عبد المقصود عبد الكريم: أحلم بكتابة سيرة ذاتية... ودوري في الترجمة امتداد للشعر

الشاعر المصري يرى أن جيله حرك المياه الراكدة وكسر نمطية «التفعيلة»

عبد المقصود عبد الكريم: أحلم بكتابة سيرة ذاتية... ودوري في الترجمة امتداد للشعر
TT

عبد المقصود عبد الكريم: أحلم بكتابة سيرة ذاتية... ودوري في الترجمة امتداد للشعر

عبد المقصود عبد الكريم: أحلم بكتابة سيرة ذاتية... ودوري في الترجمة امتداد للشعر

بين الطب النفسي والشعر والترجمة، يحفر الشاعر المصري عبد المقصود عبد الكريم ملامح تجربته الإبداعية والإنسانية بقوة ودأب. يصف نفسه بأنه شخص «يدمن العمل»، فحين تعز عليه القصيدة يهرع إلى الترجمة ملاذه الآمن لإشباع رغبته في الإنجاز والعطاء. يعتز بانتمائه لشعراء جيل السبعينات، ويرى أنه استطاع تحريك كثير من المياه الراكدة. أصدر عدداً من الدواوين الشعرية، من أبرزها «أزدحم بالممالك» 1980، و«يهبط الحلم بصاحبه» 1993، و«يوميات العبد على حافة بئر الأميرة» 2012. ومن ترجماته: «فانتازيا الغريزة» د. ه. لورانس، و«جاك لاكان وإغواء التحليل النفسي»، و«رسائل همنغواي - جزءان»... هنا حوار معه حول الشعر والترجمة وهموم الكتابة.

> هل صدور ديوانك الأخير «كما لم تكن قط» بمثابة إعلان لعودتك إلى الشعر الذي غبت عنه طويلاً، حيث لم يصدر لك عبر نحو أربعين عاماً سوى ستة دواوين؟
- أكرر بداية ما سبق أن أعلنته في أكثر من مناسبة؛ إنني أرى نفسي دائماً شاعراً يترجم ويمارس الطب النفسي، وبالتالي من الصعب الحديث عن انقطاعي عن الشعر، وبالتالي ليس صحيحاً أن ديوان «كما لم تكن قط» إعلان عودة إلى الشعر. هو ثالث ديوان في أقل من عشر سنوات، بعد «يوميات العبد على حافة بئر الأميرة»، هيئة الكتاب (2012)، و«نسخة زائفة»، المجلس الأعلى للثقافة (2015). ورغم أنني مقل نسبيّاً، مقارنة ببعض أبناء جيلي، فإن السنوات العشر الأخيرة شهدت نشاطاً ملحوظاً في علاقتي بكتابة الشعر. إضافة إلى الدواوين الثلاثة المذكورة، توجد ثلاثة دواوين في الفترة نفسها؛ وإذا استبعدت ديوان «نسخة زائفة»لأنه كتب قبل 2010، يكون العقد الأخير شاهداً على كتابة خمسة دواوين.
> يهيمن إحساس بالأسى ونكهة الرثاء للذات والعالم على قصائد الديوان، كما في قصيدة «سباق»، حيث «لا أحد يريد سباقاً مع شاعر عجوز»، ما سبب ذلك؟ وكيف ترى التقدم في العمر بالنسبة للمبدع؟
- كتبت معظم قصائد الديوان في 2015، السنة التي رحلت فيها أمي، ورحل فيها أبي، وبالتالي كان من الطبيعي أن تغلب عليه نبرة الرثاء، للأم والأب والعالم والذات. ونمضي سريعاً إلى السباق مع شاعر عجوز؛ وحده الزمن يوافق على السباق مع شاعر عجوز، بنتيجة محسومة سلفاً؛ وكما قلت، حتى في قصائدي، علاقتي بالزمن معقدة وملتبسة؛ الزمن مقياسه الوحيد الحالة المزاجية؛ حين ترتفع يمر خفيفاً وسريعاً ولطيفاً، وحين تنخفض يحدث العكس تماماً؛ الزمن، باختصار، مشكلة بالغة التعقيد علمياً وفلسفياً وشعرياً.
> برأيك؛ هل أصبح الشعر يتيماً على مائدة الثقافة العربية؟ وكيف ترى مقولة د. جابر عصفور بأن الرواية هي «ديوان العرب» حالياً؟
- لا أظن أن الأمر بهذه البساطة؛ يبدو لي بالغ التعقيد. الرواية نوع أدبي حديث نسبيّاً، وحديث جدّاً مقارنة بالشعر، الشعر الذي عرفه الإنسان منذ عرف اللغة، ولن أبالغ إذا قلت إنه ربما عرفه قبل ذلك؛ ربما غنَى الإنسان قبل أن يتعلم اللغة. لكن الشعر، مثله مثل كل نوع فني عريق، له فترات ازدهار وفترات ركود. والمشهد الحالي، ينبئنا بأن هناك تراجعاً كبيراً في توزيع دواوين الشعر؛ دور النشر لا تفضل نشره، ودور التوزيع والمكتبات لا تفضل توزيعه. الدواوين سلعة راكدة بالتأكيد. لكن ينبئنا ظهور أجيال جديدة تتمتع بالموهبة وتكتب شعراً جيداً، بأن الشعر مزدهر؛ وهذا أمر بالغ التعقيد: حين يقل الطلب على سلعة يتراجع الإنتاج بالضرورة، لكن يبدو لى أن الشعر استثناء من هذه القاعدة. أما أن تكون الرواية ديوان العرب، أو ديوان الأمم، فهذا أمر يبدو صحيحاً إلى حد كبير؛ الرواية، ربما في العالم، في ذروة شبابها، والأسباب كثيرة ومعقدة، وليس هنا مجالها.
> بصراحة شديدة، كيف ترى ظاهرة تحول بعض الشعراء إلى كتابة الرواية بحثاً عن الانتشار والتحقق والجوائز المغرية؟ ألم تفكر في الانضمام إليهم؟
- أتفق معك على أن هذا التحول يمثل ظاهرة؛ لكنني لا أتصور أن يكون سبب الظاهرة الانتشار والتحقق والجوائز فقط. إنها ضمن الأسباب. لنسلم أولاً بأن معظم المبدعين في مجال الكتابة يبدأون العلاقة بالشعر أولاً؛ ربما يتحول بعضهم إلى حقل آخر حتى قبل أن ينشر قصيدة واحدة؛ ويتحول آخرون في مراحل مختلفة. ثانياً: هناك روائيون كبار في العالم كتبوا الشعر؛ همنغواي له بعض القصائد؛ وبول أوستر له أكثر من عشرة دواوين إن لم تخني الذاكرة. ثالثاً: هناك الإحباط من ندرة جمهور الشعر التي قد تشعر البعض بالفشل أو عدم التحقق. رابعاً: لا أظن أن شاعراً موهوباً مبدعاً يمكن أن يتخلى عن الشعر تحت أي إغراء. خامساً: ربما يوظف البعض موهبته في الشعر في كتابة الرواية لينتج رواية لها طابعها الشعري الخاص. سادساً: فيما يخصني، لم أفكر يوماً في كتابة رواية؛ لكنني أحلم بكتابة سيرة ذاتية.
> لك دراسة مهمة ترصد فيها من منظور جديد ملامح «الشعر والحلم والنسيان»، ترى ما أبرز ما يربط بين هذه المفردات الثلاث؟
- أظنك تتحدثين عن الدراسة التي نشرت في مجلة «ألف» في أوائل تسعينات القرن الماضي. بإيجاز شديد، يمكن القول: إن الشعر ابن الحلم وابن النسيان؛ من دون الحلم والنسيان يفقد الشعر الكثير. الحلم يعني السعي إلى تحقيق شيء بعيد المنال؛ والنسيان يعني الابتكار والإبداع. والنسيان هنا بالمعنى الذي ورد على لسان «ابن منظور» بشأن «أبي نواس»؛ أن يحفظ وينسى؛ الحفظ والنسيان، وهو ما أفهمه هنا بذوبان ما حفظ في ذاكرة الشاعر ووجدانه وتحوله إلى نسيج جديد، يخص الشاعر وحده، ومنه يبدع قصيدته، وإلا جاءت مسخاً وتكراراً؛ وهما يفقدان أي إنتاج صفة الإبداع.
> إسهاماتك في الترجمة لم تستثنِ الشعر، ألم تخيفك مقولة إن مترجم القصيدة خائن بالضرورة لأنه لا يمكن أن ينجح في توصيل المعنى الأصلي بنسبة مائة بالمائة؟
- الخيانة في ترجمة الشعر خيانة مزدوجة، أعترف. لكنني أعترف أيضاً بأن النص الشعري المترجم نتاج مشترك، من إبداع الشاعر والمترجم. المترجم الذي يفضل في هذه الحالة أن يكون شاعراً، أو يتمتع على الأقل بحس شعري رفيع. كما لا يمكن فصل القصيدة عن الشاعر، لا يمكن فصلها عن المترجم. ترجمة سعدي يوسف لديوان «أوراق العشب» لولت ويتمان على سبيل المثال، تحمل سمات سعدي بقدر ما تحمل سمات ويتمان، إن لم تكن الهيمنة لسمات سعدي؛ وينطبق الأمر نفسه على ترجمة أدونيس لسان جون بيرس، وصلاح على الصبور لكفافي؛ وينطبق بالقدر نفسه عليَّ فيما ترجمته من شعر.
> ما سر ولعك بالترجمة في الآونة الأخيرة حتى إنها باتت أحد أبرز ملامحك تجربتك الثقافية؟
- بدأت تجربتي مع الترجمة في ثمانينات القرن الماضي بأشكال متفرقة لأعمال قصيرة. وأول كتاب ترجمته يرجع إلى 1989، أي منذ أكثر من ثلاثة عقود وهو كتاب د. هـ. لورانس، «فانتازيا الغريزة»، وقد نشرت طبعته الأولى في دار الهلال في 1992، وطبعته الثانية منذ عامين تقريباً في دار آفاق. وبالتالي فهو ولع قديم، يمارس فيه الشاعر دوراً مهمّاً في الثقافة، ولا أظن أنني استثناء بين الشعراء؛ القصيدة عزيزة وتبالغ في الدلال والتمنع أحياناً، وأنا شخص يدمن العمل، ولا يمكن أن أنتظر حتى تحن عليَّ القصيدة. وأكرر هنا، دوري في الترجمة امتداد لدوري في الشعر خاصة، وفي الثقافة عموماً.

> تعد «رسائل» الكاتب الأميركي الأشهر إرنست همنغواى أبرز ما ترجمته مؤخراً، ماذا عن كواليس هذا العمل الذي يعد إضافة مهمة للمكتبة العربية؟
- بدأ المشروع باقتراح من الصديقة العزيزة سوسن بشير، مستشارة دار آفاق للنشر بالقاهرة؛ ورحبت، برغم الصعوبات التي كنت أتوقعها مع عمل بهذا الحجم، وبهذه الخصوصية؛ إنها رسائل من طرف واحد، لا يوجد رد الطرف الآخر؛ وحين تكون ردّاً، لا توجد أيضاً رسالة الطرف الآخر؛ والأمر في مثل هذه الحالات يكون بالغ الصعوبة غالباً، وعلى المترجم أن يبحث عن سياق الرسالة وظروفها. عموماً في النهاية، عشت مع الكتاب أربعة عشر شهراً شقيت فيها بالترجمة وسعدت فيها بصحبة همنغواي؛ وهو بالمناسبة، بالإضافة إلى أعماله الأدبية، شخصية إنسانية بالغة الثراء. ولعل المقدمة التي كتبتها للترجمة تضيف بعض التفاصيل على هذه الكواليس.
> ما الصعوبات التي تعوق مشروعك في الترجمة وكيف تحاول التغلب عليها؟
- لا توجد برامج أو مشاريع واضحة للترجمة؛ في دور النشر الحكومية يصطدم المرء بالبيروقراطية، وفي دور النشر الخاصة يصطدم المرء بنقص الإمكانات المادية، ومحاولة اختصار التكلفة إلى أقصى حد، ما يدفع بعض دور النشر الخاصة إلى البحث عن أعمال ليست لها حقوق ملكية فكرية.
> بدأت تجربة جيل شعراء السبعينات الذي تنتمي إليه بالأحلام الكبرى والتمرد على ثوابت المشهد الثقافي العربي، ترى ما الذي حققتموه؟ وما الذي أخفقتم فيه؟
- حركنا المياه في بركة راكدة، بعد أن تحولت تجربة رواد شعر التفعيلة في بضع سنوات، بسرعة لا مثيل لها في أي حركة تجديد في الإبداع، إلى تجربة كلاسيكية، وظهر عشـرات من الشعراء يقلدون ما يعرف بالشعراء الرواد. بنظرة سريعة على مجلة «الشعر» المصرية في ستينات القرن الماضي وما كان ينتجه شعراء الأجيال التي تلتنا، يمكن معرفة ما حققناه. وفي هذا السياق لا يمكن الحديث عن إخفاق، وبدلاً من ذلك يمكن الحديث عن أحلام لم تتحقق، وأحلام أجهضت، وأحلام تبين أنها كانت أوهاماً! لكن المشهد كله يدل على أننا عبرنا من هنا وحطمنا بعض الأصنام وغرسنا بعض البذور.
> أخيراً؛ ما الذي يثير شغفك الآن؟ وهل تنظر إلى الماضي بغضب؟
- بلغنا من العمر ما بلغنا، ويبقى هناك ما يثير شغفنا. يثيره حلم وبذرة تنبت وطفلة تكبر. ويثيره الهدوء، ملاذنا الأخير.لا أعرف حقيقة إن كنت أنظر إلى ماضيَّ بغضب أم لا؛ لم أفعل الكثير مما حلمت به، وفعلت الكثير مما لم أفكر في فعله أو أخطط له.



الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس
TT

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن»، على نحو يجعله معاكساً في كثير من الأحيان لتقاليد التشكيل البصري الخاضع للقواعد، في الرسم والصباغة والنحت، ومناهضاً لثقافة التحفة المرتكزة على مفاهيم فلسفية، متصلة بأذواق نخب محدودة ذات تكوين فني متين. لتنتقل إلى كونها شاملة لـ«أغراض» تجارية متباينة، موجهة لطبقة جديدة من الأثرياء، منفصلة عن المعايير الجمالية والأكاديمية المستقرة، وخاضعة لنوازع استهلاك المنتج الفاخر، وما يتصل به من رغائب إبراز الرفاه. وهو الفهم الذي يبرز للنظر انتقال الفن من وضع «التعبير الثقافي» إلى كونه تمثيلاً «لانتماء طبقي».

في هذا السياق، يتموضع كتاب «الفن المعاصر، التلاعب والجغرافيا السياسية» (منشورات إيرول، باريس، 2025) - Art contemporain, manipulation et géopolitique- وهو الإصدار الأخير للناقدة ومؤرخة الفن الفرنسية أود دو كيروس Aude de Kirros، التي اكتسبت شهرتها عبر العقود الثلاثة الأخيرة بوصفها من أكبر الباحثات المرتابات في واقع الفن اليوم، ومن أشد المعترضين على اختراقات الفن المعاصر لقواعد التشكيل البصري، ومن أكثر النقاد تشدداً في تحليل معايير تصنيف الأعمال ومنحها معادلات مالية. هي القادمة إلى عوالم الأروقة والمتاحف ومزادات الأعمال الفنية من مسار تعليمي توزع بين معهد الدراسات السياسية، وكلية الحقوق، ومحترفات الحفر (الغرافيك) في باريس، لتنتج أعمالاً بنكهة فلسفية لا تخفي تولعها بالسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا، من قبيل: «الفن الخفي، المنشقّون عن الفن المعاصر»، و«السنوات السوداء للرسم: 1983 – 2013»، و«قداسة الفن المعاصر، الأساقفة والمفتشون والمفوّضون»، و«خديعة الفن المعاصر، طوباوية مالية». إصدارات جعلت إسهاماتها المكثّفة في الحياة الفنية تتجلى عبر إدراك ناضج لعمق التحوّلات التي شهدها الفن عبر أصقاع الكون.

يتناول الكتاب موضوع الفن المعاصر في صلاته بما يمكن وسمه بـ«صناعة القيمة»، عبر تحليل نقدي لسوق الفن المعاصر، يضع تحت مجهر الاختبار السياقات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، متجاوزاً التحليل المستند إلى قراءة وتأويل مرتكزات الخطاب الجمالي البحت؛ إذ تناقش أود دو كيروس تلك المرتكزات بوصفها عتبات لما بعدها، انطلاقاً من افتراض نقدي يرى أن الفن المعاصر، خاصة الأعمال التي تباع بأسعار خيالية، لا تعكس في وضعها ذاك «ذوقاً» أو «تعبيراً فنياً» فقط، عبر صور لا تخلو من تطرف، بل إنها غدت، على نحو ظاهر، تتخطى منطلقات الأسلوب «المفاهيمي»، الزاهد في أشكال اللوحة والمنحوتة المأثورتين، لتتحول إلى أداة نافذة شديدة التأثير في أيدي النخب والمؤسسات المالية والجهات الحكومية، توظفها بحرص ووفق شروط معقدة لخدمة مصالحها الخاصة. وبتعبير الباحثة في إحدى فقرات الكتاب: «لقد توقّف الفن المعاصر عن أن يكون مجرد مفهوم صرف، محصور تداوله في دائرة صغيرة من (السعداء المعدودين) الذين يتغذّون على غموضه. وأصبح فنّاً (جامعاً لكل شيء)، يضمّ كل المفاهيم: الفن، والموضة، والتصميم، وما سوى ذلك» (ص 16).

يمتد الكتاب على 4 فصول، ومقدمة، وخلاصات، وفهارس، في أزيد من 350 صفحة، تتخذ العناوين الفرعية التالية: «فنون في زمن الحرب» وهو الفصل الأول المشتمل على مبحثين، تدرس في الأول «البدايات الطوباوية للفن العالمي ما بين 1917 - 1991»، وتعالج في الثاني «التحوّل ذو الطابع الهيمني للفن ما بين 1990 - 2000 »، وتخصص الفصل الثاني: لـ«الحقبة العالمية في عقدي 2000- 2020» وتتناول فيه عبر مبحثين قضايا: «أوج النموذج الهيمني»، ثم «بزوغ العصر متعدد الأقطاب»، وتتناول في فصل ثالث: «خرائطية الفن المعاصر: من الهيمنة إلى التنافس»، وفي الفصل الرابع والأخير الموسوم بـ«قوى جديدة وتقنيات جديدة: ثورة الفن عالمياً»، تخوض في تحولات العقود الفنية الأخيرة عبر مبحثين، أولهما عن: «آخر حروب الفن، سنوات 2010–2020»، والثاني عن «التحولات النسقية للفن المعاصر ما بين 2020–2024».

والحق أن التحليل النقدي في هذا الكتاب، الذي لا يخلو من نبرة سجالية ملحوظة، يذهب في مجمله إلى تبني نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي - الاقتصادي، حيث يوَظَّف الفن المعاصر، من جهة، من حيث هو نتاج لقضايا العنصرية والعولمة وتغير المناخ والتحول الجنسي... ومن جهة ثانية، بوصفه حصيلة للتحكم المؤسساتي، وهو ما يبرر الانتشار السريع لتيارات الفن المعاصر المتفاقمة عبر العالم، وسعيها لإخضاع ما سواها. ولا غرابة بعد ذلك أن لا تالو الباحثة جهداً في إبراز أن عالماً يفيض بالصور والعروض والاحتفالات الفنية، التي روّجت لها إقامات فنية وأروقة ومتاحف شهيرة عبر العالم من نيويورك إلى سيدني، ومن لندن إلى باريس ومن داكار إلى دبي،... أصبح معها الفن المعاصر المدعوم مؤسساتياً والمسنود مالياً، عبر سياسات حكومية شتى، الأكثر حضوراً، على نحو يغمر المشهد بشكل شبه كلي، حيث بات يشكل واجهة براقة تحجب خلفها ما تبقى من تجارب فنية أخرى.

وغير عصي عن البيان أن هذا الوهج المتصل لا يكشف حقيقة الفن، بل يخلق واجهة مكتفية بذاتها، بحيث يبدو كل ما يقع خارج دائرة الضوء كأنه غير موجود أصلاً. وشيئاً فشيئاً تنزلق أعمال استثنائية كثيرة من داخل هذا المشهد المزدحم إلى منطقة العتمة، لا لأنها تعجز عن التأثير، بل لكونها تفتقد لمجال يسمح لها بالتجلي. ومع مرور الوقت، لا تتوارى هذا التجارب إلى الخلفية فحسب، بل تُدفَع إلى حالة من الانمحاء تجعل وجودها نفسه موضوعاً للشك، ويحتاج من يشتغل عليها إلى إثبات أنها ما تزال حية.

ولا ينفصل الدور التحكمي للمؤسسات الفنية الكبرى من إقامات وأروقة ومتاحف، التي تسلط أود دو كيروس عليها الضوء، عن وظائف المُموِّلين الخواص، وبعض الحكومات في تشكيل الذوق العام، والتلاعب بقيمة الأعمال الفنية، ما يُرسخ هيمنة المركز الغربي على المشهد الفني العالمي من جهة، ولا يترك لمفاهيم من قبيل «الجمهور الفني» و«جامعي الأعمال الفنية» و«تلقي المعارض»، دلالات واضحة، خارج ما تكسبها إياه تلك المؤسسات والسياسيات المتصلة بها، بحيث يتجلى الأمر كما تبرزه الباحثة في أكثر من موضع في الكتاب، من حيث هو «صناعة» لاعبين كبار، لهم قدم في الواجهة البراقة لأعمال «التركيب الفني» و«الهوت كوتير» و«تصاميم المجوهرات» و«أعمال الديكور»... وقدم في الخلفية المعتمة للمال ورهاناته ومضارباته ومآزقه.

ولا جرم بعد ذلك أن تكون «صناعة القيمة» تعريفاً مهذباً لما يمكن أن يكون عليه «التلاعب بسوق التحف»، وسرعان ما تكشف الباحثة الفرنسة، التي تعلن عن نفسها كأحد أصوات مقاومة هذا الدور التحكمي، عن آليات التلاعب التي تُمارس في هذا القطاع، من خلال وسطاء يجعلون القيمة تبدو غير طبيعية، بل «مُؤمَّنة» من خلال شبكة مغلقة، يتم فيها تحديد الأسعار وتضخيمها، عبر تكتلات من جامعي التحف والمستشارين وصالات المزادات الكبرى، ما يخلق نوعاً من التداول من الداخل (délit d’initiés)؛ إنها شبكة الوسطاء نفسها التي تنتهي إلى قولبة «العمل الفني» وأصحابه، باعتبارهم «منتجات» يتم الترويج لهم، وفقاً لمنطق السوق، بدلاً من الجدارة الفنية. ما دامت أعمال الفن المعاصر لم تعد تقيَّم، بناء على معايير جمالية أو فنية، بل أصبحت تدار باعتبارها منتجاً مالياً مشتقاً، داخل سوق يمكن وسمها حسب الباحثة بـ«يوتوبيا مالية» (Utopie financière) تُنتج قيمة لأشياء قد لا تمتلكها في الأصل.

يتبنى الكتاب في مجمله نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي ــ الاقتصادي

وتدريجياً تخلص أود دو كيروس، عبر مباحث الكتاب وفصوله، إلى محصلة، تتولى فيها تلك المؤسسات المتحكمة في القيم الفنية وما يوازيها من أنصبة مالية، تشريع سوق لا يعكس حقيقة المنجز، بل حقيقة افتراضية متواضع عليها من قبل سلسلة الوسطاء، الأمر الذي سيسهل معه أن تتحول الأعمال الفنية التي باتت لها تلك القدرة التجريدية الكبرى للقيم المنقولة، إلى جعل سوق الفن ملاذاً مالياً، يعتبر مرتادوه من رجال أعمال، ومنتهزي فرص، ومغامرين، الأعمال الفنية بمنزلة أصول آمنة مربحة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل أزمة 2008، التي لاحظت الكاتبة بصددها أن سوق الفن (على عكس الأسواق الأخرى) استمر في تسجيل مبيعات قياسية، ما دلّ على انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي وتحوله إلى مكان آمن لاستثمار الأرصدة الجامدة، بالقدر نفسه الذي مثّل فيه فضاءً تبادلياً استثنائياً لغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. وبتعبير الباحثة، فـ«جيل جامعي التحف الفنية الذي كان يحدّد الذوق في نهاية القرن العشرين لم يعد موجوداً. كان هذا الجيل أنغلوساكسونياً وأوروبياً، غنياً ومثقفاً أو راغباً في أن يكون كذلك. أما الموجة الجديدة فهي تتجاوزه في الثراء، ولم تعد لكلمة (فن) في عرفها المعنى نفسه... لهذا من الطبيعي أن تتكيّف دور المزادات لتقدم لهذا الجيل الجديد مزيجاً بارعاً، وغير متجانس، مما قد يرغب في استهلاكه؛ من العمل الفني إلى حقيبة اليد، ومن غرض التصميم إلى الموضة» (ص 15- 16).

ولعل تحول دلالة «الفن»، واختلال توازن القيمة الإبداعية والمالية، وخضوع أثمان التحف لتحكم مؤسسات كبرى، مع اتساع سوق الفن ليشمل صناعات فاخرة شتى تغري بالاستثمار، كلها عوامل أسهمت بحسب كتاب «الفن المعاصر: التلاعب والجغرافيا السياسية» في الرهان على القوة الناعمة للفن، ليس داخل الاقتصاد فقط، بل ضمن سياقات جيوسياسية متعددة، حيث أضحى سوق الفن ساحة معركة غير مباشرة بين القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة) والقوى الصاعدة (الصين ودول الخليج)، هذه الأخيرة التي دخلت مضمار المنافسة بخطط مستقبلية لتَبْيِئَةِ منتجات الفن المعاصر ضمن محيطها، ليس بهدف اكتساب شرعية ثقافية مضافة فقط، بل بقصد تحدي الهيمنة الغربية القديمة. إنه التنافس ذاته الذي ضاعف من أسعار الأعمال الفنية، وحوّلها إلى «سلاح» في أيدي النخب المالية والسياسة المتصارعة. وبتعبير موجز، فقد مثّلت الجغرافيا السياسية للفن، بحسب أود دي كيروس، السبيل إلى الكشف عن «تحوّل العمل الفني من كونه قيمة جمالية إلى رمز للقوة»، ونقطة ارتكاز في شبكات النفوذ العالمية التي تربط بين الإبداع والمال، والسلطة، والعلاقات الدولية في عالمنا المعاصر.


«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد
TT

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي، فإن عباس محمود العقاد (1889 – 1964) اختار كمفكر من طراز خاص أن يكرس المساحة الكبرى من كتابه لمناقشة «فلسفة الضحك» عبر حقب زمنية مختلفة.

البداية كانت من عند أفلاطون؛ إذ ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في «مدينته الفاضلة» أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين، وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان، بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.

ويرى الفيلسوف اليوناني الأشهر أن الإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه بشكل شخصي، لكنه لا يبالي أن يبكي أو يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضاً عليه في مسرحية مفجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه فيتغلب على نفسه في سبيل غيره. والإنسان الكريم يأبى أن يتفوه بالعبارات الكوميدية أو التراجيديات المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.

وليس بالشيء الجيد، وفقاً له، أن يكون في «الجمهورية الفاضلة» إنسان يغلب على وقاره الضحك أو البكاء على نحو يحطّ من منزلة البشر في صورتهم المثالية. إن نزلاء جمهوريته «يجب أن يتساموا على مشاهد الهزل التي لا تليق إلا بالعبيد والأجراء». ومن هنا أثنى على المصريين؛ لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياماً بالشعائر والطقوس في المعابد، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة، أو تركيب القصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون.

وكانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة القصائد ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار «ولكن ليلبسوها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون».

ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حتى يحاكوا أولئك الجهلاء، ولكنهم «إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان».

وكان أرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته وتصنيفاته لأقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثاً خاصاً بـ«المسرحيات المضحكة» التي تتبع تطورها منذ أن كانت نوعاً من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعاً للإضحاك والتسلية. وهو يرى أن الضحك نوع من أنواع الدمامة أو التشوّه، لكن بدرجة لا تبلغ حد الإيلام. وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته، طُبعت في برلين سنة 1899، يؤكد على الدور التطهري للضحك قائلاً:

«إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفاً لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتنابه التشويه».

ويرى العقاد أن كلا الفيلسوفين قد أخطأ في فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن «الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات. ويندر بين فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه يتضمن حكمة تجعله جديراً بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي، ولم يبحثوا ولو بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيديا والكوميديا مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وطقوس المعابد».

ويرى العقاد أنه «إذا كنا نعيب على الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فإن الثقافة الحديثة كانت على النقيض، حيث اهتمت به على نحو يكاد يكون مبالغاً فيه باعتباره مؤشراً على مزاج هذه الأمة أو تلك، ويكشف عن طبيعتها باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، ولا يقل أهمية في ذلك عن الأدب والتراث الشعبي. ومن أبرز الأمثلة لذلك كتاب (الضحك) الذي صدر للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عام 1911، والذي تجاوز عدد مراجعه الأربعين مرجعاً».

ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك، كما يرى العقاد، إلى سبب مهم يتمثل في نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة، لا سيما الأدب المسرحي؛ إذ أصبح البحث عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقروناً بالبحث فلسفياً عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وممارساته.

ويرى برغسون، كما يضيف العقاد، أننا «لا نضحك إذا رأينا إنساناً يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياساً آلياً لا محل فيه للتميز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس أو في المحفل أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها. والضحك عنده إنساني بمعاني الكلمة، فلا يُشاهَد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان».

كما أننا لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائناً ما كان، إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهاً بإنسان نعرفه أو منسوباً إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها، فلا يكون الضحك منها نفسها، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها، كما يقول.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف برغسون أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف الجماعي، فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه. وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله، ما لم يكن له عذر نعلمه!


تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني
TT

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني يعلي من قيمة التسامح وقبول الآخر ويستنكر منطق الإقصاء بين الشرق والغرب.

على تلال غرناطة تلتقي أربع شخصيات معاصرة تطاردها أزماتها الشخصية في زماننا الحالي وقد دلفت عبر «بوابة الزمن» لتستيقظ في عام 1492 عشية سقوط المدينة حيث وجدوا أنفسهم أمام مهمة إنقاذ غرناطة من مصيرها المحتوم كآخر قلاع العرب في بلاد الأندلس. تمنح الرواية الشخصيات أحد خيارين: تغيير مجرى التاريخ أو أن يصبحوا ضحاياه الجدد، لكن كيف لأربعة غرباء يحمل كل منهم ندوب صدمته الخاصة أن يغيروا مصير الأمة الأندلسية؟

وسبق أن صدر للمؤلف عدة أعمال منها «سنة القطط السمان» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، كما صدر له كتاب «دروب أندلسية» في أدب الرحلات.

من أجواء الرواية نقرأ:

على تل أخضر أمامي، استوى قصر الحمراء مثل شيخ شاحب ممدد على سرير مستشفى، لم يقتص المرض من وسامة تالدة. لطخت الشمس الآفلة غيوماً، تلتحف سماء غرناطة بلون النارنج. نظرت إلى الساعة في معصمي، قاربت السابعة أعدت لف الشال المغمور بعطرها حول رقبتي أحميها من صقيع نهايات ديسمبر فغمرتني رائحة الليمون. أغمدت كفي في جيبي، ضحكة شبان ورائي ونغمات عازف غيتار يصدح بغناء إسباني مكلوم. جميع الأعين وفرقعات آلات التصوير تحاول أن تقتنص جمال الشيخ على سريره الأخضر، لولا الحمراء لما أمسى لهذا المكان معنى لهم ولولاك ياصاحبة العطر، لما كان للحمراء معنى لي.

فهمت الآن لماذا كنت ياغادة تحبين هذه المدينة الواقعة خارج خريطة السياحة العربية غرناطة، ولماذا كنت تقرئين قبل النوم كتباً مصورة عن الأندلس أو تنصتين لبرامج إذاعية تاريخية وتتنهدين في أواخر أبيات الشعر، أو ترهفين لوديع الصافي وفيروز يتناجيان موشحاً، غصة في قلبي لن تزول لفتوري عن تحقيق رغبتك في زيارة هذا المعلم.

تغافلت أن القدر قد يسلب منا من نحب وقد يسلبنا أنفسنا. كنت أؤجل وكنت ترضين بأعذار انشغالي: عيادة مكتظة، سعال مرضي، حالات طارئة تنزف، خفارات ليلية مرهقة، نحيب أطفال، إعداد أوراق مؤتمرات طبية، بل وتجدين أعذاراً تقنعك أو هكذا كنت تتظاهرين لأنك تدركين أن التاريخ لا محل له في تلافيف دماغي.أحب تنفس عطر الليمون عندما تدنين مني وتلقبيني هامسة بصانع المعجزات، صانع المعجزات الذي رحلت يا غادة بين يديه، أغمضت عينيك إلى الأبد دون أن يقدر على فعل أي شيء».