صفوف الشباب، وهي معركة أخرى لن تكون سهلة في بلد تشير الأرقام إلى أن 70 في المائة من سكانه تحت سن الأربعين، و400 ألف شاب تدخل سنويًا سوق العمل يبقى أزيد من 60 في المائة منهم دون عمل؛ فهل ينجح بخاري في تحقيق وعده بخلق 720 ألف فرصة عمل سنويًا، ولعل هذا هو الأسهل من بين وعوده الانتخابية الكبيرة لشعب ذاق للمرة الأولى حلاوة التغيير عبر صناديق الاقتراع.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.