إلسا تريوليه وأراغون... الحب وحده هو ما يبقى من الفراديس بعد فقدانها

الزوجان اللذان جعلا من اللغة أكمل مرايا الحب

أراغون وإلسا تريوليه
أراغون وإلسا تريوليه
TT

إلسا تريوليه وأراغون... الحب وحده هو ما يبقى من الفراديس بعد فقدانها

أراغون وإلسا تريوليه
أراغون وإلسا تريوليه

«عندما سنرقد، جنباً إلى جنب، رقدتنا الأخيرة، سيوحدنا اجتماع كتبنا في السراء والضراء في هذا المستقبل الذي كان حلمنا وشغلنا الشاغل، أنت وأنا، وبعون الموت. ربما حاول بعضهم، ونجحوا في محاولتهم للتفريق بيننا، أكثر مما فرقتنا الحرب في أثناء حياتنا. ولأن الموتى بلا دفاع، ستأتي كتبنا المتشابكة، أسود على أبيض، يداً بيد، لتقاوم من ينتزع أحدنا من الآخر».
بهذا المقطع الوجداني تستهل إلسا تريوليه، زوجة لويس أراغون، النص المؤثر الذي قدمت من خلاله الأعمال السردية الكاملة للزوجين العاشقين، بعد أن عقدا العزم على إصدار هذه الأعمال في طبعة مشتركة لكي تكون الكتابة جزءاً لا يتجزأ من سرهما المشترك، والتتويج الأسمى لعلاقة الحب التي جمعتهما معاً لعقود عدة. والواقع أن العلاقة التي جمعت بين الشاعر الفرنسي الشهير والكاتبة الروسية لا تندرج في سياق العلاقات العادية المألوفة بين الكتاب، خاصة في شقها الزوجي الذي يتحول في الأعم الأغلب إلى مسرح يومي للرتابة والتآكل والتكرار الممل، بل بدت في كثير من جوانبها بمثابة واحدة من الأساطير القليلة للوله والعشق والافتتان بالآخر. ولهذا السبب على الأرجح بدت تلك العلاقة النادرة عصية على الفهم، سواء من قبل معاصري الشاعر السوريالي على نحو عام، أو من قبل أترابه من الشعراء والفنانين الذين كانوا يقفون بمعظمهم، وبحكم نرجسيتهم الفاقعة، على الضفة «الفاسدة» من العلاقات.
قد يكون الحوار المطول الذي أجراه الناقد الفرنسي فرنسيس كريميو مع صاحب «مسافرو الإمبريال»، والذي صدر لاحقاً في كتاب مستقل بعنوان «محاورات مع أراغون»، هو أحد المصادر المهمة التي يكشف فيها هذا الأخير عن علاقته بإلسا التي لم يكسبها تقادم السنين سوى مزيد من الرسوخ والتوهج العاطفي. واللافت أن أراغون لم يكتفِ في هذا الحوار بإعلان انتمائه العميق للمرأة التي رأى فيها جوهر كينونته ومعنى وجوده، بل حرص دفعاً لأي لبس على تأكيد أن المرأة التي كرس لها قلبه وشعره وحياته هي امرأة اللحم والدم، أي إلسا تريوليه بالذات، التي لا تعني سوى نفسها، ولا تحتاج بالتالي إلى أن تكون قناعاً لفرنسا، أو رمزاً لمقاومتها الصلبة في وجه الاحتلال الألماني. صحيح أن الجمهور الواسع ليس باستطاعته تقبل مثل هذه الصورة المثالية التي يرسمها الزوج لزوجته، والتي تتحول في أوج الحرب إلى «نوع من الفضيحة»، كما يقول أراغون في رده على أحد الأسئلة، ولكنه ما يلبث أن يوضح أن مجاهرته العلنية بحبه لإلسا كان من بين أهدافها الرد على تدليس صورة المرأة في زمن الهيمنة الفاشية، والحث بالمقابل على تصحيح الخلل القائم في العلاقة بين الطرفين. على أن أراغون لا ينسب إلى نفسه مأثرة الوقوف بصلابة في وجه الاحتلال النازي لبلاده، ولا المأثرة الأخرى المتعلقة بتحويل الحياة الزوجية إلى مساحة من الحب والاحترام المتبادل والتقاسم المتساوي لأعباء الحياة. فهي من جهة أولى أصرت على رفض التخلي عنه، إثر صدور قرار من المقاومة الفرنسية -لدواعٍ أمنيةٍ- يقضي بضرورة انفصال أحدهما عن الآخر حتى نهاية الحرب، فيما تكفلت من جهة ثانية بنزع «نظارته الذكورية»، مخلصة إياه من «تعصب الرجل الذي يريد من المرأة أن تكون مجرد زوجته وظله».
وإذا كانت إلسا تريوليه قد ظهرت بشكل أو بآخر في معظم أعمال أراغون الروائية والشعرية، فإن «مجنون إلسا» لا يشكل ذروة هذه الأعمال فحسب، بل هو يعد في رأي كثير من النقاد أحد أكثر الأعمال الإبداعية فرادةً وثراءً في القرن العشرين، ليس فقط بسبب عبقرية الفكرة المؤسسة للعمل التي اتخذت من سقوط غرناطة الذريعة الملائمة لرفع راية الحب في الأرض، في بديل نموذجي عن التعصب الديني والعرقي والقومي، بل بسبب قدرة الكاتب الهائلة على دمج التاريخ بالأدب، والفلسفة بعلم الاجتماع، والسرد النثري بألق الشعر وفتنته وكشوفه. أما الشرارة الأولى التي أطلقت العمل، فقد كانت -وفق ما يخبرنا به أراغون- إحدى الأغاني الرومانسية التي تركت في نفسه أبلغ الأثر، والتي جاء في مقدمتها: «عشية سقطت غرناطة/ قال فارسٌ لجميلته...»، الأمر الذي حول الشرارة تلك إلى حرائق غير قابلة للتوقف في أعماق الشاعر الذي كان قد سمع للتو نبأ سقوط باريس في قبضة الاجتياح النازي.
لقد بدت تلك الكلمات المترعة بالشجن والدلالات الرمزية الموجعة بمثابة وداعٍ ما للعالم، يقول أراغون في مقدمة عمله الملحمي، ثم يضيف لاحقاً: «لقد قبضت على نفسي في سرقة موصوفة لبيتٍ من أغنية: عشية سقطت غرناطة. كما كان في الأغنية عندي سر آخر، حيث أقحمتني الكلمات درباً لم يكن في بالي، وتوحدت مع ملك تلك المدينة السحرية، هذا الأبو عبد الله الذي أدري جيداً كيف تسرب إلى أحلامي». وإذ يربط أراغون بين سقوط طروادة وسقوط غرناطة، يبذل خلال الكتاب كل ما في وسعه من جهد ليدحض عن أبي عبد الله الصغير فكرة الجبن والتخاذل التي ألحقت به، والتي تضافر على صناعتها الظافرون من الفرنجة الذين راحوا يكتبون التاريخ بمنطق الغلبة، والمغلوبون من المسلمين الذين كانوا في أمس الحاجة إلى كبش فداء نموذجي يبررون من خلاله وهنهم المطرد وانقساماتهم المزمنة خلال القرون الأخيرة من الحكم العربي للأندلس، وهي الصورة المزورة التي تم تلفيقها في ليل -وفق أراغون- ومن ثم نسبتها إلى عائشة الثغري (أم أبي عبد الله) التي قيل إنها خاطبت ابنها المهزوم ببيت من الشعر هو أقرب إلى رصاصة الرحمة منه إلى أي شيء آخر:
ابكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجالِ
وفي كنف ذلك الفردوس المتهاوي الذي اسمه الأندلس، ابتكر أراغون شخصية المجنون النجدي الذي كان يذرع في أواخر القرن الخامس عشر شوارع غرناطة المحفوفة بالخوف والقلق على المصير، والذي مكنته مرآته العابرة للزمن من التنبؤ بظهور إلسا المنتظرة في لحظة ما من القرن العشرين. وإذ يربط أراغون بين اسم إلسا أو «إلزا» والعزّى التي كانت تُعبد في الجاهلية، كما يربطها باسم عزة حبيبة كثيّر العذري، ينسب إلى مجنون غرناطة قوله إن المرأة ليست مستقبل الرجل فحسب، بل هي مستقبل الإنسانية جمعاء والكوكب الأرضي برمته. كما يخترع الشاعر من عندياته شخصية زيد الفتي الذي يرى في المجنون معلمه ومرشده الروحي، والذي يساعده بعد سقوط غرناطة على التواري بعيداً عن عيون العسس ومحاكم التفتيش، إضافة إلى تدوين ما أمكن من هذيانات النجدي الذي يهتف بإلساه:
أحدثك تفرين / أتبعك تطيرين
عيناك بعيدتان عن حيث إنا
قلبك أغوته كلمات أخرى
تقولين أشياء مظلمة
على عتمة الأزمنة المضيئة
كما قبل أن يتفتح الورد
تكون شجيرة الورد براعم
وحيث تحطين يزهر كل شيء
يا إلسا التحولات
لقد بدا الشرق بالنسبة لأراغون بمثابة المنجم المتنوع غير المحدود الذي يرفد حبه لإلسا بكل ما يلزمه من براهين وذرائع ووسائل إقناع. فعلى المستوى اللغوي يستوقفه، من خلال قناعه النجدي، تضمّن اللغة العربية لفعلين واضحين يدلان على الماضي والحاضر، فيما يغيب الفعل الدال على المستقبل، ليصبح هذا الأخير حالة من أحوال المضارع، تُستخلص من سياق الجملة، أو من خلال الاستعانة بحروف الاستقبال التي تصل الواقعي بالغيبي، وتجعل من إلسا وجوداً مؤجلاً، ولكنه قابل للتحقق. وعلى المستوى التاريخي يستعيد أراغون أكثر تجليات الصحراء العربية صلة بإعلاء المرأة والتتيم بها، وصولاً إلى الهذيان والجنون الكامل. وعلى مستوى الكشف التأملي والروحي، يجد أراغون في التصوف الإسلامي المشرقي ما يساعده على تجاوز الوجود المادي الظاهر للمرأة التي يحب، لتتحول بالنسبة له إلى جزء لا يتجزأ من روح الكون وحركته المتناغمة. وإذ تتوحد هذه المستويات الثلاثة في لحظة تراجيدية مفصلية من التاريخ، يواصل أراغون نداءاته اللهفى على لسان المجنون:
غرناطة تموت
وقلبي متغلغلٌ فيها
يا نخلاً شاحباً ويا تدمر الجديدة
تتراءين في المستنقع العربي
بفعل السحر الرقيق
عند آخر شموس الأمراء
أطلبكِ من المستقبل /
فعودي إلينا منه يا حبيبتي
في آخر ساعات الإسلام
لعلي على ركبتيك
يا إلسا أسْلم الروح
إلا أن كل ما تقدم لا يحجب بأي حال مشروعية الأسئلة التي يثيرها بعضهم، حول ما إذا كانت العلاقة العاطفية الفعلية بين أراغون وإلسا تريوليه مطابقة لصورتها في مرآة الأدب، أم أن ما يصح على المتخيل الإبداعي لا يصح بالضرورة على الواقع؟ ومع أننا لا نعثر في سيرة الطرفين على ما يعكس تناقضاً صارخاً بين صورتي الحياة واللغة، فإن منطق الأمور يؤكد أنه يستحيل على الواقع المتحقق أن يطابق المحلوم بتحقيقه، وإلا لفقدت الفنون بوجه عام مسوغها وجدواها. وليس بالأمر المستغرب في هذه الحالة أن تكون العلاقة بين الزوجين قد واجهت كثيراً من المزالق والمطبات، شأنها في ذلك شأن سائر العلاقات اليومية الرتيبة بين الأزواج، إلا أن ما أسهم في تذليل تلك المطبات لم يكن الحب وحده على الأرجح، بل التحلق المشترك حول الكتابة، بصفتها طريقة لقهر الزمن، وإبعاد شبح الضجر، فضلاً عن تصميم الطرفين على أن يواجها معاً الأخطار التي تتهددهما بشكل شخصي، بقدر ما تتهدد البشر بشكل عام، خاصة في أزمنة الحروب الضارية وانعدام الأمان وتقلص مساحة الحرية.
قد يكون من حق القارئ، أخيراً، أن يتساءل عن السبب الذي منع إلسا تريوليه، وهي كاتبة روائية، من جعل أراغون موضع اهتمامها، أو واحداً من أبطال أعمالها السردية، وعما إذا كان الأمر يعكس تفاوتاً في منسوب الحب بين الطرفين. والواقع أن مثل هذه الإشكالية لم تغب عن بال الناقد الفرنسي فرنسيس كريميو الذي طرح على إلسا السؤال نفسه، دون أن تتحرج في ردها عليه من القول: «ليس لدي أي سبب، ولا أعرف أي طريق أسلك لأُدخل لويس فجأة في رواياتي». ولكي تخفف من وطأة الإجابة، أو درءاً لسوء الفهم، تميز تريوليه بين الرواية والشعر الذي يملك أكثر من سواه القدرة على البوح الغنائي والعاطفي، على أن السبب الأعمق الذي يقف وراء ذلك، والذي لم تكشفه الزوجة الكاتبة، يكمن في استمراء المرأة المعشوقة لفكرة تحويلها من قبل الرجل العاشق إلى أيقونة أو معبودة أرضية، وهو ما يُسند إلى العاشق المتعبد مهمة الكلام إفصاحاً عن الوله والتتيم، فيما التزام المعشوق بالصمت هو الشرط الإلزامي لوضعه في خانة الأسطورة. ولا يجافون الحقيقة بشيء أولئك الذين يرون أن إلسا لا تدين بخلود اسمها إلى كتاباتها الروائية «المتواضعة»، بل إلى كونها حبيبة أراغون وملهمته، والمحور الأساس الذي تدور حياته من حوله، والتي يصفها في إحدى قصائده بالقول:
«إنها المرأة الخالدة التي أنجبتُها للعالم / ومنها أولد».



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.