التغيّرات المناخية ترسم خريطة سكانية جديدة للعالم

ارتفاع الحرارة درجة واحدة قد يقود إلى نزوح 200 مليون شخص

التغيّرات المناخية ترسم خريطة سكانية جديدة للعالم
TT

التغيّرات المناخية ترسم خريطة سكانية جديدة للعالم

التغيّرات المناخية ترسم خريطة سكانية جديدة للعالم

أشار أحدث تقرير حول تأثيرات التغيرات المناخية التي ستقود إلى أسوأ كارثة عالمية إلى أن الدول المتقدمة صناعياً تضخ أكثر من 4 أخماس الانبعاثات الضارة المسببة للاحتباس الحراري في الأرض، مقابل أقل من خُمس الانبعاثات التي تنتجها الدول الفقيرة التي يعيش فيها غالبية سكان الأرض. ومقابل ذلك، سوف يتعرض سكان الدول النامية إلى 3 «أحداث مناخية كارثية» مقابل حدثين مماثلين يتعرض لهما سكان البلدان المتقدمة صناعياً. وهذه أكبر محنة تتعرض لها البشرية نجمت عن تعسف الدول الصناعية الغنية.
وقد نُشرت أخيراً تحليلات لكتاب جديد يسلط الضوء على الآثار المدمرة للتغيرات المناخية، لمؤلفه باراغ خنّا، الأميركي من أصل هندي، مؤسس شركة «فيوتشر ماب» المتخصصة بالاستشارات الاستراتيجية العالمية، بعنوان «الحركة... كيف ستغير الهجرة الجماعية شكل العالم؟ وماذا يعني ذلك لكم؟».
رؤية الكاتب لمستقبل العالم التي تستند إلى حركية السكان وهجرتهم تبدو للوهلة الأولى مثيرة جداً، إذ إنه يرى أن الهجرة الجماعية ستشكل أهم ملامح المستقبل، ما سيؤدي إلى رسم خريطة سكانية جديدة للعالم. وهو يرسم صورة بحلول عام 2050 لانخفاض سواحل أميركا الشمالية وآسيا تحت مستوى البحر بفعل الاحتباس الحراري في الأرض، فيما سيعيش سكان الشرق الأوسط وأستراليا في «فرن» ساخن، وتجفّ ينابيع المياه من جبال الهملايا.
لكن أمام هذا السيناريو المفزع يبزغ مستقبل سيبيريا ومنطقة جبال التاي في منغوليا مزهراً، كما ستفوز كندا أيضاً بحصتها من الازدهار، وتتحول غرينلاند إلى أرض خضراء حقاً.
ويزعم الكاتب أن ارتفاع درجة الحرارة في العالم درجة مئوية واحدة سيقود إلى نزوح 200 مليون شخص نحو مناطق ذات مناخ أفضل، بينما ستؤدي زيادة بدرجتين مئويتين إلى نزوح نحو مليار شخص. ويرى أن على بلدان الشمال التي أضحت نسبة المسنين والعجزة فيها كبيرة أن تستعد لاستقبال ملايين الشباب من أنحاء العالم «الساخن».
ويقول خنَا أن نحو 4 مليارات شخص من فئات الشباب يوجدون اليوم في مناطق حضرية في أرجاء العالم. ولأنهم قد أصبحوا بلا جذور تقريباً تشدهم إلى مساقط رؤوسهم، ولأنهم شبان ووحيدون بلا أولاد ويعانون من إشكالات الحياة في المدن، فإنهم مهيئون للانتقال والنزوح والهجرة... في عالم أخذت ترفع فيه، حسبما يقول، شعارات أكثر مصلحية أو انتهازية، مثل «الحركية، والسيولة، والاختيارية»....بدلاً من شعارات «الحرية والمساواة والأخوة». ويشير إلى أن «المواطن العالمي» اليوم هو إنسان «متحرر من الجذور بمحض اختياره» وأن «الحركية» تقابل مفهوم الحرية.
خلال الـ60 ألف سنة الماضية التي أخذ فيها الإنسان بالانتشار في القارات، ظلت الحركية أحد أهم ملامح حياته وحضارته، إذ إنه ظل يسعى باحثاً عن الموارد اللازمة لاستقراره. وقد أدت الحروب والاضطهاد والثورات والأوبئة إلى تعجيل حركة النزوح والهجرة.
ويتوقع الكاتب نزوح الهنود إلى مناطقهم الشمالية، والصينيين إلى الداخل الشمالي، بينما سيتوجه الأميركيون ربما في بيوت متنقلة من السواحل المهددة والغرب الأوسط المتصحر نحو القارة القطبية الشمالية والبحيرات الكبرى. ويعتقد أن بريطانيا ستجني نتائج أفضل نتيجة التغيرات المناخية، وتظل أسكتلندا متمتعة بنحو 30 ألفاً من بحيراتها من الماء العذب. وعلى العالم أن يستعد لهذه الهجرة الكبرى حتى إذا كان لا يريدها. ويطرح الكاتب حلولاً مثيرة للجدل لحل أزمات ندرة المياه، مثل زرع الغيوم وجهود تقليل وصول أشعة الشمس إلى الأرض.
ويحمل باراغ خنّا شهادة الدكتوراة من كلية لندن للاقتصاد، وله كثير من الكتب حول مستقبل الحضارة البشرية وتفاعل الإنسان مع التكنولوجيا، وخدم مع السلطات العسكرية في العراق وأفغانستان بصفة كبير المستشارين في الشؤون الجيوسياسية.


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».