«بيتو» أورورك... مرشح الديمقراطيين لإزاحة حاكم تكساس الجمهوري غريغ أبوت

ترمب حوّل الولاية إلى «حصن أحمر»... والتركيز على اللاتينيين لحسم المعركة

«بيتو» أورورك... مرشح الديمقراطيين لإزاحة حاكم تكساس الجمهوري غريغ أبوت
TT

«بيتو» أورورك... مرشح الديمقراطيين لإزاحة حاكم تكساس الجمهوري غريغ أبوت

«بيتو» أورورك... مرشح الديمقراطيين لإزاحة حاكم تكساس الجمهوري غريغ أبوت

دخول الديمقراطي «بيتو» أورورك السباق على منصب حاكم ولاية تكساس، ثاني أكبر ولاية أميركية من حيث المساحة وعدد السكان، في مواجهة حاكمها الحالي الجمهوري غريغ أبوت، أحد أكثر السياسيين المحافظين تشدداً، أطلق واحدة من أكثر السباقات الانتخابية التي يتوقع أن تستقطب الأنظار على شراسة المعارك السياسية التي يخوضها الحزبان.
تأتي المعركة في خريف 2022 خلال مرحلة التحولات العميقة والتغيرات الجارية داخل الولايات المتحدة وخارجها. غير أن ترشح أورورك، الذي يعوّل عليه الديمقراطيون لإعادة «قلب الصفحة»، والانتقام لخسارتهم منصب حاكم ولاية فيرجينيا، إحدى أبرز الولايات تأثيراً سياسياً على العاصمة السياسية «واشنطن»، ترافق مع تذكير مؤلم بمكانتهم في ولاية، تمكن الرئيس السابق دونالد ترمب من تحويلها إلى «حصن أحمر»... واللون الأحمر كما هو معروف لون الحزب الجمهوري.
حين أعلن النائب الديمقراطي ريان غيلين منذ 19 سنة عن منطقة ريو غراندي الحدودية مع المكسيك، انسحابه من الحزب والانضمام إلى الحزب الجمهوري، فإنه برّر خطوته بالقول: «إن قيم الديمقراطيين في واشنطن ما عادت قيم منطقتي ولا قيم معظم سكان تكساس».
غير أن غيلين، الذي يعارض الإجهاض ويؤيد تطوير الوقود الأحفوري في ولاية تعتبر معقل إنتاج النفط في أميركا، انشقاق، أخذت تواجه تبدّلاً بدأ يطرأ على البيئة السياسية في الولاية منذ عام 2018، عندما حظي أورورك باهتمام وطني كمرشح لمجلس الشيوخ، خسر بأقل من 3 نقاط مئوية في مواجهة السيناتور الجمهوري المتشدد تيد كروز.
في ذلك الوقت، كان أورورك قادراً على جذب الاهتمام الوطني، باعتباره وجهاً سياسياً ليبرالياً جديداً. وخاض حملته على وعد بأخذ السياسة إلى ما هو أبعد من الانحيازات الحزبية الضيقة، حين كانت «الموجة الزرقاء» (الديمقراطية) في أوج قوتها، مستفيدة من العداء لظاهرة «الترمبية».
ومع خسارة الديمقراطيين مقعدهم في مجلس النواب في مقاطعة ريو غراندي، توقع آرون ديليون، نائب رئيس تجمع الجمهوريين في تكساس، أن يشهد الديمقراطيون مزيداً من الخسائر في جميع أنحاء المقاطعة العام المقبل في الانتخابات النصفية. وبنى ديليون توقعه الواثق هذا على تسجيل دونالد ترمب قوة متزايدة في تلك المنطقة، بين الناخبين الهسبانيكيين خلال انتخابات 2020 الرئاسية الأخيرة. فقد فاز ترمب بفارق 13 نقطة عام 2020 في المنطقة التي انشق فيها النائب الديمقراطي غيلين، الذي أعيد انتخابه فيها بفارق 17 نقطة عن الحزب. وتابع ديليون: «إننا نشهد اتجاهات تتعارض مع ما يعتقده الديمقراطيون... في تلك المنطقة، هناك كثير من الوظائف المتعلقة بالنفط والغاز».
إلا أن جيلبرتو هينوغوسا، رئيس الحزب الديمقراطي في تكساس، رفض التكهنات الجمهورية بوجود اكتساح جمهوري آتٍ، وقال: «كان هناك تحوّل في الأصوات إبان الانتخابات الرئاسية، وكانت لذلك علاقة كبيرة بترمب... إننا نفعل ما في وسعنا لتعزيز الدعم الذي يحظى به الديمقراطيون في جنوب تكساس»، في إشارة إلى خسارة المقعد النيابي وانشقاق غيلين. ثم أضاف أن ترشح أورورك قد يعني أشياء جيدة للديمقراطيين من خلال زيادة الإقبال على التصويت.
- بطاقة شخصية
ولد روبرت فرانسيس «بيتو» أورورك عام 1972 في مستشفى أوتيل ديو في مدينة إل باسو التكساسية الحدودية مع المكسيك، لوالديه بات وميليسا. وهو سياسي أميركي آيرلندي من الجيل الرابع. في طفولته أعطته عائلته لقب «بيتو»، وهو لقب إسباني برتغالي شائع للأسماء الأولى، لتمييزه عن جده الذي يحمل الاسم نفسه. مثل منطقة الكونغرس الرقم 16 بتكساس في مجلس النواب الأميركي من عام 2013 إلى عام 2019.
تخرج «بيتو» من مدرسة وودبيري فوريست الخاصة الراقية ثم جامعة كولومبيا العريقة. وأثناء دراسته في كولومبيا، بدأ مهنة موسيقية قصيرة عازفاً للغيتار باس في فرقة «فوس» الموسيقية.
بعد التخرج، عاد «بيتو» إلى إل باسو، وبدأ حياته المهنية. وفي عام 2005 انتخب لعضوية مجلس المدينة حتى عام 2011، ثم انتخب في العام التالي في مجلس النواب الأميركي، بعدما هزم في الانتخابات التمهيدية الديمقراطي سيلفستر رييس الذي استمر 8 فترات. إلا أنه بعد إعادة انتخابه لمجلس النواب في عامي 2014 و2016 رفض أورورك الترشح لولاية أخرى في 2018. وبدلاً من ذلك، سعى للحصول على المقعد الذي يشغله الجمهوري تيد كروز في مجلس الشيوخ الأميركي... وفي حينه أدار حملة تنافسية لفتت الانتباه الوطني. وسجل رقماً قياسياً لمعظم الأصوات التي تم الإدلاء بها لأي ديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي في تكساس. وفي 14 مارس (آذار) 2019 أعلن حملته في الانتخابات الرئاسية لعام 2020. لكنه علقها في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 قبل بدء الانتخابات التمهيدية، لمصلحة جو بايدن. ويوم الاثنين الماضي، أعلن ترشحه لمنصب حاكم ولاية تكساس في عام 2022.
توفي والده عام 2001 أثناء ركوب دراجته، وهو من عشاق ركوب الدراجات منذ فترة طويلة، بعدما صدمته سيارة وألقت به مسافة 21 متراً. ولقد تزوج أورورك من إيمي هوفر ساندرز عام 2005 وأنجب منها 3 أطفال.
يصنف المحللون السياسيون «بيتو» أورورك على أنه تقدمي أو ليبرالي أو نيوليبرالي أو وسطي. وهو قال عن نفسه إنه لا يعرف أين يقع في الطيف السياسي. وخلال منصبه في مجلس النواب، كان عضواً في التحالف الديمقراطي الجديد، وقام برعاية مشروعات قوانين من الحزبين، وعارض حزبه بشأن قضايا مثل التجارة.
ثم إنه معارض قوي لحيازة السلاح الفردي، وأيّد فرض قوانين لمراقبة الأسلحة ودعم فحوص الخلفية العامة لجميع مشتريات الأسلحة النارية. وبعد إطلاق النار في إل باسو عام 2019 دعا إلى فرض حظر كامل على بيع وحيازة البنادق الهجومية ومخازن الطلقات عالية السعة، ودعم برنامج إعادة الشراء الإلزامي.
يؤيد أورورك الإصلاح الشامل لنظام الهجرة، رافضاً ما سماه «عسكرة» الحدود. وعارض قرار الرئيس ترمب إنهاء برنامج «داكا»، أو «الحالمين»، الذي منح إقامة مؤقتة لبعض المهاجرين غير الشرعيين الذين جرى إحضارهم إلى الولايات المتحدة وهم قصّر. وانتقد خطاب ترمب بشأن الهجرة، قائلاً: «إنه يؤجج باستمرار القلق والخوف بشأن المكسيكيين والمهاجرين والحدود مع المكسيك. وللأسف، يتخذ هذا الرئيس خطوة أخرى نحو عالم مظلم من الخوف والعزلة والانفصال».
عام 2018، قاد أورورك احتجاجات في مدينة تورنيلو بتكساس، ضد سياساته لفصل أطفال عائلات المهاجرين. ورغم كونه كاثوليكياً، فإنه يعرب علناً عن معارضته لعقيدة الكنيسة، بما في ذلك رفضها زواج المثليين، والإجهاض. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2019، خلال حملته الرئاسية، اقترح إزالة الإعفاء الضريبي للمنظمات الدينية التي تعارض زواج المثليين أو الحق في الإجهاض.
من جهة ثانية، انتقد أورورك إسرائيل خلال حربها على غزة عام 2014. وصوّت ضد تمويل نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي (القبة الحديدية)، وندد بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، ووصفه بأنه «استفزازي». وهو يؤيد «حل الدولتين»، ويعتقد أن الولايات المتحدة يمكن أن تدعم التسوية السلمية على أفضل وجه من خلال حثّ إسرائيل على وقف المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية ومساعدة السلطة الفلسطينية على التفاوض بحسن نية والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. أكثر من هذا، فإنه انتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو على تصريحاته حول ضم المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة بعد الانتخابات الإسرائيلية 2019، ووصفه بأنه «عنصري». غير أنه وصف في وقت لاحق العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل بأنها «واحدة من أهم العلاقات التي لدينا على هذا الكوكب».
وحول القضايا الأخرى، فإنه دعم الاتفاق النووي مع إيران وانتقد موقف ترمب المتشدد تجاه كوريا الشمالية، قائلاً: «يجب ألا نسمح لهذا الرئيس بالسير نائماً في هذا البلد، أو التغريد لحرب مع كوريا الشمالية». وفي 2019 أيضاً، دعا أورورك إلى إنهاء حربي العراق وأفغانستان، كما عارض تورط الولايات المتحدة في الحرب الأهلية في سوريا وتقديم الأسلحة. وانتقد التدخل العسكري بقيادة «ناتو» في ليبيا، باعتباره «عاملاً في زعزعة استقرار الشرق الأوسط وصعود (تنظيم داعش)».
- خسائر إضافية للديمقراطيين
الآن، يراهن الديمقراطيون على أورورك الذي لم يعلن أي ديمقراطي آخر عن ترشحه ضده حتى الآن، على الرغم من أن ترشحه قد تأخر لمواجهة غريغ أبوت، مقارنة بترشحه لخوض المنافسة مع السيناتور تيد كروز عام 2018. فقد أثبت في ذلك الوقت، قدرته على جمع أموال كبيرة، رغم انتكاس حملته المالية التي أدت إلى انسحابه من السباق الرئاسي مبكراً في انتخابات 2020. ثم إنهم يراهنون على تجديد زخمه وعلى تاريخه في حضّ الناخبين على التصويت بأرقام غير مسبوقة في تكساس.
في مقابلة مع مجلة «تكساس الشهرية»، قال أورورك إنه ليس نادماً على حملته الرئاسية، وتابع: «شخص ما قالها لي بهذه الطريقة؛ أردت أن أركض بأسوأ طريقة، وقد نجحت في ذلك».
وأضاف أورورك أنه منذ انسحابه من السباق الرئاسي، أمضى وقتاً في العمل مع لجنة العمل السياسي لتسجيل الناخبين، التي أطلقها عام 2019، لتحسين «النتائج هنا في تكساس». وعيّن نيك راثود، المستشار السياسي بولاية فيرجينيا، ونائب مدير الشؤون الحكومية الدولية السابق في البيت الأبيض في عهد أوباما، مديراً لحملته الانتخابية لمنصب حاكم الولاية.
في المقابل، يمتلك أبوت ميزانية ضخمة تقدر بنحو 55 مليون دولار، ولديه أفضلية أكبر قبل الموعد الرسمي للانتخابات التمهيدية التي ستجري في الأول من مارس المقبل. ويرجح كثير من الخبراء أن يكون السباق بين أورورك وأبوت أحد أغلى سباقات حكام الولايات في دورة عام 2022. ورغم ذلك، هناك من يحذّر من أن سياسات أبوت المنحازة إلى أقصى اليمين، قد لا تكون مستساغة بالنسبة للناخبين المعتدلين في الولاية، الأمر الذي يراهن عليه الديمقراطيون.
هذا، وبينما أعطى دخول بيتو أورورك السباق على منصب حاكم تكساس، يوم الاثنين، جرعة من الأمل للديمقراطيين، فإن شكوكاً كبيرة تحيط بقدرتهم على تحقيق مكاسب في ولاية استعصت عليهم إلى حد كبير لسنوات. إذ لم يتولَ أي ديمقراطي منصب الحاكم منذ غادرت آن ريتشاردز منصبها عام 1995، بعد أن فشلت في الفوز بولاية ثانية. كذلك فإن الشكوك تحيط بأورورك نفسه، وبقدرته على التمتع بالجاذبية نفسها التي كان عليها قبل 4 سنوات، حين ظهر كأحد الوجوه اليسارية المعتدلة الجديدة، وتمكن من تجييش كثير من الناخبين المستائين من ترمب ومن تطرف السيناتور كروز.
مع هذا، أورورك يبدو اليوم أكثر استعداداً للابتعاد عن تلك التهمة، منذ انسحابه من السباق الرئاسي لمصلحة بايدن، وليس لمنافسه اليساري بيرني ساندرز... ووصولاً إلى إعلان معارضته قبل أيام، لسياسات بايدن من الهجرة، إحدى أبرز القضايا التي يتعصب لها التكساسيون، ومهادنته لسياسات الطاقة في الولاية، في سعيه للتكيف مع مزاجهم، الذي أدى إلى انشقاق النائب غيلين وخسارة مقعد نيابي آخر.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.