أفريقيا في مرآة يوليوس قيصر... «تفكك يستدعي الغزو»

صفحات من التاريخ العسكري القديم أهملها الباحثون العرب

أفريقيا في مرآة يوليوس قيصر... «تفكك يستدعي الغزو»
TT

أفريقيا في مرآة يوليوس قيصر... «تفكك يستدعي الغزو»

أفريقيا في مرآة يوليوس قيصر... «تفكك يستدعي الغزو»

دراسة مهمة في التاريخ السياسي والعسكري القديم لأفريقيا يقدمها كتاب «حملة يوليوس قيصر على أفريقيا وكفاح يوبا الأول» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب للباحث الأكاديمي الجزائري د. العربي عقون، لافتاً إلى أن الباحثين العرب أهملوا دراسة تلك الحقبة التي استهوت عدداً من الباحثين الفرنسيين خصوصاً في فترات الاستعمار الحديث لا سيما في القرنين التاسع عشر والعشرين، فقد رأوا في القادة الرومان رموزاً جسّدت فكرة التفوق وما عُرفت حديثاً بالمركزية الأوروبية.
يذكر المؤلف أن المقصود بأفريقيا هنا تلك المنطقة التي اقتطعها الاحتلال الروماني على أثر سقوط قرطاج عام 146 قبل الميلاد، وهي عبارة عن شريط ساحلي يمتد من صفاقس جنوباً حتى طبرق غرباً. وقد تميزت الأوضاع السياسية والعسكرية في حوض البحر المتوسط في القرن الأول قبل الميلاد بظهور قوة عسكرية مهيمنة هي القوة الرومانية، انطلقت جيوشها عقب انتصارها على قرطاج نحو مختلف جهات المتوسط لإخضاعها لسيادة روما. وأصبحت الحرب بما توفره من غنائم مصدر ثراء لقيادتها العسكرية والأرستقراطية. وهذه الجيوش المنظمة تنظيماً جيداً والمتفوقة كانت تمثل ثقلاً عسكرياً من الدرجة الأولى على نحو يخدم طموحات المشروع الاستعماري وخطط الهيمنة لدى هؤلاء القادة ونزعتهم نحو السيطرة والتوسع.

ولايات مفككة
في المقابل، بَدَت الجبهة الأفريقية مفككة، فلم تظهر فيها قوة تمتلك القدرة على تحقيق الوحدة المنشودة بين ولاياتها المفككة والمتناحرة منذ محاولات «سيفاكس» الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو صاحب مبدأ «أفريقيا للأفارقة» واستطاع أن يكوِّن من الأمازيغ بني جلدته جيشاً عصرياً محترفاً يقارع الرومان. لكن بعد ذلك ظل الانقسام هو السائد حتى في الأوقات الحرجة، وظل الجدار الأفريقي يزداد تصدعاً تغذّيه التحالفات والتحالفات المضادة.
ويذكر الكتاب أنه في منتصف القرن الأول قبل الميلاد كان الشمال الأفريقي مجزّءاً إلى ممالك، فموريتانيا في الغرب انقسمت إلى مملكتين غربية وشرقية بعد وفاة «بوكوس الأول»، وفي الشرق «نوميديا» وهي مملكة أمازيغية قديمة تقع فيما تعرف الآن بالجزائر وجزء من تونس وليبيا، انقسمت بدورها إلى مملكتين.
على خلفية هذه الأوضاع، جهز يوليوس قيصر حملته على أفريقيا لتصفية خصومه «البومبيين» نسبةً إلى بومبي، وهي مدينة إيطالية قديمة تقع بالقرب من نابولي، تعرضت للدمار بسبب بركان شهير، وحلفائهم النوميد. ومع أن هذه الحملة كانت حدثاً كبيراً في تاريخ أفريقيا الشمالية القديم فإنها لم تلقَ الاهتمام من الباحثين والمؤرخين على الرغم من أنها تمثل في جزء منها صفحة مهمة من التاريخ السياسي والعسكري. ولم يكن حضور يوليوس قيصر بنفسه بفيالقه إلى الأرض الأفريقية مجرد غارة أو غزوة عابرة بل كان على رأس حملة حقيقية جاءت لتغير التاريخ والجغرافيا معا.

طابور خامس
ويوضح الكتاب أن مهمة قيصر لم تكن عملاً معزولاً موجهاً نحو الولاية الرومانية وحدها، بل كانت محسوسة في كل الشمال الأفريقي القديم من الحدود المصرية إلى المحيط، حيث كوّنت روما على البر الأفريقي ولاياتها، مقتطعةً أجزاءً كبرى قبالة جزيرة صقلية وكان احتلال هذا الجزء من أفريقيا في نظر الرومان آنذاك كافياً لحماية إيطاليا على الأقل أكثر من كونه توسعاً إمبريالياً، لكنّ هذا الوضع لم يستمر طويلاً، فقد رأى قادة روما أنه يجب عدم السماح بقيام أو تمركز أي قوة جديدة يمكن أن تحل محل قرطاج أو كقوة منافسة. حاول قيصر شق الجبهة الداخلية للعدو الذي يمثّله تحالف النوميديين والبومبيين فعمل على الاتصال بالأعيان في العمق النوميدي والبحث عن تكوين ما يسمى حديثاً «الطابور الخامس»، وذلك بإرسال الرسائل إلى مختلف جهات البلاد وجاءه الرد من البعض عبر مختلف المدن وفيه أن الكثير من الشعب مستاء من تجاوزات البومبيين وتعسفهم. كان قيصر لا يجهل على ما يبدو وجود تناقضات في بلاد نقل المعركة إليها لأن الشعب الذي يحارب عدواً على أرضه كثيراً ما يكون عُرضة للانقسام، فالتناقضات سرعان ما تبرز إلى السطح ويتحول الصراع بين الأطراف إلى اتصال طرف من الأطراف بالعدو يستنصره على الطرف الآخر، وهذه هي نقطة ضعف أفريقيا الشمالية على امتداد التاريخ. إنها البلاد التي تقاتل فوق أرضها ولذلك لا تسلم من الانقسام، وهي الثغرة التي يستغلها العدو دائماً. وكان يصل إلى المعسكر القيصري فارّون من المعسكر البومبي ومن مختلف عناصر المجتمع.

أقنعة الاستعمار
ويذكر الكتاب أنه في تلك الأثناء كان يوبا قد انطلق من عاصمته للالتحاق بحلفائه حتى يكتمل تجمع البومبيين بحلفائهم النوميد، وعلم بالوضع الصعب الذي يوجد عليه قيصر وجنوده بسبب تمركز قواته واستنزافها في معارك تمهيدية ومناوشات وغارات. انطلق بجيوش جرارة ومعه أفياله تحيط به جوقة نوميدية وكان هدفه أن يصل إلى المعسكر البومبي وينطلق في شن المعركة ضد الصقليين قبل وصول النجدات إليهم من صقلية. وهذا يدل على أن الملك لم يكن متردداً ويعلم، بخبرة رجل الحرب، أن المبادرة بالهجوم أفضل وسيلة لكسب المعركة ضد عدو يريد ربح المزيد من الوقت على عكس القادة البومبيين الذي فوّتوا الفرصة وحوّلوا الحرب إلى استعراضات قوة.
ولعل تعدد القيادات والجيوش هو السبب في عدم خروج البومبيين بقرار حاسم، وهو ما لم يشر إليه الدارسون وما لم تشر إليه المصادر التي لم تمدنا بمعلومات تفصيلية عن الوضع في المعسكر البومبي وعن العلاقة بين القادة الثلاث سييون ولبينوس وبتريوس.
ويلفت المؤلف إلى أنه إذا كان الأول هو القائد الأعلى فهل تقبّل الآخران الرضوخ الحقيقي لهذه القيادة لجعل المعسكر برأس قيادي واحد لأن تعدد الرؤوس يشتت القوى ويعرقل سير العمل العسكري؟ وإذا أضفنا إلى ذلك أن القيصريين وهم ينحدرون من العامة في معظمهم ومن البروليتاريا التي ربطت مصيرها منذ زمن بعيد بالعمل العسكري، فإن البومبيين في أغلبهم من المجندين قسراً ومن الذين يعدون وجودهم في صفوف الجيش إبعاداً عن ذويهم وعن مصالحهم وممتلكاتهم. وبالتالي فإنهم غير متحمسين للمعركة ولعلهم في قرارة أنفسهم يريدون قوة تحسم الوضع ولا تهمهم من تكون تلك القوة وعلى العكس من ذلك فإن المعركة بالنسبة ليوبا هي أهم شيء على الإطلاق، فقد حان الوقت لتحرير أفريقيا واسترجاع المقاطعة الرومانية وتجسيد الشعار المصيري: «أفريقيا للأفارقة»

التاريخ يعيد نفسه
لم تجرِ الرياح بما تشتهي السفن، انتصر قيصر وأُقيمت الاحتفالات في روما، ووزّع على المواطنين الذهب والقمح والزيت، وتسلم كل عسكري 5000 فلس روماني.
امتدت الحملة على أفريقيا والحرب الأفريقية لستة أشهر، وسُحق فيها الجيش البومبي، ورسمياً كانت الهزيمة هي هزيمة النوميد الذين فقدوا استقلالهم ووطنهم. لقد تم ضم نوميديا وتدشين مرحلة جديدة في هيمنة الرومان على البحر المتوسط.
وكانت الإجراءات الأولية التي اتخذها قيصر ضد بلد تم احتلاله وفقد استقلاله وسيادته هي أن يدفع ثمن تلك الحملة فقرر فرض إتاوة الحرب على المدن الأفريقية النوميدية التي عبّر أهلها عن رفضهم للوقوع تحت سيطرة الحزب القيصري. كانت النزعة الاستقلالية واضحة في سياسة الملك يوبا الأول ولعله كان يدرك بخبرة السياسي والعسكري معاً أن طموحات قيصر لا تتوقف عند مجرد الانتصار على خصومه الجمهوريين بل إن التوسع لفسح المجال أمام فيالقه للنهب والاستيطان هو الهدف الحقيقي من الحملة التي قادها على أفريقيا. وكان كوريون، أحد قيادات الحزب الشعبي، قد أعلن في مجلس الشيوخ صراحةً عن رغبته في ضم نوميديا إلى أملاك روما.
الرغبة نفسها عبّر عنها قيصر في العبارة التي أطلقها عندما زلّت قدمه وهو ينزل من سفينته إلى البر الأفريقي: «أفريقيا لقد استوليت عليكِ»، مفصحاً عن هدفه من حملته وهو القضاء على المملكة النوميدية التي أثبت التاريخ أنها النواة الصلبة وقاعدة التحرر في المنطقة الأفريقية على امتداد العصور، ولذلك فإن سقوطها على أثر الحملة القيصرية كان سقوطاً لأفريقيا القديمة كلها، وقد أعاد التاريخ نفسه، فما إن سقطت الجزائر تحت ضربات الاحتلال الفرنسي حتى تداعت الأطراف الشمالية الأفريقية الأخرى.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.