يزدي.. وجه إيراني متشدد في زمن الانفتاح

رئيس مجلس الخبراء الجديد يحذر دائمًا من خطر التلوث مع العالم الغربي

يزدي.. وجه إيراني  متشدد في زمن الانفتاح
TT

يزدي.. وجه إيراني متشدد في زمن الانفتاح

يزدي.. وجه إيراني  متشدد في زمن الانفتاح

تصدر إشارات متضاربة من طهران فيما يخص استراتيجيتها بشأن الاتفاق المرتقب والمتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. أسندت الولايات المتحدة سياساتها نحو إيران على أمل «التغيير الإيجابي» في ميزان القوى المحلي داخل النظام الحاكم الإيراني.. ولكن إلى أي مدى يعد هذا الأمل واقعيا؟ جاءت إحدى الإجابات عن ذلك التساؤل الاثنين الماضي عندما اجتمعت مجموعة مكونة من 80 من كبار ملالي السياسة الإيرانية خلف الأبواب المغلقة في طهران، وانتخبوا فيما بينهم رئيسا جديدا لتلك الهيئة الغامضة المعروفة باسم «مجلس الخبراء».
ولكن، قبل أن نعرف مقدار أهمية هذه الخطوة، دعونا نرَ ما الذي يفترض على المجلس المذكور فعله، ومن هو الرجل الذي سوف يترأس مجلس الخبراء في دورة العام المقبل.

يمتلك المجلس، الذي يتألف من 86 عضوا من كبار الملالي الذين يمثلون كل الأقاليم الإيرانية، سلطة تنصيب وعزل المرشد الإيراني الأعلى والإشراف على أدائه في منصبه، ومحاسبته ومساءلته حين الاقتضاء كذلك.
وفقا للدستور الخميني الإيراني، فإن المرشد الأعلى يمثل سلطة الله على الأرض ويتمتع بصلاحيات هائلة، وأكثر من أي رئيس دولة آخر في جميع أنحاء العالم. وكثير من مواد الدستور الخميني، المصادق عليه في عام 1979، توضح بجلاء أن المرشد الأعلى هو، أيضا، زعيم الملالي حول العالم، سواء ارتضوا بذلك أم لا.
من الناحية النظرية، على أدنى تقدير، يمكن للمرشد الأعلى ذي النزعة الخمينية تقرير ما هو من الإسلام وما ليس منه في أي وقت من الأوقات. وكل ما يصدر منه أو يقوله يعد من قبيل «فصل الخطاب» مما يعني «إغلاق باب المناقشة تماما»، ما لم، بطبيعة الحال، ينقض مجلس الخبراء قراره، وهو الأمر الذي لم يحدث قط حتى الآن.
ومن الناحية العملية، يسيطر المرشد الأعلى على خزانة أموال الجمهورية الإسلامية، وهي من أغنى الخزائن السيادية في جميع أرجاء العالم الإسلامي. (لقد أشرف المرشد الإيراني الأعلى خلال العقود الثلاثة الماضية على إنفاق ما يقرب من تريليون دولار من عائدات النفط الإيرانية). ويتعين على المرشد الأعلى التصديق النهائي على الميزانية الوطنية للبلاد، ويحتل منصب القائد العام للقوات المسلحة والقوات الأمنية في الدولة. كما يتعين حصول كل تعيين في منصب وزاري، أو حكومي، أو دبلوماسي، على موافقته الشخصية. وعلى الرغم من اعتلاء رئيس الجمهورية الإسلامية سدة الحكم بطريق الاقتراع العام بين الناخبين، فإنه لا يمكنه تولي مهام منصبه من دون صدور مرسوم موقع بذلك الشأن من قبل المرشد الأعلى.
وكما قال السيد رولان دوما وزير الخارجية الفرنسي ذات مرة في فترة الثمانينات، فإن المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية الإسلامية هو «كل شيء»، أما المسؤولون الآخرون فليسوا إلا لاعبين يؤدون أدوارا مثل الوزراء أو السفراء وخلافه.

هويات متعددة
لكن من هو الرئيس الجديد لمجلس الخبراء الإيراني؟
إنه آية الله محمد يزدي، وهو عضو بالمجلس يبلغ من العمر 84 عاما، وأحد ملالي الثورة الإيرانية البارزين، الذي تمكن من الجمع بين مهنة رجل الدين والشخصية السياسية رفيعة المستوى. يتمتع يزدي بشخصية متعددة الجوانب، فلقبه يشير إلى انحداره من أسرة تعود أصولها إلى مدينة يزد التاريخية العظيمة، التي تقع على حافة الصحراء الإيرانية، وهي آخر المدن الإيرانية اعتناقا للإسلام.
وحتى يومنا هذا، فإن مدينة يزد، حيث يوجد أكبر معبد للنار في العالم، تعتبر «المدينة المقدسة» من قبل أتباع الديانة الزرادشتية في جميع أنحاء العالم.
على الرغم من ذلك، فإن السيد يزدي، الذي ولد في مدينة أصفهان، لم يكد يعيش قبل أي وقت مضى في مسقط رأس أجداده. ومع ذلك، لا يمكن اعتباره أصفهانيا حقيقيا كذلك، نظرا لأنه إبان مرحلة المراهقة من عمره، قد انتقل إلى مدينة قم، وهي مركز الدراسات الدينية الشيعية، حيث تلقى تعليمه كي يصبح رجل دين شيعيا. وهناك، كان من بين أساتذته شخصيات دينية بارزة مثل آية الله الكلبايكاني، وآية الله المرعشي النجفي، وروح الله الخميني، المؤسس المستقبلي للجمهورية الإسلامية.
أكسبه عزوفه عن ربط هويته بأي مدينة أو إقليم بعينه اسما مستعارا وصفه خصومه فيه بالـ«شارد». ولقد انتخب عضوا في المجلس الإسلامي، وهو البرلمان الخميني. ويأتي أعضاء مجلس الخبراء من مختلف الأصقاع والأقاليم الإيرانية مثل مدينة قم المقدسة، ومن طهران العاصمة، وحتى من مدينة كرمانشاه، وهي مقاطعة كردية إلى حد كبير ولم يقم السيد يزدي بزيارتها ولا حتى على سبيل السياحة.
كان يزدي في الأربعينات من عمره حينما استولى الملالي على السلطة في عام 1979. ولم يكن عاقدا عزمه بشكل واضح على المسار الذي سوف ينتهجه في حياته المهنية، فقرر، عملا بالأحوط، أن يلعب مع كلا الفريقين؛ فعلى الجانب السياسي أصبح الرجل من الأعضاء المؤسسين وزعيما لرابطة رجال الدين المقاتلين، وهي مجموعة من الملالي الساعين إلى اعتلاء المناصب الحكومية الرفيعة. ثم أصبح قائما بأعمال إمام صلاة الجمعة في طهران، وتمكن من أن يكون عضوا في مجلس صيانة الدستور، وهو جهاز سيادي رفيع المستوى يملك حق الاعتراض على القوانين التي يمررها برلمان البلاد.
في الوقت ذاته، مع كل ذلك، استفاد الرجل من أهميته وبروزه الجديد في تأمين نفسه مدرسا للاهوت في مدينة قم المقدسة بهدف ترقية رتبته من «حجة الإسلام» إلى رتبة أرقى وهي «آية الله».
يتمتع يزدي ببراعة في إدارة حياته المهنية، حيث نجح في تأمين قطعة لنفسه من كل فطيرة من دون تعريض نفسه لسقطات وغدرات الصراعات السياسية. وعلى طول حياته الدينية والسياسية عقد صداقات مع الملالي الأصغر منه سنا، مثل: حجة الإسلام علي حسيني خامنئي، وهو آية الله العظمى المستقبلي، والإمام الأكبر، والمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية.

صداقة مثمرة
أمن استثمار الرجل لصداقته مع الخميني فوائد جمة له عندما عين في عام 1989، بعد وقت وجيز من وفاة الخميني، رئيسا للقضاء الإسلامي، وهو أحد أكبر خمسة مناصب في نظام الخميني الحاكم، وتولى السيد يزدي ذلك المنصب لمدة عشر سنوات.
يأتي فوز السيد يزدي الاثنين الماضي برئاسة مجلس الخبراء بمثابة مفاجأة كبرى لكثيرين، وعلى الأخص نظرا لأنه لم يلمح إلى أنه من بين المرشحين للمنصب حتى الساعة الأخيرة قبل بدء الجلسة المغلقة.
يقول المحلل الإيراني ما شاء الله شمس الواعظين، المقرب من المرشح المهزوم علي أكبر هاشمي رفسنجاني: «لم يكن ذلك متوقعا أبدا. لقد أصابني ذهول كبير إثر فوز السيد يزدي».
جاء فوز يزدي بتأثير ساحق؛ فقد حاز أصواتا تساوي تقريبا ضعف ما حازه السيد رفسنجاني، بواقع 47 إلى 24 صوتا، مما يؤكد فشل الحملة الانتخابية التي امتدت لشهور من قبل الفصيل الموالي لرفسنجاني لتعزيز مرشحهم ووصفه بأنه «الفائز الحتمي».
قال السيد يزدي إنه لم يعلن عن نيته للترشح لأي شخص كان حتى ميعاد بدء انعقاد الجلسة، مضيفا: «نظامنا يختلف تماما عن النظم المتبعة في الدول الكافرة، حيث ينظمون الحملات الانتخابية. في نظامنا يقترب الإمام الغائب من القلوب المؤمنة ويهديها إلى السبيل القويم».
تفيد تصريحات يزدي بأنه لم يخبر خامنئي حول نيته الترشح للانتخابات، فهل هذا معقول أو مقبول؟ قد نعجز عن الوصول إلى الإجابة الشافية.
ومع ذلك، يتفق أغلب المحللين على أن مرشح خامنئي لقيادة مجلس الخبراء كان آية الله محمود هامشي شهرودي الذي صمد خلال الجولة الأولى من التصويت، ولكنه قرر الانسحاب حينما بدا واضحا أنه لن يفوز خلال الجولة الثانية. وبالتالي، وحتى مع عدم حصول يزدي على الموافقة المسبقة من خامنئي، فمن الواضح بجلاء تحويل أنصار خامنئي أصواتهم ناحية السيد يزدي خلال الجولة الثانية من الاقتراع.
صارت سعادة خامنئي بفوز يزدي برئاسة المجلس واضحة للعيان يوم الثلاثاء بعد يوم من الانتخاب، من واقع تعليق المرشد الأعلى على نتائج الانتخابات؛ حيث قال: «تظهر الإنجازات الماضية والحاضرة لآية الله يزدي على أنه أبرز الشخصيات القادرة على تولي تلك المهمة التي اختير لها».
كما تبدو سعادة يزدي مضاعفة بذلك الفوز نظرا لأن رفسنجاني، وهو الرجل الذي هزم في الانتخابات، ظل واحدا من أقدم وألد أعداء يزدي السياسيين.
رغم الخلافات السياسية، فإن هناك نقاط التقاء مشتركة بين الرجلين؛ حيث ينتمي كل منهما إلى الجيل نفسه مع كون رفسنجاني أصغر من يزدي بعام أو اثنين. وكل منهما نشأ في أسرة زراعية من الأسر المتوسطة الغنية التي عاشت على حافة الصحراء الإيرانية الكبرى. (ومسقط رأس رفسنجاني يعود إلى بهرمان بالقرب من كرمان). كلا الرجلين يعتمر العمامة البيضاء، مما يدل على نقاء أصولهما الإيرانية. أما الملالي الذين يزعمون انتسابهم لأصول عربية عبر النسب بالأئمة الشيعة فيعتمرون العمائم السوداء. حاول كل من يزدي ورفسنجاني تأمين طريق سياسي - ديني مزدوج لنفسه. أما الخلاف الوحيد، فيكمن في أن يزدي شدد على الجانب الديني من حياته المهنية، بينما ركز رفسنجاني على المنحى السياسي منها.
ادعى يزدي لنفسه دائما الاحتفاظ باللقب الديني، بينما بدأ رفسنجاني في استخدام لقب «آية الله» قبل أكثر قليلا من عقد من الزمان. أما مزاعم يزدي الدينية فهي أكثر قبولا وتصديقا من رفسنجاني، وذلك لأن يزدي أشرف على دورة دينية في مدينة قم المقدسة، بينما لم يعمل رفسنجاني في التدريس الديني قط.

التجارة والفساد
يعد كل من رفسنجاني ويزدي من رجال الأعمال الناجحين، وتمكنا من تكديس الثروات الهائلة منذ قيام الثورة. وفي أوقات مختلفة نالت اتهامات الفساد كلا الرجلين؛ ففي عام 2009، وجه السيد محمود أحمدي نجاد، الذي تولى رئاسة البلاد، اتهاما على الهواء في مناظرة تلفزيونية إلى رفسنجاني وعائلته بالتصرف وكأنهم منظمة مافيا محلية، وزعم امتلاكه «جبلا من الأدلة» لتأكيد اتهاماته.. ولكنه لم يفعل. وقام الفصيل الموالي لرفسنجاني بالانتقام عندما قام عباس باليزدار، وهو عضو في اللجنة القضائية بالمجلس الإسلامي، بتوجيه اتهامات بالفساد وغسل الأموال إلى يزدي. ولكنه، أيضا، لم يتقدم بأي أدلة.
وحيث إن توجيه الاتهامات بالفساد ضد الخصوم السياسيين يعد من الممارسات الاعتيادية في أغلب دول الشرق الأوسط، فيجب ألا تؤخذ الاتهامات ضد يزدي ورفسنجاني بمزيد من الأهمية. المؤكد في الأمر، رغم ذلك، هو الاختلاف العميق القائم بين منهج كلا الرجلين حول دور الدين في السياسة. يبدو أن يزدي مقتنع بصورة أكيدة أنه ينبغي على السياسة، وكل شيء آخر في واقع الأمر، أن يكون في خدمة الدين، على الرغم من الرواية الرسمية المقدمة من قبل الجمهورية الإسلامية. وفي المقابل، يعتقد رفسنجاني أن الدين ينبغي أن يكون في خدمة السياسة. ومن زاوية يزدي، يجب أن ينشأ حكم الدولة من داخل المسجد. أما رفسنجاني، فيرى أن الدولة، خصوصا في «نسختها المحمدية النقية»، ينبغي أن تحتل مركز القيادة. كما أن هناك موضع خلاف وحيدا وأخيرا بين الرجلين.. يبدو أن رفسنجاني يأخذ جزءا كبيرا من الخطاب الديني للنظام الحاكم على محمل الجدية.. على سبيل المثال، فهو يتعامل من باب الاستعارة والكناية فقط مع المقولة الشائعة لدى الشيعة بأن الله قد خلق الكون بأسره لأجل «آل البيت»، أما يزدي، فيصر من خلال خطاباته وكتاباته على الحقيقة الحرفية للمقولة. بالنسبة إلى رفسنجاني، يعتبر الدين آلية من آليات السيطرة على الجماهير غير المتعلمين من خلال قواعد للسلوك تفرض عليهم فرضا من قبل الدولة. أما يزدي، فيعتبر أن الدين للجميع؛ المتعلم منهم والأمي، والغني منهم والفقير.
كثيرا ما ينظر إلى رفسنجاني باعتباره الأب الروحي للحركة الإصلاحية الإيرانية، حيث يفضل الانفتاح على العالم الخارجي ما دام ذلك لا يمثل تهديدا لقبضة الملالي على مقاليد السلطة في البلاد. تعلم الرئيس الأسبق اللغة الإنجليزية وأرسل أولاده للدراسة في الخارج، بما في ذلك كندا وبلجيكا وبريطانيا. وقاد رفسنجاني النظام الحاكم خلال فترتي رئاسته للجمهورية الإسلامية عبر عدد من العواصف الدبلوماسية مع الاتحاد الأوروبي في الوقت ذاته الذي كان يسعى فيه للحوار مع الإدارات الأميركية المتعاقبة.
وظل رفسنجاني على الدوام مهتما بتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية.

قناة سرية مع واشنطن
فتح رفسنجاني خلال فترة الثمانينات قناة سرية مع إدارة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان في واشنطن، وأرسل نجله مهدي ليعقد صفقة مع الجنرال أوليفر نورث الذي تولى منصب مستشار رئيس الولايات المتحدة لاحقا.
في المقابل، حذر يزدي دائما من «خطر التلوث» الناجم عن تفعيل الاتصالات مع العالم «الكافر».
عارض يزدي، بوصفه عضوا بارزا في «رابطة رجال الدين المقاتلين»، ترشح رفسنجاني في كلتا المناسبتين عندما انتخب الأخير رئيسا للبلاد. وفي وقت لاحق، عارض يزدي أيضا الترشيحات الرئاسية لكل من محمد خاتمي، وحسن روحاني، الذي ينظر إليه الملالي من الصف الثاني على أنه محسوب على الفصيل الموالي لرفسنجاني. ما لعب يزدي دورا مؤثرا في التصويت لترشح رفسنجاني للحصول على مقعد في المجلس الإسلامي، وفي الآونة الأخيرة، رئاسة الجمهورية. يقول المحلل الإيراني أحمد خفراني: «ليس الدين إلا صفقة تجارية بالنسبة إلى رفسنجاني. أما بالنسبة إلى يزدي، فإن عمله هو الدين». ساند يزدي، خلال الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل في عام 2009، المرشح محمود أحمدي نجاد، بينما ألقى رفسنجاني بثقله داعما للمرشح مير حسين موسوي، خصمه السابق. وعندما زعم المرشحون الخاسرون بوقوع عمليات تزوير واسعة النطاق، أيد رفسنجاني مزاعمهم بينما وصفها يزدي بأنها جزء من الفتنة التي أشرفت عليها إسرائيل والولايات المتحدة. إن دل كل ذلك على شيء، فهو يدل على أن الخيار الذي تعامل معه مجلس الخبراء كان خيارا واضحا بين استراتيجية إغلاق فصل الثورة الإسلامية لصالح التطبيع في الداخل والخارج من ناحية، واغتنام الفرصة لإقامة «قوة إسلامية عظمى» تقودها إيران من ناحية أخرى.
في حين أن خطابات رفسنجاني يملؤها الرثاء حول المخاطر التي تواجه النظام الخميني، لا تزال لهجة يزدي تعلو بالظفر والانتصار. ويحذر رفسنجاني من أنه ما لم تغير إيران مسارها، فإنها لا تتجه إلا صوب المتاعب بكل تأكيد.
في المقابل، يصر يزدي على أن خصم إيران الحقيقي والوحيد، الولايات المتحدة الأميركية، تعاني من انهيارها الأخير، وأن انتصارات الجمهورية الإسلامية الباهرة في لبنان وسوريا والعراق واليمن تشير إلى تحول استراتيجي في موازين القوى على المستوى الإقليمي، على أدنى تقدير.
من المثير للاهتمام، التفاف الملالي الأكثر تطرفا حول عباءة يزدي، من ذوي العيون اللامعة إثر الهيمنة الإيرانية الموعودة على منطقة الشرق الأوسط.

انتصار مباغت
بالتالي، قد يظهر يزدي بوصفه حالة وسطا بين رفسنجاني، داعية التسوية والتطبيع، وآية الله محمد تقي مصباح يزدي الذي يدعو إلى «تصدير الثورة الإسلامية» إلى كل الدول ذات الأغلبية المسلمة. (لا تربط مصباح يزدي علاقة بمحمد يزدي). ولكن، ما أهمية انتصار محمد يزدي المباغت؟
يميل المحللون المؤيدون لرفسنجاني إلى التقليل من أهمية انتخاب يزدي استنادا إلى حجتين: لأولى، التي يعرضها صادق زيبا كلام، وهو كاتب عمود صحافي في صحيفة «الشرق» اليومية الموالية لرفسنجاني في طهران؛ حيث يدفع بأنه قد تم انتخاب يزدي لعام واحد فقط، حيث إن مجلس الخبراء بكامله سوف يخوض انتخابات جديدة على مستوى الأعضاء بحلول فبراير (شباط) 2016.
وأضاف: «لا نعلم لمن ستكون الأغلبية في انتخابات العام المقبل، ولن يكون من قبيل الحكمة شطب اسم رفسنجاني». أما رفسنجاني ذاته فقد ذهب إلى أبعد من ذلك لما زعم أنه مستمر في ممارسة «نفوذه الحقيقي» على المجلس؛ حيث قال الأسبوع الماضي إن «المهمة الحقيقية للمجلس هي اختيار المرشد الأعلى المقبل وقتما تسمح الظروف بذلك. وفي مثل تلك اللحظات، سأقول كلمتي بصفتي عضوا في المجلس. ولست في حاجة لأن أكون رئيسا للمجلس لكي أدلي برأيي». غير أن معلقين آخرين، رغم ذلك، اعتبروا تحليل رفسنجاني للوضع بأنه من قبيل الأمنيات الحالمة. يقول حسين راسم، وهو محلل سياسي سابق لدى السفارة البريطانية في طهران إن «الرسالة الرئيسية لتلك الانتخابات تكمن في رفض الصقور تخفيف قبضتهم على السلطة في أجهزة الدولة الرئيسية. وحينما يأتي اليوم، فإن فرص اعتلاء خليفة متشدد لآية الله خامنئي سدة الحكم في البلاد، «تستمر قوية حتى الآن». يعتبر انتخاب محمد يزدي، وبصورة أكثر إلحاحا، من قبيل الانتكاسات لسياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما حول إيران، التي تستند إلى مساعدة من يوصفون بالمعتدلين على إحكام السيطرة على كل مقاليد السلطة في طهران وتوجيه مسار الجمهورية الإسلامية تدريجيا نحو الحياة الطبيعية.
لمح أوباما إلى أنه يعتقد أن مثل ذلك المسار قد يستغرق 10 سنوات ليكتمل، وهي الفترة ذاتها المحددة للاتفاق النووي الذي يجري التفاوض بشأنه مع طهران.
خلال ذلك العقد من الزمان، قد يكون خامنئي، البالغ من العمر 76 عاما ويقال إن حالته الصحية معتلة، خارج المشهد السياسي أو يدفع إلى مغادرته من قبل الفصيل الموالي لرفسنجاني. تعود مصادر الشائعات واسعة الانتشار حول «الوفاة الوشيكة» لخامنئي، إلى شخصيات وثيقة الصلة بفريق رفسنجاني، وهي تكهنات حول عواقب إجراء خامنئي جراحة سرطان البروستاتا.

سيناريو التغيير
يبدو السيناريو الذي يحاول الفصيل الموالي لرفسنجاني بيعه لباراك أوباما على هذا النحو: يسيطر رفسنجاني على مجلس الخبراء وبالتالي يعقد السيف المسلط على عنق خامنئي. وفي عام 2016، يفوز فصيل رفسنجاني بالأغلبية في انتخابات كل من مجلس الخبراء والمجلس الإسلامي في حين لا يزال يقبض على زمام السلطة في مؤسسة الرئاسة من خلال حسن روحاني المحسوب على فصيل رفسنجاني.
أعرب رفسنجاني علنا في أكثر من مناسبة أنه دائما ما يفضل نظام القيادة الجماعية؛ حيث تكون وظيفة «المرشد الأعلى» للجمهورية الإسلامية موزعة بين 3 و5 من الملالي بدلا من واحد. من شأن ذلك الإصلاح أن يعمق من مكانة الرئيس المنتخب عن طريق السماح له بالعمل بصفته رئيسا حقيقيا للسلطة التنفيذية في الحكومة، وفي الوقت ذاته السماح أيضا للمجلس الإسلامي (البرلمان) بالعمل بصفته سلطة تشريعية حقيقية وليست مصطنعة. كما يجري دمج مجلس صيانة الدستور مع مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي ظل رفسنجاني رئيسا له لما يقرب من 20 عاما.
طالما نظر أنصار رفسنجاني إليه باعتباره النسخة الإيرانية من الزعيم الشيوعي الصيني دينغ شياو بينغ الذي ساعد في قيادة جمهورية الصين الشعبية إلى الخروج من الأزمة الثورية في اتجاه الحياة الطبيعية على الصعيد السياسي والتنمية الاقتصادية. كثيرا ما سلط رفسنجاني الضوء على نزعته البراغماتية، مشيرا إلى استعداده للتضحية بالآيديولوجية في مقابل الحفاظ على ممارسته للسلطة. في عام 1989، حينما جرى انتخابه رئيسا للبلاد، بعد وقت وجيز من وفاة الخميني، فاجأ كثيرين بقوله إنه مع كثير من الملالي السياسيين «على استعداد لنزع عباءاتهم التقليدية وارتداء الملابس العادية إذا كان ذلك ضروريا ويصب في خدمة الشعب الإيراني».
كتب رفسنجاني بنفسه السيرة الذاتية لأحد رؤساء الوزراء الإيرانيين من القرن التاسع عشر ويدعى ميرزا تقي خان أمير كبير، الذي يعتبره أنموذجه السياسي المثالي. ومن الأعمال البارزة التي يذكر بها أمير كبير كانت محاولته تقديم العلوم وقواعد الحكومات الغربية إلى قاجار إيران في وجه المعارضة الشديدة من جانب الملالي الرجعيين. وبدلا من محاولته تأسيس شخصية دينية لذاته، استخدم رفسنجاني وسائل الإعلام في الترويج لنفسه تحت اسم «جنرال البناء»، مؤكدا على التنمية الاقتصادية بدلا من التقوى الدينية.
وهكذا، يشمل سيناريو رفسنجاني حول التغيير، انخفاضا تدريجيا في النغمة الدينية للنظام الحاكم لصالح الخطاب الجديد الذي يعنى بالنمو الاقتصادي، والتقدم العلمي، والإصلاح الاجتماعي.
أما يزدي، على الناحية المعاكسة، فيعتقد أن خفض وتيرة الثيمات الدينية يمكن أن يؤدي إلى سقوط حتمي للنظام الحاكم.
إذا كان الناس يسعون وراء النمو الاقتصادي والإنجازات العلمية، فلماذا ينبغي الحصول عليها من الملالي بدلا من خبراء الاقتصاد والعلماء؟
على أي حال، فإن المهم بالنسبة ليزدي، وقبل كل شيء، هو بناء مجتمع يستند على القيم الدينية وتحكمه الشريعة الإسلامية (القانون الإسلامي)؛ حيث قال: «إننا لم نقم بالثورة من أجل الأسباب الاقتصادية؛ بل اندلعت ثورتنا على أيدي أناس متعطشين للإسلام»
عانى سيناريو رفسنجاني دوما من عدد من العيوب.. أولا، ليس هناك ما يضمن سهولة إقصاء خامنئي عن واجهة المشهد في إيران. ووفقا لكل الروايات، لا يزال الرجل أبرز الشخصيات وأكثرها شعبية في النظام الإيراني الحاكم وبشكل متزايد داخل دائرة الدعم الضيقة حوله. وفي أي انتخابات يجري تنظيمها على يد النظام الحاكم وبالتالي تعتبر مغلقة في وجه الغرباء، فإن خامنئي أو أي شخصية يؤيدها سوف تفوز بتلك الانتخابات ضد أي شخصية أخرى مدفوعة من قبل فصيل رفسنجاني.
كذلك، ليس من سبب يدعو إلى عدم نجاة خامنئي من جراحة سرطان البروستاتا، فإذا ما قدر له طول العمر مثل سلفه الخميني، فلا يزال أمام خامنئي ما لا يقل عن 10 سنوات في الحكم، وهي الفترة ذاتها التي تصورها الرئيس أوباما في مسعاه لعقد اتفاق مع الملالي.
يعتقد المحلل الإيراني حميد زمردي أن انتخاب محمد يزدي يوم الاثنين الماضي يظهر أن العجلة الأولى من آلية التغيير التي يقودها رفسنجاني قد انفرط عقدها، ويقول: «حتى مع دعم أوباما لموقف فصيل رفسنجاني عن طريق منحه مظهرية (الانتصار الدبلوماسي)، فليس من ضمان بأن العجلات الأخرى لآلية التغيير المتداعية سوف تأتي بجديد في انتخابات عام 2016».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.