إتاحة أرشيفات الصحف العربية إلكترونياً تشعل نقاش «الملكية الفكرية»

خبراء يطالبون بتفعيل قوانين التداول

جانب من أرشيف صحف عربية في مركز للدراسات
جانب من أرشيف صحف عربية في مركز للدراسات
TT

إتاحة أرشيفات الصحف العربية إلكترونياً تشعل نقاش «الملكية الفكرية»

جانب من أرشيف صحف عربية في مركز للدراسات
جانب من أرشيف صحف عربية في مركز للدراسات

في خطوة أطلقت كثيراً من التساؤلات حول طرق إتاحة أرشيفات الصحف العربية إلكترونياً، أثارت قضية وصول أرشيف صحيفة «الأهرام» المصرية إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية حالة من الجدل والتباين بين العاملين في المجال الإعلامي محلياً وعربياً. وكان من أبرز النقاط في هذا الشأن ما يتعلق بـ«حقوق الملكية الفكرية لأرشيف الصحف»، بالتزامن مع «الحق في إتاحة أرشيف الصحف للاطلاع كجزء من حق المعرفة وحرية تداول المعلومات».
يأتي هذا الأمر وسط مطالب بـ«تفعيل قوانين تداول أرشيفات الصحف». ويرى خبراء ومتخصصون أن «حقوق الملكية الفكرية للأرشيف تعود إلى الصحيفة مالكة هذا الأرشيف ومُنتِجته». ولفتوا إلى أنه «حتى لو تعاقدت صحيفة مع شركة ما لإتاحة أرشيفها إلكترونياً على موقعها أو داخل جامعة ما، فإن هذا لا يُسقِط حق الملكية الفكرية للصحيفة، ولا يسمح لهذه الشركة بإعادة تداول الأرشيف أو بيعه لجهات أخرى».
إلا أنهم أشاروا، في المقابل، إلى «وجود خلل يتعلق بالإجراءات الإدارية في بعض الصحف بشأن التعامل مع أرشيفها الإلكتروني».

بداية القصة
الواقعة التي أثارت الرأي العام المصري بدأت بتغريدة على حساب «إسرائيل بالعربي»، الناطق بلسان وزارة الخارجية الإسرائيلية، أعلن فيها أن «أرشيف صحيفة الأهرام المصرية، بات متاحاً للدارسين والباحثين داخل إسرائيل من خلال المكتبة الوطنية الإسرائيلية». وعلى الأثر، بدأت موجة من الانتقادات والاتهامات والتحقيقات حول الطريقة التي وصل بها أرشيف «الأهرام»، الصحيفة المصرية التي أُسّست عام 1875، إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية.
تحقيقات أولية أشارت إلى تعاقد «الأهرام» منذ سنوات مع شركة «إيست فيو» الأميركية، كوسيط إلكتروني لإتاحة أرشيف «الأهرام» للمستخدمين، ورجحت تكهنات أن «تكون هذه الجهة هي المسؤولة عن وصول أرشيف (الأهرام) لإسرائيل».
وفي السياق نفسه وُجّه الاتهام لأستاذة مصرية بشأن بيع أرشيف «الأهرام»، لكن هذه الأستاذة نفت هذه الاتهامات. وهنا تجدر الإشارة إلى أن «إيست فيو» شركة أميركية توفر أرشيفات الصحف للباحثين حول العالم، ولديها أرشيفات صحافية من 80 دولة تقريباً بثلاثين لغة، يتيسر الاطلاع عليها مقابل اشتراك، وهي تتيح الاطلاع على أرشيف «الأهرام» المصرية، ومجموعة من الصحف العربية، ضمن ما يُسمى بـ«تحالف صحف دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» الذي يضم صحفاً عربية مرموقة.
عودة إلى واقعة أرشيف «الأهرام»، فإنها أثارت تساؤلات تتعلق بحقوق الملكية الفكرية لأرشيف الصحف. ويرى خالد القضاة، عضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، أن «الأرشيف الصحافي جزء من تاريخ الأمة، وهناك مجموعة من الأسئلة التي لم يتم حسمها قانونياً حتى الآن، من بينها السؤال: هل هذا الأرشيف ملك للمجتمع؟ أم للصحيفة؟ أم للصحافيين الذين كتبوا هذه المواد؟».
ويضيف القضاة لـ«الشرق الأوسط»: «من وجهة نظري فإن حقوق الملكية الفكرية ترجع إلى الصحيفة أو المؤسسة مالكة الصحيفة، أما الصحافي فقد تقاضى أجراً على هذه المواد، وبالتالي لا يملك حقوقاً لإعادة بيعها أو توزيعها».
هذا الرأي يتفق معه عاصم البصال، العضو المنتدب لشركة «مباشر ميديا»، ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن «حقوق الملكية الفكرية للأرشيف ترجع للصحيفة، فالصحافي تقاضى أجراً على مادته». ومن ثم يتابع أنه «حتى لو تعاقدت صحيفة مع شركة ما لإتاحة أرشيفها إلكترونياً على موقعها أو داخل جامعة، فإن هذا لا يسقط حق الملكية الفكرية للصحيفة، ولا يسمح لهذه الشركة التي جرى التعاقد معها بإعادة تداول هذا الأرشيف أو بيعه لجهات أخرى».
الدكتورة ليلى عبد المجيد، أستاذة الإعلام بجامعة القاهرة تؤكد أيضاً على «حقوق الملكية الفكرية للصحيفة»، وتضيف في تعليقها لـ«الشرق الأوسط» أن «هناك مشكلات فردية أدت إلى بيع وضياع جزء كبير من أرشيفات الصحف المصرية». ووفق الكاتبة الصحافية البحرينية عهدية السيد، فإن «هناك قوانين تمنع تداول الأرشيفات أو المواد التي تنشرها الصحف والمواقع الإلكترونية، من دون نسبها إلى مصدرها، باعتبارها حقاً أصيلاً للصحيفة؛ لكن المشكلة في أن الناس لا تلتزم بهذه القوانين».
على صعيد متصل، يرى مراقبون أن «الصحف الكبرى تضع قواعد لتداول أرشيفاتها». وهنا يوضح متخصصون أن «صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية تذكر على موقعها الإلكتروني وجود طريقتين للاطلاع على أرشيفها: الأولى من خلال ما يسمى بأرشيف مقالات (نيويورك تايمز)، وهو متاح للجميع، ومن خلاله يمكن الاطلاع على الموضوع كاملاً أو جزء منه، ويغطي الفترة من 1851 وحتى الآن... أما الطريقة الثانية فتكون عبر ما يسمى بـ(آلة الزمن)، ومن خلاله يستطيع القارئ الاطلاع على الأعداد كاملة من عام 1851 وحتى 2002 مقابل اشتراك شهري يتيح للمشترك تحميل مائة (بي دي إف) كل شهر».
ولدى صحف أميركية كبرى أخرى خدمات مشابهة.
من ناحية ثانية، يقول خبراء إنه «تُعتبر أي مواد صحافية منشورة قبل الأول من يناير (كانون الثاني) عام 1923 ملكية عامة في الولايات المتحدة الأميركية، أما ما بعد ذلك فهو محمي بموجب قانون الملكية الفكرية الأميركي». ويشار إلى أن الجامعات تتعاقد مع المؤسسات الصحافية لإتاحة الأرشيفات للباحثين بشكل إلكتروني، وعلى سبيل المثال لدى جامعة بنسلفانيا الأميركية المرموقة «أرشيف صحافي متاح للباحثين لخدمة العلم والبحث العلمي، جرى توفيره بعد الحصول على إذن من مالكيه»، حسب موقع الجامعة الإلكتروني.
أما فيما يخصّ أرشيفات الصحف في بريطانيا، فيتيح موقع أرشيفات الصحف البريطانية الاطلاع على جميع ما نُشِر في الصحافة البريطانية منذ نشأتها، بالاعتماد على الأرشيف الصحافي الموجود في المكتبة البريطانية. وتتيح صحيفة «الغارديان» البريطانية أرشيفها للمستخدمين في الفترة من 1821 وحتى 2003، للاطلاع مقابل اشتراك. وتشير على موقعها الإلكتروني إلى أن «أعضاء المكتبة البريطانية يمكنهم الدخول والاطلاع على نسخ من الأرشيف داخل قاعات القراءة بالمكتبة».

نماذج أخرى
وفي المجال نفسه، تعمل مجموعة من المكتبات على مستوى العالم على أرشفة الصحف اليومية، من بينها مكتبة الإسكندرية في مصر، ومكتبة الكونغرس الأميركي، وذلك بهدف «إتاحة هذا الأرشيف للاطلاع لأغراض بحثية». ويشار إلى أنه في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2020، نشر الباحث السوري محمد صالح الفتيح تغريدة على حسابه بـ«تويتر» تضمّنت صوراً قال إنها «من قسم أرشيف الصحف العربية في مركز موشيه دايان للدراسات الشرق أوسطية والأفريقية».
وأضاف الفتيح حينذاك أن «هذا القسم يخزّن منذ سنوات نسخاً من الصحف اليومية الصادرة في مصر وسوريا والعراق وغيرها من الدول»، وبحسب موقع المركز، فإنه «تم رقمنة أكثر من مليون صفحة من صحف العراق والأردن ولبنان وسوريا».
وعن تجربة الأرشيف الصحافي في الأردن، يرى القضاة «وجود» خلل في بعض المؤسسات الصحافية في معالجة موضوع الأرشيفات، ينم عن قلة وعي بقيمة هذه الثروة التي تشكل جزءاً من تاريخ الأمة. ويشير القضاة إلى تجربة جريدة «الرأي» الأردنية التي تعود إلى عام1971؛ فيشرح أن «القيادات التي تعاقبت على الصحيفة لم تدرك قيمة الأرشيف، والدوائر القانونية داخل المؤسسات الصحافية لم تضع قواعد لتداول الأرشيف وتوضح لهم حق تداوله أو الاحتفاظ بنسخ منه، ما يجعلها عرضة للاختراق من جهات أخرى كإسرائيل». وحسب القضاة: «للأسف هناك قصور في النظرة المستقبلية لبعض الصحف العربية... وهو ما يؤدي إلى ما نشاهده حالياً من ضياع أرشيف أو سرقته أو تداوله من جهات ليس لها حق تداوله».
أما عهدية السيد، فتقول لـ«الشرق الأوسط» في الحوار معها إن «وزارة الإعلام البحرينية تمتلك أرشيفاً للصحف البحرينية... ولكل صحيفة في البحرين أرشيفها الخاص، وهي تنظم طريقة الاطلاع عليه للجمهور، إضافة إلى الأرشيف الموجود لدى وزارة الإعلام». وتشدد السيد على «ضرورة إتاحة الأرشيف للباحثين والصحافيين لأغراض البحث العلمي والاطلاع على التاريخ؛ فهذه الصحف تروي جزءاً من تاريخ البلاد». وتضيف أن «من أسعد تجاربها الشخصية زيارة أرشيف صحيفة (القبس) الكويتية».
وحول دور الأرشيف الصحافي في الدراسات البحثية، تشرح الدكتورة عبد المجيد فتقول إن «الأرشيف الصحافي جزء مهم في الدراسات البحثية»، مشيرة إلى أنها إبان عملها على رسالتي الماجستير والدكتوراه كانت تمضي أياماً في أرشيف صحيفة «الأهرام» وصحيفة «الأخبار»، وحينذاك كانت تطلع حتى على الخطابات المتداولة بين قيادات الصحيفة. ومن ثم، تؤكد أن «الأرشيف الصحافي سجل تاريخي مهم، لا بد من حمايته مع إتاحته للاطلاع والبحث العلمي».


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.